لا تقوم المعارضة السليمة على مجرد إعلان، أو بيان رفض سياسات حاكم ما، أو حكومة ما، وإنّما هي موقف إنسانيّ ورجوليّ وأخلاقيّ قد يكون ثمنه باهضاً في الأرواح والحرّيّات والسمعة.
والمعارضة ليست رحلة سياحيّة، أو (نزوح) من بلاد لأخرى، بل نقطة بناء لمرحلة مستقبليّة، ودرجة من الوعي الإنسانيّ والوطنيّ والفكريّ البعيد عن الأنانيّة والمطامع، وهي حقّ تكفّلته القوانين السماويّة والأرضيّة، شريطة أن تكون معارضة مثمرة، وليست عبثيّة، أو سلبيّة!
إنّ الاستياء من الظلم والخراب حقّ يرتبط ارتباطاً مصيريّاً بحقوق الحياة والحرّيّة والكرامة، أو كما تؤكّد الأدبيات السياسيّة فإنّ بيان الآراء المعارضة مرتبط بمفاهيم الديمقراطيّة والحرّيّة الشخصيّة وغيرها من المبادئ المكفولة بموجب الدساتير والقوانين الإنسانيّة العالميّة، والأنظمة التي لا تقبل بالمعارضة (الحكيمة) هي أنظمة وحشيّة ودكتاتوريّة!
ويفترض بالمعارضة أن لا تكون مثاليّة وخياليّة وعشوائيّة وبلا ضوابط، بل يجب أن تكون واقعيّة، ولصيقة بالناس، وإلا فإنّها ستكون معارضة لا أرضيّة لها، وهذا من أسباب ضعفها، وربّما، حتّى ضمورها!
وبعد الانقلاب الشامل في عموم العراق في العام 2003 وتنامي أدلة الضياع والفوضى في البلاد، صرنا أمام قوى تضمّ شخصيّات نقيّة وأصيلة، وعرفت باسم (قوى المعارضة، أو المناهضة)!
وبقيت تلك القوى تعمل بتنسيقات بسيطة، وغير واضحة، وقد سعت لترتيب أوراقها، واجتمعت في المملكة الأردنيّة، نهاية تمّوز/ يوليو 2014، إلا أنّ اجتماعها لم يثمر عن صيغة ملبية لطموحات هذه القوى، والتي تُعدّ بالعشرات!
وبعد العام 2014 لم يجد جديد إلا في هذا الصدد؛ وبما يمكن أن يكون خيمة لقوى المعارضة، عدا مشروع (العراق الجامع) الذي طرحته هيئة علماء العراق عام 2015م، وتعرض لظروف خاصة، دفعت الهيئة إلى طرح مشروع (الميثاق الوطنيّ العراقي)، وكذلك كانت هنالك مشاريع أخرى ومنها مشروع الجبهة الوطنيّة العراقيّة.
صفوف المعارضة العراقيّة الآن بحاجة إلى حقنة تماسك وتكاتف قبل فوات الأوان، فالعراق يعيش حالياً في مرحلة غليان ثوريّ، فضلاً عن الخلل البنيويّ الواضح في العمليّة السياسيّة التي تعدّ جرعة كبيرة لقوى المعارضة لترتيب صفوفها، وتفعيل البرنامج الوطنيّ النهضويّ، الذي طرحته مرارًا وتكرارًا، ولكنّها لم تجد البيئة المناسبة لتطبيقه، أو التعاون العربيّ والإقليميّ والدوليّ الكفيل بتحقيق أهدافه.
يُعدّ الخلل البنيويّ الواضح في العمليّة السياسيّة ببغداد جرعة كبيرة لقوى المعارضة لترتيب صفوفها، والتسامي على خلافاتها، ولهذا فالمعارضة اليوم بحاجة إلى:
العمل على تفعيل البرامج الوطنيّة النهضويّة المتماسكة، والتي تتضمن المقدار الأكبر من نقاط الالتقاء، وقائمة على وحدة الوطن وحفظ كرامة الإنسان وحرّيّته وحقوقه، ومعارضة أيّ قوانين تنتهك هذه المبادئ الأصيلة.
تخليص المسيرة من بعض الأصوات غير المتعاونة، وغير العاملة بجد.
تفعيل ما تمّ التوافق عليه من أعمال مشتركة فيما مضى، وكشف المتردّدين وعدم المتفاعلين معها؛ لتنقية العمل الوطنيّ استعدادًا للمرحلة المقبلة.
كشف اللّبس الحاصل في بعض العناوين التي تحمل وصف العمل الوطنيّ، وتخالف قواعده ومحدداته حينما تدخل في مشروع الاحتلال، أو تتماهى معه.
تنظيم مجلس تنسيقي مصغّر من الشخصيّات المؤثّرة والفاعلة، ومعلن ليكون الواجهة للتحرّك باسم المعارضة.
تشكيل لجان سياسيّة وقانونيّة واجتماعيّة وغيرها لتكون النواة الصلبة للمرحلة المقبلة!
التركيز على أن المعارضة لا تهدف لتدمير الدولة وإنّما غايتها العمل على انضاج العمل السياسيّ والرقابيّ وتصفية الساحة من القتلة والمجرمين عبر قوّة القضاء التي لا تميّز بين المسؤولين بأيّ عنوان كان، أو منصب!
والحقيقة إنّني متفهّم للصعوبات التي تقف دون تحقيق هذا الحلم بسهولة، لكنّ كلامي هنا دعوة لترتيب أوراق القوى الوطنيّة، والعمل على التنسيق الجادّ بين تلك القوى أولاً، والتواصل مع المعارضين في الداخل ثانياً، والترتيب مع الحالتين الإقليميّة والأجنبيّة ثالثاً من أجل خلاص العراق من واقعه المرير!
لنتآزر من أجل العراق قبل فوات الأوان، وساعتها لا تنفع أيّ تجمّعات وكيانات خارج اللعبة السياسيّة الصحيحة، فالمعارضة من أساسيّات العمل الديمقراطيّ الذي يدّعون أنّه يُسيّر الدولة العراقيّة حالياً، وعليه كيف يتحدّثون بالديمقراطيّة ويحاربون المعارضة السلميّة، في الداخل والخارج، وبأقسى أنواع وصور الحقد والكراهية للإنسان والحياة؟!
وقد أثبتت التجارب الإنسانيّة الناضجة والحكيمة أنّ المعارضة السياسيّة أداة ضروريّة وفاعلة لتأسيس وبناء نظام حكم نقي، ومتماسك وقادر على العطاء والبناء، ولا يمكن تصوّر أيّ نظام سليم دون معارضة قويّة وناضجة، أمّا المعارضة الزائفة فهي من الآفات الضاربة للوطن، وللإنسان، وإن ادّعت أنّها من المعارضة!
@dr_jasemj67