هل يكون رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، راغبا حقاً في انتشال الوطن وأهله من الوضع البائس الموبوء الحالي، وإعادة الحياة إلى هيبته المصادرة ، وسلطةِ القانون المنتهكة إلى قضائه، والازدهار إلى اقتصاده المختل؟ ربما. ولكن الوقائع المسجلة لدينا عليه، من قبل موافقة أحزاب السلطة على تنصيبه رئيسا للوزراء، وبعدها، لا توفر البيئة المناسبة لتصديق خطابه الأخير، خصوصا وهو يتحدث عن عدم رغبته في خوض الانتخابات المبكرة القادمة ودخول نادي سلطة الأحزاب الحاكمة بأصوات الناخبين المؤمنين بقيادته، وليس بتوصية من قاءاني أو من السفير الإيراني في بغداد.
فالحقائق تقول غير ذلك. فهو كان مديراً لجهاز مخابرات نظام (التأسيس الخطأ)، من أيام حيدر العبادي الذي وهبه المنصب بترخيص من الراحل قاسم سليماني، ثم استمر فيه في عهد عادل عبد المهدي الذي امتدحه في يوم توديعه وزكاه من الفساد والفشل ومن قتل المتظاهرين.
والثابت والمعروف أن العراق، منذ وزارة نوري المالكي الأولى، أصبح ولاية إيرانية خالصة مملوكلة بالكامل للحرس الثوري، وبالتحديد لفيلق القدس ولقائده قاسم سليماني وأعوانه العراقيين.
ولأن الصيغة الثابتة لطبيعة عمل أي جهاز مخابرات في العالم هي جمع المعلومات السرية عن الدول الصديقة والعدوة معا، والتجسس عليها وعلى أحزابها وأشخاص حكوماتها، فإن منصب رئيس جهاز بهذه الخطورة والحساسية في العراق الإيراني قد يعني الكثير جداً لقاسم سليماني، وربما أكثر من منصب رئيس الوزراء نفسه. فهو حين يوافق على تنصيب رئيسٍ لهذا الجهاز فإن من تحصيل الحاصل أنه لم يعينه اعتباطا، وارتجالا وبلا دراسة وتدقيق وتمحيص، بل لأنه تأكد من أنه الشخص المناسب في المكان المناسب وفي الزمن المناسب أيضا، وموضع ثقته الكاملة، والمؤتمن، والمستبعد عنه تماما أيُّ خوف، ولو بأقل من القليل، من أنه قد يخون الأمانة في يوم من الأيام.
ثم جاءت تحركات الكاظمي وتصريحاته وزياراته وقراراتُه كلها، منذ أول يوم من رئاسته، وحتى يوم خطابه الأخير، لتؤكد أن الرجل أمين، فعلا، على ما ائتُمن عليه.
ولا يشك أحد في شطارة الإيرانيين واتباعهم العراقيين في ضبط أمور التعيينات في الوظائف الصغيرة قبل الكبيرة لضمان أمنهم واستقرار احتلالهم.
فإذا كان الذي يمسح حذاء رئيس الجمهورية، أو رئيس البرلمان، صباح كل يوم، مُنسَّبا من قبلهم فمن المؤكد أن يكون مدير مكتبه ومعاونوه ومرافقوه من نفس الطينة وبنفس الواصفات.
وطبيعي جدا أن يكون مصطفى الكاظمي، نفسُه، محاطا، أكثر من رئيس الجمهورية ومن رئيس البرلمان، بالمعاونين والمخبرين وأفراد الحماية والمرافقين المُنسبين من قبل نفس تلك الجهات المكلفة، إيرانيا، بأن تسدَّ أيَّ باب تجيء منه ريح لا تسرُّ ولا تريح.
والآن ندخل إلى تفاصيل خطاب الكاظمي الأخير الذي ألقاه على وزرائه لكي نُقلبه ذات اليمين وذات الشمال، ونخرج منه بالمفيد.
ففي الخطاب مسألتان محوريتان ينبغي أن نتوقف عندهما بعناية. الأولى قضية الفساد القديم والرغبة في الخروج منه، والثانية مقارنته الضيزى بين العراق وبين كوريا الجنوبية وسنغافورة والإمارات.
فعن المسألة الأولى قال: “منذ عام 2003 نعاني من التأسيس الخطأ الذي يهدد النظام السياسي والاجتماعي بالانهيار الكامل“. و”العراق يواجه انهيار النظام والدخول في فوضى عارمة ما لم يدخل في عملية قيصرية للإصلاح”، و”غير معقول أن نخضع لمعادلة الفساد السابقة. إما أن ندخل مغامرةً ونصحح، أو نضحك على الناس ونعطيهم مورفين“.
