وقد جاء في كتاب (ارداى ويرافنامه)، المنسوب إلى (نيك شابور)، من علماء عهد الملك الساساني كسرى – خسرو أنوشيروان الأول (531-579 م)، والذي هو شرح (معراج الروح) على غرار الكزميديا الالهية، جاء فيه: ” أنه رأى في السماء الثانية أرواح أناس كانوا قد تزوجوا محترمهم ((خو يت ك دس)) فكانوا مغفوراً لهم إلى الأبد، وأنه رأى في قعر العذاب روح امراة مخلدة في العذاب لأنها كانت قد كسرت هذا الرباط المقدس (!) وأن ويراف هذا الذي استحق المعراج، كان قد اختار سبعاً من أخواته للزواج بهن”.
و قد جاء في القسم الثالث من كتاب (دينكرت- دينكرد) إصلاحات لهذه المسألة: منها: “ما يصطلح عليه ((نزد بيوند))، بمعنى الزواج من الأقارب، مشيراً فيه إلى زواج الأب بابنته والأخ بأخته. وقد شرح أحد الباحثين الكبار في الديانة الزرادشتية (نرسي بزرك مهر) هذا القسم من الكتاب، هذا الزواج جاء بفوائد ومنافع كثيرة لهذا الزواج وقال: “إنه يمحو الذنوب أو يجبر كبائر الذنوب”.
وعلى السياق نفسه، يذكر المؤرخ الأمريكي (ول ديورانت)، في كتابه (قصة الحضارة):” كان الآباء ينظمون شؤون الزواج لمن يبلغ الحلم من أبنائهم. وكان مجال الاختيار لديهم واسعاً، فقد قيل لنا إن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها”.ينظر: مج1، ج2، ص476.
ومن جانب آخر تذكر المستشرقة البريطانية (ماري بويس) في كتابها: (تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين- الصفحة 68) ما نصه: “تابع (=الملك قمبيز الثاني- 529-522 ق.م) عمل والده، وهو توسيع الامبراطورية الفارسية، فضمّ إليها ممتلكات واسعة من مصر السفلى، لكننا لا نثق كثيراً بمعلومات الكتاب اليونانيين عن (قمبيز)، وهي المصدر الأساسي لتاريخ الإخمينيين. وفيما يتعلق بولاء قمبيز للزرادشتية، نعرف أنه كان أول إنسان يحقّق (هفاتفاداتا)، أي الزواج بين الأقرباء في الدم. كان هذا الزواج ممجداً وفق الكتابات البهلوية، وبالأخص الزواج من داخل الأسرة نفسها، زواج الأب من أبنته، الأخ من أخته، وحتى الابن من أمه. أعطى (فرافارانه) ((رمز الإيمان الزرادشتي)) اسم هذا النوع من الزواج، يحتل هذا الاسم في (فرافارانه) مكاناً غريباً، ففي نهاية المقطع المكرّس للإقرارات العليا العامة، ولعله أضيف متأخراً، ففي هذا المقطع من كتاب الآوستا- الآفستا- -(Yasna12، يحكى ما يأتي: “أعلن نفسي نصيراً لهذا الدين، عابداً لمزدا، الدين الذي يجبر[الأعداء] على أن يسلموا أسلحتهم، الدين الذي يساعد (هفاتفاداتا) الصحيحة”.
وتنقل المستشرقة في كتابها أيضاً، الصفحة 114- 115 عن وثيقتين يونانيتين أسماء الملوك البارثيين (= ملوك الطوائف)، ومنهم (أرساك- أرشاك- 250-248ق.م) وزوجاته الرئيسيات، تقول الوثيقة الأقدم: “أثناء حكم الشاهنشاه (أرساك)، والملكة (سياسا)، أخته وزوجته، في نفس الوقت، و(أريزاتا)، ولقبها (أفتوما)، أخت وزوجة الشاه (= الملك الأرمني) العظيم (تيكران)، وكذلك (أزاتا) أخته وزوجته…”. تشهد هذه الصيغ بوضوح على أن الارشاكيين – البارثيين ساروا على هدى الإخمينيين في عادة زواج (هفايتفاداتا)، وتزوج الشاه المذكور أعلاه، مثل (قمبيز)، من أختيه. كان الزواج بين الأخوة والأخوات مسموحاً به في بين رعايا الارشاكيين (= الفرثيين)، جيران الزرادشتيين، مثلاً (ألينا) و(مونوباز) في أديابنا (= إمارة أديابين اليهودية في إربل- أربيل)، (إيراتو)، و(تيكران الرابع) من سلالة الارشاكيين في أرمينيا. وملك أرمينيا (تيريدات الأول) الحاكم الشريف بامتياز، يسمّي نفسه أخاً للملكة في كتيبة (=نقوش- كارني). ليس الحكام وحدهم تمسكوا بهذه العادة، بل الناس العاديون أيضاً، كما كتب عن برديصان (= من أهالي الرها- أورفة الحالية) في القرن الثاني بعد الميلاد، فقد أورد أمثلة متعلقة بأنصار المخلصين لتقاليد الأجداد، وهو الحفاظ على عادة الزواج بين الأقرباء في الدم بين الفرس في آسيا الصغرى”.
