الرواية لا تنتظم في حيز عنوانها بل تنفتح على مديات من تاريخنا العراقي ويرافق الانفتاح كشوفات المرئي واللامرئي .. الماضي والمستقبل رواية (1958) للروائي العراقي ضياء الخالدي : تحتفي بفتوة الحياة وشهيتها النهمة للجمال وها هو عارف البغدادي/ المحور الروائي يهتف ممجدا كرنفال الوجود(..منبهراً بالكرنفال الذي أغرقني،يبدو جذع شجرة التوت والأشجار العارية الأخرى،والشجيرات الدائمة الخضرة كأنها تبادلت أماكنها،والسماء أكثر زرقة، ووجوه الصيادين مليئة بالبشاشة وهم يرمون شباكهم الصغيرة في مياه دجلة،فيضان يغمرني كلّ يوم،فأزداد عشقا وتوقا لمصدره. أيّة رؤيا تستمّر بهذا الدفق الخام لتزودني بجانب من الملامح الحقيقية للأشياء؟/ 28 )
(*)
قراءتي المنتجة تواصل صيدها للمنشطرات السردية في الفعل الروائي العربي وتعتبر رواية (1958) مكتزة في هذا السياق,
(*)
رواية (1958) مع سطرها الأول تضعنا أمام ما لم يحدث بعد(يزدحم ميدان مترو الجادرية المسقّف بالمسافرين والعائلات المتبضعة../7) وفي نهاية الصفحة نفسها، يثّبّت المؤلف ضياء الخالدي هذه الحاشية (لم يعرف العراق قطار المترو حتى زمن طباعة هذه الرواية). وحين أعود إلى متن الصفحة نفسها تنشطر الصفحة ذاتها بين بداية القرن الحادي والعشرين والعقد الثاني من القرن العشرين.. فالسارد يصف زحام ليلة رأس السنة وولادة قرن جديد. وهذا هو السرد الأفقي للحظة جديدة، ثم يغطس السارد المشارك بضمير المتكلم في زمن آفل ولحظة تأسيسية عراقية (في عمر العاشرة أنتشلتُ جريدة الاستقلال البغدادية، وقرأت التأريخ في الأعلى فكان العام 1920) ثم يمارس السارد القفز العالي (شاء ذهني لحظتها القفز إلى العام 2000لأسأل نفسي إن كنت سأصل إلى هذا التأريخ؟).. يعود بعدها السارد وهو الشخصية المحورية إلى ذاته فيسردُ لنا مِن سيرته (ولدتُ في العام 1910…/ 8 ) وبعد سطور يقفز بعلو ستين سنة (كنتُ شغوفا بالحياة،ولكن منذ سبعينات القرن الماضي كنتُ….)
(*)
الأنشطار لا يتأطر ضمن حيز التقويم. بل يشمل ذات السارد فهو رؤيوي مزدوج
( فالشجرة ليست الشجرة التي نراها،ولا الحجر هو الحجر ينفتح المشهد بإرادة أو دون إرادة،أبقى خارجاً عن الصورة،لست جزءاً من الحدث نفسه / 9 ).. وهو في طريقه للمعتقل لتمضية محكوميته عشر سنوات يرى الغائبين عنه والعائشين في بغداد: (رأيتُ وجوه عائلتي بنظرة خاطفة لحظة أن هويت بالسرعة التي لاتُقدّر بالمسافات التي نعرفها.أبي وأمي وتوفيق ورضيّة وأهالي الحيدرخانة والملك غازي والعائلة المالكة وخدم القصر../ 134 )..
(*)
يصل الأنشطار إلى ذات السارد: (مازالت ملامح الهندي السجين حاضرة في رأسي،بالرغم من مرور أكثر من خمسة عقود على لقائي به في سجن روجينا الإيطالي.قال لي بلغة عربيّة ضعيفة: كنت أنتظرك أيّها العربي لأقول لك شيئا،لكن لم يقل وذهب/9 ) !! من هو هذا الهندي؟ قرين ..؟ سحّار عليم؟ بين زنزانة الهندي والسارد المشارك مجموعة زنازين لكن حين تساقطت القذائف فكيف رأه في زنزانته؟ وإذا كان ينتظره فلماذا لم يحدّث السارد؟(كان ينتظرني بيد أنّه لم ينطق بشيء، ولم أره بعد ذلك. أختفى عن نظري).. وهذا الأنشطار الذاتي يبوحه لنا السارد قبل قصف الطائرات الأمريكية لإيطاليا بفترة ليست بالقصيرة.
(*)
السارد مشطورٌ بين سوء الخارج وطمأنينة الداخل وفي السجن يخبرنا (كأني أنشطرتُ إلى أثنين،كنتُ بضيافة نفسي،أحدّثها عما مرّ بي فتطلب مني الصبر.تؤكد لي بأنّ في الشر فسحة كما في الخير فسحة للشر/ 133 )
(*)
ينتقل الأنشطار إلى زمن آخر في الرواية هو زمن سجن السارد في إيطاليا وزمن السجن سيفصله السارد لنا في ثم يعود إلى زمن عراقي عصيب: مقتل الملك غازي (ما سر ذلك الدافع البدائي،والصلب بمغادرة بغداد نهاية الثلاثينيات عبر رحلة متعبة وخطيرة إلى ألمانيا؟ ../ 10 )
(*)
ذات السارد مزدوجة القيمة / أنشطارية تحتوي الذاتي واللاذاتي: (كنتُ أسَع كلّ شيء.أسع عوالم الفنادق الكبرى المحاذية لشارع أبي نؤاس،والكازينوهات والبارات المليئة بالرواد.أسع أنشغالات نساء العاصمة .أسع بنايات بغداد العالية المضيئة وجسورها…/ 11 ).. وهي أحيانا ذات متناقضة بشهادة الذات نفسها (هل ثمة تناقض عند مسنّ تسعيني يريد الموت بينما يحاول الالتصاق بيوميات بشر عابثين..)
