في لحظة الإستراحة من البؤس كنت أجلس مساءا في مقهى صغير للعراقيين في السيدة زينب – دمشق ، أمضيت أكثر من ( 6 ) سنوات في سوريا ولم أستطع شراء تلفزيون أسود وأبيض مستعمل بسعر مايعادل ( 60 ) دولارا بسبب الفقر الشديد مما يضطرني أحيانا الذهاب الى المقهى لمشاهدة التلفزيون لبعض الوقت والعودة الى غرفتي التي إستأجرتها بما يعادل ( 20 ) دولارا .
الإفلاس جعلني أتردد على دائرة البريد بإستمرار في دمشق .. إذ من ليس لديه عنوان أو صندوق بريد توجد خدمة وضع عنوانك على شباك البريد والموظف يسلمك الرسائل عند وصولها ، كنا مجموعة غرباء عرب نتردد على شباك البريد الذي أصبح رمز الأحلام والأمل المنتظر .. كان رجائي معلقا على وصول الرسائل لعل شخصا ما ممن راسلته من اللاجئين العراقيين في أوروبا يبعث بمبلغ من المال ، كانت موظفة شباك البريد تعرف اسماؤنا من كثرة التردد والإستفسار عن الرسائل ،أحيانا تواسيني قائلة : (( ليه خضر مافي حدا يبعثلك رسائل ؟)) فأنسحب من امامها وغصة الحزن تغمرني من الخيبة من ذلك الشباك الشاهد على متاعبنا !
وجدته قربي جالسا في المقهى ، وبدأ الحوار العراقي التقليدي وعادة مايكون مستهله شتم أحزاب المعارضة ، ثم الكلام عن اللجوء ، كنت أقاوم سيطرة إستعباد فكرة السفر الى دول اللجوء المدمرة لكيان الإنسان المفلس ماليا ، لاأعرف هل هي إرادة مني .. أم لاأبالية .. أم إنكار للواقع السيء والمجهول الذي كنا نعيشه في سوريا ؟ كان لاجئا عراقيا أدهشني انه أنفق حياته في طلب المعرفة ولم تسرق التفاهات عمره ، وأقصى من حياته فكرة الصراع بكافة أشكاله .. لقد حسم أمره من الوجود : (( لاشيء يستحق ان تجعله نداً لك وتصارعه في ظل بشاعة زحف الموت علينا !))
عرفت فيما بعد انه ظل يطرح الأسئلة على نفسه والحياة والكون بلا توقف ، ليس بقصد إستخراج الإجابات وتخزينها في الذاكرة لإستعراضها امام الناس بغية إنتزاع إعترافهم بذكائه وثقافته ، بل كان يسعى للفهم والتخلص من الأوهام وإفساح المجال للحقيقة في وعيه ، قال : انه حاول وهو ينتظر الموت الذي لابد منه محاربة الضجر والشعور بالإكتئاب عن طريق التشاغل في إستعمال علاج طرح الأسئلة الوجودية والقراءة وتجاوز الحياة دون الإكتراث لها مادام غير قادر على الإنتحار !
فاجأني في أحد الأيام عندما طلب مني التخلص من حسياسيتي الزائدة في الحوار معه ، قال لي : (( من حقك طرح أي موضوع أو سؤال )) إستغربت من ذلك الكرم النادر ، وأجابني بأن العدالة بالنسبة له موقف مبدئي ، ومن باب إحترام الذات يفرض على نفسه العدالة والمساواة في الحوار مع الناس ، مثل لي لحظتها كلامه صدمة حضارية ، ففي المجتمع العربي – الشرقي تستمد الذات كيانها وقيمتها من الكلام مهما كان تهريجيا عدوانيا مبتذلا .. المهم ان يجسد العربي والشرقي ذاته بالكلمات ويشعر بالبطولة عندما يفترس الآخر الذي ليس يالضرورة ان يكون خصمه لكنه يريد إستثماره في الحصول على الإعتراف منه بمزايا الذكاء وقوة الشخصية وموهبة الخطابه ، فالمجتمعات التي تعشعش فيها الأمراض النفسية والعقلية لا تستطيع إقامة علاقات إجتماعية سوية قائمة على الأخذ والعطاء والندية والمساواة والإسترخاء بالمعنى العقلي والروحي.
أذهلني تمرده على الثوابت ، كنت حينها متدينيا أختبيء داخل كهف سكونية الأفكار الجاهزة التي يقدمها لي الدين ، وأعيش في كنف الله الذي كان الأب الرمزي الأكبر لي ، أدخل الى ساحة قدسيته كل يوم أثناء الصلاة حيث أشعر بالامان والرعاية والأمل الذي لم يتوقف ، كان الإيمان بوجود الله الحامي والراعي الحنون علاجا رائعا للفقر والتعاسة والأحزان … من قال ان الاوهام ليست مفيدة للبشر ؟ .. سألته : (( ألا تخاف من حياة مابعد الموت لو مت وأنت بعيدا عن التدين ؟)) كنت أخجل وصفه بالملحد فأستعمل لغة دبلوماسية : الإبتعاد عن الدين ، أجابني (( عندما تقودك فكرة مقنعة حول بطلان المعتقدات بخصوص الأديان والله … ستطرد هذه الفكرة مشاعر الخوف من عذاب نار جهنم ، والشخص المتدين من يقوده مشاعر الخوف وليس عقله المنطقي )) .
ألح عليه بعض أصدقاءه للسفر الى دول اللجوء ، وبعد حصوله على جواز سفر مزور وبعض المال ، ألقيّ عليه القبض من قبل سلطات المطار في دمشق وسجن وعُذب حوالي ثلاث سنوات ثم أُبعد الى الحدود العراقية من جهة كردستان ، عرفت فيما بعد وجدوه ميتا في غرفته وهو في عمر ( 65 ) عاما !