لكأنه يريدنا أن نصدق كونه لا يعلم بأن هذا (التأسيس الخطأ) وتعميقه والمحافظة كان أحد أسلحة قاسم سليماني التي استخدمها مع سبق الإصرار والترصد لتركيع الوطن العراقي وأهله، وأن أية إرادة أخرى لاجتثاثه وتحرير المستعمرة العراقية من حباله الخانقة تُعد معاديةً لدولة الإمام الخميني ولله ورسوله والمؤمنين.
وهو، في هذه، إما أن يكون في حالة صحوة ضمير متأخرة حقيقية، ولكن في الوقت الضائع، أو يكون متعمدا تمثيل دور البطل الثائر على الفساد وأهله، والمُبرأ من مسؤولية وجود ذلك (التأسيس الخطأ)، وهو الذي كان، وما زال، جزءاً مفصليا فيه من قبل سقوط النظام السابق، أو على الأقل منذ أن تكرم عليه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي فوضع بين يديه جهاز المخابرات الأخطر على نظام (التأسيس الخطأ) من داعش أو من أمريكا أو من البعثيين.
وحين نتذكر تزكيته لوزارة عادل عبد المهدي، وعلاقته الحميمة بحيدر العبادي، ثم زياراته المتكررة لمُحرك الفساد الأوتوماتيكي، نوري المالكي، نكتشف أن هذا الرجل لا يستحي ولا يعني أية كلمة من كلمات خطابه الأخير عن الفساد وعن أيامه ولياليه.
أما المسألة الثانية فهي تلك التي تحدث فيها عن كوريا الجنوبية وسنغافورة ودولة الإمارات العربية المتحدة.
فمقارنتُه العراق بهذه الدول الثلاث تقول لنا، وبالقلم العريض، إنه ما زال يعيش في أجواء المقاهي السابقة في أربيل والسليمانية وطهران ولندن ودمشق، ناسيا أنه الآن نوري السعيد موديل 2020 الملم بدقائق حقائق الجغرافيا والتاريخ، والذي يزن كلماته بميزان الذهب والفضة، ولا ينطق عن الهوى.
فكوريا الجنوبية مثال نادر وناجح لشعب استخدم عقله وليس هواه. فقد اختار التحالف الكامل مع أمريكا، وترك لجيوشها أن تحمي حدوده ليأمنَ شرور أعدائه الجيران والأشقاء، ثم فتح بلاده لرؤوس أموالها وعقول رجالها ونسائها وتفرغ للعمل والإنجاز لكي يحقق حلمه الأقرب إلى المستحيل بأن يتحول، من الفقر والضعف والتخلف، إلى أهم دول الصناعة العالمية، وإلى أحد أصحاب الاقتصادات الإسمنتية الراسخة. وقد كان.
ثم إن كوريا الجنوبية ليست لها جارة كإيران، وليس فيها حشد شعبي، ولا نوري مالكي وقيس خزعلي وفالح فياض، ولا عمائم نائمة في عسل الماضي وخرافاته وأساطيره وتأمر وتطاع. فكيف غاب كل ذلك عن ذهن رئيس الوزراء؟
أما الإمارات فإن الفرق بينها وبين عراق مصطفى الكاظمي هو الفرق بين الأرض والسماء. بين وطن يبني كل يوم جسرا جديدا وعمارة جديدة ليسعد أهله، وبين وطن يقتل أطفاله ونساءه وشيوخه، جوعا وفقرا وبطالة.
وبين وطن ينفق أمواله على صحتهم وتعليمهم وحماية أمنهم، وبين آخر يختلس حكّامُه أموال شعوبهم، ويبيعون أوطانهم لكل غاز ومحتل، ويقتلون علماءها ومفكريها وخبراءها ومبدعيها، ويطردون مَن لم يمت منهم في سجونهم أو على أيدي جلاديهم ومختطفيهم وشبيحتهم، وينثرونهم لاجئين ومهجّرين وشحاذين على أبواب البلاد القريبة والبعيدة.
ثم ختم رئيس وزرائا خطابه الأخير قائلا: ” المطلوب منا ألا نكون خائفين، والخائف ليس مكانُه في مجلس الوزراء، بصراحة”. “يجب أن نكون على قدّ المسؤولية، هاي قضية تاريخية مفصلية”. الخشية من أن يكون هو نفسُه “مكانُه ليس في مجلس الوزراء، بصراحة”.