والزواج بين الأقربين من الأقرباء (فهلوي: خويتكداس، آفستي: خوايتفداتا)، الذي يعتبره الزرادشتيون عملاً صالحاً، هو أمر مرفوض من الأساس عند المسيحيين، وبالتالي تعلّة (توطئة) لهجوم مرير، ويظهر من المناقشات المفصلة التي جرت حوله في السينودات ( = المجامع الكنسية)، وما دوّن في مختلف السجلات القضائية، أن هذا كان نقطة جوهرية في المناظرة المسيحية، كما كان في بعض الأحيان مورد هجمات أقلّ حجماً وشدة خلال انعدام الخصام العنيف- ضد أولئك الزرادشتيين الذين جعلوا من الزمان (زرفان) إلآهاً يعلو قدراً على جميع الآلهة وسائر البشر. باعتباره والد (آهورامزدا)، الذي كان مصدر كل الأشياء الخيرة، فضلاً عن ( آهريمن) معين كل الأشياء الشريرة- أنه ذاك (زرفان) بعينه الذي يقود مسيرة العالم، ويتحكم بمسيرة البشرية.
وبدأ ذلك الجدل عند كتاب الأرمن، مثل (آزنيك الكولبـي)، و(ايليشي)، وفي المضان والمصادر السريانية أسلوب جارح، فيه من التهكم والسخرية اللاذعة ما لا مزيد عليه. ويبدو أن مصدر الكزاد والحجج مستمد من كتاب (ثيودور المصيصي Theodor of Mopsuestia)، الذي ترجم إلى السريانية في تاريخ متقدم، يصعب جداً إغفال هذا الجدال على غرار ما فعل (هـ .هـ شايدر H.H. S.).
ويقول الباحث الإيراني الكبير (سعيد نفيسي) في كتابه (تاريخ اجتماعي إيران- ج2، ص39): “إن من البديهي المسلم المقطوع به، الذي نجده بصورة قاطعة وحيّة في مصادر ذلك العهد الإيراني القديم: هو الزواج بالأقارب والمحارم من الطبقة الأولى كان معمولاً بل شائعاً بينهم حتماً، وعلى الرغم من الضوضاء الحمقاء التي يفتعلها الزرادشتيون أخيراً”.
ثم يأتي الأستاذ (نفيسي) بالنصوص التي جاءت في كتب الزرادشتيين المقدسة، مثل (دينكرت) وغيره، ثم بالروايات التي أوردها المؤرخون المسلمون: كالبلخي المتوفى سنة322هـ/943م، في كتابه (كتاب البدء والتاريخ)، والمسعودي في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، وأبو حيان التوحيدي المتوفى سنة404هـ/ 1013م، في كتابه ( إمتاع المؤانسة)، وأبو علي مسكويه المتوفى سنة421هـ/ 1030م، في كتابه (تجارب الأمم وتعاقب الهمم). إضافة إلى أخبار زواج الملك الساساني قباد(488-497م،499-531م) بابنته أو ابنة أخته، وزواج بهرام جوبين (= بهرام السادس) بأخته (كردية)، ومهران كُ
شناسب بأخته، والذي صار مسيحياً فيما بعد.
وينقل المرحوم (مشير الدولة) في كتابه المهم: (تاريخ إيران باستان- تاريخ إيران القديم)، نقلاً عن المؤرخ اليوناني القديم (سترابون)، بشأن الهخامنشيين (= الإخمينيين) قوله: “إن هؤلاء (= أي من كان يلقب: مغ، من شيوخ بيوت النار) كانوا يتزوجون بأمهاتهم حسب عادتهم القديمة”.
ويقول بشأن الإشكانيين (= البارثيين – ملوك الطوائف): “إن بعض مؤرخي الأجانب يذكرون زواج الملوك الاشكانيين بأقربائهم وأرحامهم بكل كراهية، ذكر ذلك المؤرخ اليوناني (هيرودوت) للملك الإخميني (كمبوجيه – بارديا 522 ق.م)، وبلوتارك للملك الإخميني الآخر آرتخشتر- ارتحشتا الثاني- أردشير الثاني (404-359 ق.م)”.
ويردّ بعض الكتاب الفرس الزرادشتيين هذه النسبة، ويقولون: لا ينبغي أن نفهم كلمة (خواهر= الأخت) عند الإشكانيين بمعناها الحقيقي، بل إن الملوك البارثيين كانوا يطلقون الأخت على جميع بنات الملوك، إذاً كان هؤلاء أُسرة فيهم بنات الأعمام وأحفادهم”.
وفي السياق نفسه يوافق بعض الباحثين الإبرانيين المعاصرين على هذا الزواج الشائع في العصر الاشكاني – البرثي (= ملوك الطوائف)، ويطلقون عليه زواج ( خيتوك داس)، الذي يعني الزواج بالمحرمات، كالزواج بين الاخوة. ينظر، أردشير خداديان، تاريخ ايران باستان (= تاريخ ايران القديم)، كتبخانه ملى ايران، تهران، 1383هـ، ش/ 2004م، ج2، ص1177″ ؛ هدايت الله علوى، زن در ايران باستان (= المرأة في ايران القديمة)، انتشارات هيرمند، كتبخانه ملى، تهران، جاب دوم، 1378 هـ، ش/1999م، ص56.
ويضيف (مشير الدولة) يقول: “بما أنه يجب أن نتحرى الحقيقة في كتابة التاريخ نقول: إن الحق في هذه المسألة هو أن زواج الأقارب الأرحام المسمى (خوتك دس)، كان أمراً مستحبّاً لدى الفرس القدماء؛ والظاهر أنهم كانوا يعللون هذا الأمر بحفظ البيوت والاُسَر، وطهارة الأعراق والعناصر والدماء”.