(*)
يعيش السارد، رؤيته الأنشطارية حتى وهو يتفرج / يتأمل الشارع(تلك المشاهد توفّر لي لذّة كبيرة لأنها تتيح لي عقد مقارنات على الدوام بين بغداد القديمة وبغداد الحديثة../ 12 )
(*)
هناك أنشطار آخر لسبب عائلي قاهر فهو توقف عن أسفاره،وقام بتسريح عينيه وذاكرته صوب(الداخل عند مصطبة أمام نهر دجلة،أو عند مقبرة معروف الكرخي،متنقلاً بين معارفي وأصدقائي الراحلين.أو في أزقة العاصمة القديمة والجديدة على مصطبة منفردة أوتحت شجرة التوت المسنّة في حديقتي../ 23 ) وعارف هو عارف البغدادي الذي لا يكتمل بغير صديق طفولته : مخلص وما بينهما يعيدني إلى السارد المثقف وزوربا اليوناني في رواية نيكوس كزنتزاكيس (زوربا اليوناني).
(*)
وهناك أنشطار هام جدا يتشكل من التأريخي والمتخيل السردي فالروائي يزيح المؤرخ فهو يكتب سردا روائيا وليس وقائع تاريخية نلتقط مثالا : رئيس وزراء العراق أنتحر في 1929،لكن مؤلف الرواية يجعله ينتحر بتوقيت إنقلاب بكر صدقي في 1936
(*)
ضمن هذه الأنشطار أين يموضع السارد وهو الشخصية المحورية في الرواية..؟ على سؤالنا يجيبنا السارد (أقف دائما عند تلك المنطقة الضيّقة، فيما يخصّ الفصل ما بين الماورائيات والعلم،ثمة ما هو أوسع وتدرّجات الألوان بينهما تبهت تدريجيا،حتّى نصل إلى تلك المنطقة التي لايراها أغلبية الناس،ومتاحة فقط لمن عرف العالم بتفاصيله الحقيقية.كلما مضى الإنسان في رحلة الاكتشاف إلى الكون اللامتناهي،أو تحت العالم الذري،فأنه يقترب من الحدود الفاصلة الباهتة ما بين المادة التي نراها بأعيننا وما بين الذي نعدّه غير مؤكد../ 18 )
(*)
يواصل السرد أنشطاراته بحركة مكوكية بين الأزمنة، فينتقل من بغداد 2000 إلى الفترة الملكية . حيث تصله مكالمة على موبايله من قصر الرحاب(جلالة الملك يقول لو تتفضل عندنا غدا../13).. يوصلنا السارد إلى قصر الرحاب بنسخته الحداثية وهي نسخة من تصميم الشابة الملكية عالية الثانية:شجيرات الياس تأخذ شكل رجال فضاء.. وجود مجسمات ذهبية تشبه طائر العنقاء.. طواويس ذهبية .. نافورات مياه طائرة بسلك لامرئي
(*)
هنا يتم تدوير سرد الواقعة، أعني ما تراه عالية الثانية يتقارب مع مجزرة قصر الرحاب في ثورة 14تموز 1958(..أرى في يقظتي رؤية حريق شبّ في هذا القصر،وجثث عائلتي مُسجّاة في الباحة،أجسادهم محترقة بالكامل،وأنا الوحيدة التي لم يصبني أذى. أتنقل مذعورة بين الجثث../ 16 )
(*)
في ص20 من الرواية يتكشّف لنا المخبوء السردي من حياة عارف البغدادي وهذا المخبوء يشكّل الأنشطار الرئيس في الرواية التي تتكون من شطرين رئيسيين :
*العائلة الملكية في العراق
*العائلة المنقوصة لعائلة عارف البغدادي: المتشكلة من زوجته التركية وولده الوحيد
(*)
والأنشطار الأول في عائلة عارف هو أنشطار تسموي : عارف سيبقى يطلق اسم : قدوري، على ولده أما بالنسبة لأمه ولأهل قريته فهو : جينار
(*)
الأنشطار الأكبر هو أنشطارات الواحد في الكثرة وهذا ليس من كدح تأويل قراءتي بل من ما يبوح به عارف لعارف في الرواية (عارف الأول مات في العام 1939منذ تركه البلاد،بينما عارف الثاني عاش بعد هذا التاريخ فوراً ثم توفّي هو الآخر مع عودته إلى بغداد،ليولد عارف ثالث أستمر بحياته حتى اليوم/30 ) لكن هؤلاء العوارف سيتم تركيمهم في رابع (شخصية رابعة تُلملم شظايا الوجودات الثلاثة باعتبارها أحتمالات معاشة لإنسان أختير لينبت في تاريخ محدد له في صيف العام 1910) وهذه الأنشطارات المعلنة عنها هي مفتاح لوحة غلاف الرواية.
*ضياء الخالدي/ 1958/ دار بانو/ بغداد/ ط1/ 2018