18 ديسمبر، 2024 9:51 م

واقع الأحزاب الشيوعية العربية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي

واقع الأحزاب الشيوعية العربية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي

 

ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى إحتدم الصراع في جبهات الحرب الباردة بين الإمبريالية الأمريكية والدول الرأسمالية المتحالفة معها من جهة، والاتحاد السوفيتي والدول، التي شكلت المعسكر الاشتراكي لاحقا، من جهة أخرى .

وعلى الرغم من تكاليف الحرب الباهضة، التي تحمل الاتحاد السوفيتي أكثر أعبائها وخسائرها البشرية والمادية، إلا ان ذلك، لم يَحُل دون عمل القيادة السوفيتية على حل ومعالجة العديد من القضايا الداخلية والخارجية الطارئة أثناء وبعد الحرب، خصوصا ما يتعلق باعادة الإعمار الضخمة، التي ما كان لها ان تتحقق بأوقات قياسية، لولا وحدة الشعوب السوفيتية وقياداتها العسكرية والسياسية، وقدرتها على تجاوز الأزمات الحادة ( السكنية والمعيشية )، ونجاحها في رفع معدلات الانتاج الصناعي والزراعي الى الحد الضامن لسد حاجة المواطنين، وتقديم المساعدات لحركات التحرر الوطني، والدول الصديقة.

لم يَرُق للدول الاستعمارية، التغييرات الحاصلة بعد الحرب العالمية الثانية، لخسارتها جزءا مهما من الأرباح الناتجة عن نهب وسلب ثروات الدول، التي نالت استقلالها، وإعلان الكثير منها عن توجهاتها وتطلعاتها نحو بناء النظام الاشتراكي، مما دفع بالدول الاستعمارية الى حبك المؤامرات، والوقوف وراء الانقلابات العسكرية، للإطاحة بقادة الحكومات، الرافضة لهيمنتها، والخارجة عن طاعتها.

واذا ما عُرِفت هذه المرحلة، بقوة ارادة وصلابة مواقف بعض القيادات الشيوعية، فإنها كشفت أيضا عن سوء أداء البعض الآخر، لتبعيتها المطلقة للمركز، وعجزها عن اتخاذ القرارات الوطنية الآنية، دون الرجوع الى موسكو، الأمر الذي تسبب في الانقسامات والخلافات الحادة بين الأحزاب الشيوعية. فلا الشيوعيون كانوا مستقلين بقراراتهم، ولا كانت موسكو قابلة بلا مركزيتها، التي تتطلب الأخذ بنظر الاعتبار، خصوصيات الدول، والتباين فيما بينها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا .

كتب كارل ماركس وفريدريك انجلس” الشيوعيين، يعتبرون إخفاء آرائهم ونواياهم أمرا حقيرا “، وذكر قائد الثورة البلشفية، فلاديمير ايليتش لينين ” يجب ان لا نخشى من الاعتراف بالخطأ “. إلا ان واقع الأحزاب الشيوعية، أظهر الكثير من حالات التستر، وعدم إعتراف القيادات بأخطائها، ورفض البحث في أسباب وقوعها، مُفضِلة إسماع المُنتقدين لها، اسطوانة “سياسة الحزب الصائبة” على أساس ان القيادة هي الحزب..!

