ايام الحصار الصعبة مرت ثقيلة على اهل العراق, وفي تلك الايام وبالتحديد في منتصف التسعينات شاع استخدام السحر, بدعم خفي من السلطة التي تسعى لترسيخ الجهل والخرافة في المجتمع, حيث منعت ملاحقة السحارين كما كان سابقا وتركت لهم حرية ممارسة الدجل, ومن بعض كبار الكهنة وبدعم من عزت الدوري حيث فتحوا باب تعلم السحر باعتباره علم روحاني وليس سحرا, فظهرت “التكيات” السرية لتعليم السحر, بذريعة ان ما يمارسه ليس ساحراً بل علم روحاني, فاصبح له طلاب واساتذة ومدارس, واصبح الناس ترجع للسحارين و”الروحانيين” لمعالجة الامراض والحالات النفسية وحتى حوادث السرقة والخطف, وهي مؤشرات مجتمع نخر بجسده الجهل والتخلف.
المقال سيكون موجه للتعريف بما يسمى (السحر), بعد ان طلب مني بعض القراء الاهتمام بهذا المطلب.
ان تحديد تعريف للسحر من الامور التي اتعبت المفكرين والفلاسفة حتى علماء الدين, لذلك كان الاختلاف كبيرا, وهل هو مجرد خداع للبصر وخفت يد ودجل!؟ ام هو علم له قواعده الثابتة, لكن الشائع انه يتعلق بوجه عام بتحكم البشر في قوًى خارقة للطبيعة, والسحر يُنظر إليه عادة بوصفه أمارة على البدائية والجهل, فالسحر يقدم تفسيرات وحلولًا لمن يعيشون في فقر مدقع ويفتقرون إلى البدائل الأخرى.
· هل السحر مجرد وهم؟
سؤال تردد كثيرا عبر التاريخ الانساني حول السحر, حيث كان المشككين بالسحر كثيرون, والبداية كانت من النبي موسى عليه السلام الذي فضح السحرة وكشف ان افعالهم مجرد خفت يد وزرع للوهم وليست حقيقة, ثم الاطروحة الكبيرة للفيلسوف ابقراط التي ندد فيها بالسحرة, وكان هنالك تشابك بين الكهنة والسحرة, كأنهما يعملان معا, وقد وصف السحر بأنه ممارسة تأثير على قوى المخيلة؛ وفيه يُلقي الممارس وسط جمهور أنواعًا من الخيالات والتخيلات والصور, ثم ينزلها منزلة الإدراك الحسي عند مشاهديه, لكن في الواقع لا وجود لشيء مما ينتجونه في العالم الظاهر.
في منتصف القرن السادس عشر حيث كانت مطاردة السحرة على اشدها في اوربا, قرر صديقين بريطانيين ( وهما النبيل الإليزابيثي ريجنالد سكوت وأديب منتصف القرن السابع عشر توم اسآدي) اللذان حاولا تعرية رجال الدين الذي يربطون سطوتهم بأعمال سحرية, وكانا على ثقة تامة بعدم إمكانية وجود السحر الشيطاني والاتصالات بالأرواح والمعجزات، لكنْ كلاهما ركز تركيزًا كبيرًا وانطلقا في رحلة تعلم السحر لغرض فضحه, وبعد فترة من التعلم اكتشف انها كلها خدع خفة وسرعة وانهم مجرد مساكين وقد شعر بوخز الندم على كشفه ألاعيبهم لأنها طريق كسبهم للعيش خصوص السحرة, والذين يقدمون فقرات مسرحية امام جمهور, بخلاف حقده على رجال الكنيسة الذين يتسلطون على الناس عبر الخدع السحرية, وقد فضح في كتابه كيف يستخدم رجال الكهنوت الخدع لحمل الناس على تصديق فعالية ما يمارسونه من طرد للأرواح الشريرة، أو جعلهم يتخيلون أنهم في حضرة أرواح الموتى، كي يدعموا الإيمان بمفهوم التطهر الذي يدر على الكهنوت المال الوفير.
وقد فضحهم سكوت في كتابه (اكتشاف عالم السحر) المطبوع عام 1584 ففضح اهم الخدع من قبيل نقل النقود من احدى اليدين الى الاخرى, وابتلاع السكين, والخدعة الاكبر وهي قطع الراس.
· الفكر الخرافي
غالبًا ما كان علماء النفس أكثر صراحة في التعامل مع فئة (الخرافة), معتبرين الإيمان بالسحر دلالة عن سلوك نفسي شاذ, وهذا يرتبط بأبحاث علم النفس؛ فعندما نريد ان نستكشف ايمان الاخرين بالخرافة لا يمكن ان نسأله بشكل مباشر: هل تؤمن بالسحر؟ بل علينا ان نلتف ونراوغ لنعرف خبايا عقيدته بالسحر, عبر تساؤلات من قبيل: هل تدق على الخشب عندما تخاف؟ أو هل تتجنب المشي تحت السلالم؟ أو هل تعقد إصبعيك؟ او هل تخاف القطة السوداء في الليل؟ او هل تتشاءم من كسر مرآة وتعتقد انها ستجلب لك سوء الحظ؟ او التحقق المتكرر من ان الباب مغلق!
كل ها يرتبط بالقلق والوساوس النفسية التي تعبر عن حالة سلبية يعيشها الفرد, من شأنها أن تسفر عن نتائج تؤدي إلى تشخيص نفسي مختلف, حيث اتضح ان هناك ربطا وثيقا بين الايمان بالسحر والخرافة وبين الاضطرابات النفسية, وهؤلاء هم من يكونوا اكثر الناس ايمانا بالخرافة والسحر.
· الثمرة
وهنا نكتشف اللعبة الكبيرة التي جرت في العراق من زمن صدام والى اليوم, حيث عمدت السلطات الطاغوتية المتناوبة على جعل البلد بيئة مرعبة, مليئة ببواعث القلق والاضطراب, ليتحول الانسان العراقي الى انسان مضطرب نفسيا! فيكون ارض خصبة للأيمان باي شيء يضخ له, نتيجة المخاوف التي تلاحقه كل لحظة يعيشها, ولن يكون مفكرا او منتجا او واعيا.