في العراق
عَلت بعد ثورة 14 تموز الخالدة، أصوات الهتافات، ورُفِعت الشعارات، التي إعتبرتها القوى السياسية، ذات العدد والتأُثير المحدود آنذاك (القوميون والبعثيون) استفزازا وتحريضا على العنف، الذي تطلَّبَ الدعوة لوقفه وتجنب مضاعفاته، لكن ذلك لم يحصل. واستمرت المظاهرات برفع الشعارات، وترديد الهتافات: “هوب، هوب عفلق، كدامك الطسة، جمال وقع بالـ.. ومَحَّد سمع حِسه ” و” إعدم يا شعب السوري، إعدم جمال وعفلق” و” ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ” مما حدى ببعض الشخصيات القومية والبعثية القيادية، الى طرق أبوب التعامل مع السفارات الأجنبية (البريطانية و الأمريكية)، التي مَدَّت لها يد العون، أملا في التحرك للتخلص من النظام الوطني، وإعادة التبعية، وعودة شركات النفط الاحتكارية، ومنع التقارب مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي .
وكان لأحدات الأول من آيار 1959 في الموصل، ومحاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، دورا في زيادة التراكمات، التي زاد من بلة طينها، صدور فتوى محسن الحكيم ( الشيوعية كفر وإلحاد) في 21 شباط 1961 وإستغلالها من قبل أعداء النظام، للإعداد وتنفيذ انقلاب 8 شباط 1963، الذي خسر فيه الحزب الشيوعي، خيرة النخب القيادية العسكرية والمدنية الوطنية اللامعة.
وقد اتسمت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث بعد عودة الأخير الى السلطة في17 تموز 1968 بالتنافس الحزبي الضيق، ونجاح البعثيين بتوجيه الدفه تدريجيا لصالحهم، بحكم وجودهم في السلطة. ولم تمنع أجواء “الجبهه الوطنية” وتعيين وزيرين شيوعيين (مكرم الطالباني وعامر عبدالله) من التضييق على الشيوعيين. وظل القمع والإرهاب السياسي مُتبعا، رغم تقديم التنازلات المتواصلة من قبل قيادة الحزب الشيوعي، التي وصلت حد الإعلان عن تجميد الانشطة المهنية والطلابية، والتوقيع على اتفاق منع النشاط الحزبي في الجيش والشرطة لغير البعثيين، دون أن يحد ذلك من رغبة قيادة البعث في تحقيق الاستفراد المُطلق بالسلطة، فكان من المُحتم ان تنهار الجبهة في ظل أجواء الاعتقالات والاغتيالات، التي بلغت ذروتها عام 1978 بعد تنفيذ حكم الإعدام بـ 31 من العسكريين لإتهامهم بـ “انشطة حزبية ممنوعة” في صفوف الجيش، ليضع هذا الحادث، المِسمار الأخير في نعش ما سُمي بالجبهة الوطنية، وبداية الهجرة الجماعية للشيوعيين وانصارهم الى الخارج .

في سوريا
جرت عدة محاولات من قبل الشيوعيين، لكسر طوق التبعية المطلقة لموسكو، لكنها جوبهت بتُهم خيانة المبادئ والعمالة، والطرد من الحزب ( كما كان حال المنتقدين في باقي الأحزاب الشيوعية العربية ). ولم يكن ما واجههُ المفكر الشيوعي الياس مرقص من الإتهامات، التي انتهت بقرار طرده، رغم كونه أحد أهم الكتاب الماركسيين العرب (أعيد الى الحزب بعد وفاة خالد بكداش) سوى إنعكاسا للنهج السلطوي الدكتاتوري، الذي أبطل امكانية النقاشات، وتسبب بالإنقسامات، وخروج العديد من الكوادر المثقفة من الحزب. وحول هذا الموضوع، كتب اسماعيل صبري” فاتنا أهمية الديمقراطية داخل أحزابنا، وقبول تعدد الآراء، والالتزام برأي الأغلبية مع إحترام الأقلية وليس تصفيتها. وقد تعاملنا مع الجماهير كما لو كنا نملك الحكمة والصواب ونريد أن نعلمها، دون الإنصات للناس، والاحترام الكافي، لما يرونه ويتصورونه من حلول لمشكلاتهم”.

إن من بين أسباب الأمراض المزمنة، التي أصابت الأحزاب الشيوعية العربية، هو بقاء القيادات الشيوعية من دون تغير لا لسنواتٍ طويلة، وإنما لعدة عقود من الزمن. ومن ذلك، أن خالد بكداش شغل منصب الأمين العام للحزب الشيوعي أكثر من 60 عام ( في سوريا ولبنان حتى عام 1964، وفي سوريا حتى وفاته عام 1995). وبقي عزيز محمد في منصب سكرتير الحزب الشيوعي العراقي 30 عاما. وكان لكل منهما علاقات مميزة مع “رفاق” موسكو، تَحكي عنها الزيارات الحميمة، التي كانت متواصلة.

لقد بيّن واقع الأحزاب الشيوعية العربية، حقيقة أن قياداتها لا تختلف عن تفرد وطغيان الحاكم، الذي لا يؤمن بتداول السلطة، وأن هذه القيادة، قادرة على اتخاذ الإجراءات التنظيمية التعسفية ضد منتقدي النهج الخاطئ كالمشاركة في مجلس العار (الحكم)، والعملية السياسية، والتحالفات الفاشلة مع القوى السياسية والدينية المشبوهة، والتصريحات الدالة على الإنحراف والانعطاف نحو جهة القوى، التي لعبت دورا قذرا في تدمير واحتلال العراق. وما كان لكل هذا ان يحصل، لولا انهيار الإتحاد السوفيتي.