لعل قضية الألقاب الاجتماعية (الاثنية والقبلية والمذهبية والجهوية) ، التي تعد من أبرز سمات مجتمعات بلدان العالم الثالث ، والتي تتمحور حولها مظاهر التباهي المظهري التفاخر الاعتباري بين الأفراد والجماعات ، لجهة التعبير عن عراقة أصولهم السلالية ، ونبالة أروماتهم العشائرية ، وقداسة انتماءاتهم الدينية ، ترتبط بالشوط الذي قطعه المجتمع المعني في مضمار تكوين شخصيته الاجتماعية (= الحضارية) من جهة ، وبالمستوى الذي بلغه في مجال تحقيق هويته الوطنية (= السياسية) من جهة أخرى . فبقدر ما يعجز المجتمع عن توفير مقومات الأولى ويفشل في تهيئة عناصر الثانية ، بقدر ما يعاني من التمزق في نسيجه الوطني ، والتفكك في قيمه المعيارية ، والتذرر في وعيه الجمعي ، وبالتالي الاحتكام إلى هوياته التحتية وثقافاته الفرعية وانتماءاته الجانبية وولاءاته الهامشية . والجدير بالذكر في هذا الإطار إن من الضرورة بمكان ،التمييز بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي ، فضلا”عن عدم الخلط بين دلالات الأول ودلالات الثاني ، لجهة توصيف الأفراد وتصنيف الجماعات . فإذا كان من الجائز والمباح اجتماعيا”للمرء إن ينسب لنفسه ؛ لقبا”عشائريا”أو مرجعا”مذهبيا”أو نسبا”عنصريا”أو عنوانا”جهويا”، كنوع من أنواع الاختلاف القومي ، أو كشكل من أشكال التعدد الثقافي ، أو كنمط من أنماط التباين الديني . فان السماح لمثل هذه الألقاب بالتسلل إلى حقل السياسة ، والاندساس داخل مؤسسات الدولة ، والتسرب إلى أجهزة الحكومة ، للإفصاح عن طبيعة المواقع الرسمية لهذا المسؤول أو ذاك ، أو للدلالة على تبعية هذا المرفق أو ذاك القطاع ، فذلك يعد من كبائر المحرمات الوطنية والأخلاقية ، فضلا”عن الديمقراطية . وفي موضوع حيوي كهذا ؛ يتصل بطبيعة الذهنيات ويشي بماهية السلوكيات ويرتبط بنمط العلاقات ، لا مناص من أن يرقى السؤال التالي إلى مصاف الضرورة هو : هل إن مجرد إعلان التخلي عن توشيح الأسماء بالألقاب العشائرية ، والامتناع عن تأطيرها بالأنساب المذهبية ، والإشاحة عن تزويقها بالأصلاب الاثنية ، كفيل بتطهير تصورات مجتمعنا من عيوب الدلالات / المؤشرات التي توحي بها ، وإزالة مثالب التخيلات / التمثلات التي تعبر عنها ، واستئصال عواقب النعرات / النزوات التي تفضي إليها . والتسليم ، من ثم ، بأن سرائر المجتمع أضحت نقية من دنس العصبيات ، وان قيمه باتت طاهرة من رجس المفاضلات ؟! . المؤكد إن الجواب على مثل هذا التساؤل ، يكمن فيما تجشم تكاليفه الباهظة اجتماعيا”، وتلظى بسعير جحيمه سياسيا”الشعب العراقي بكافة أطيافه وجميع مكوناته ، منذ لحظة سقوط النظام السابق ولحد الآن ؛ حيث التخندقات القبائلية والتمرسات الطوائفية والاصطفافات الاقوامية والانزياحات المناطقية ، أصبحت بمثابة القاسم المشترك الذي توحدت تحت لوائه – ويا للمفارقة – مختلف الأطياف والمكونات ، بعد أن طلقت بالثلاثة كل ما كان يشدها إلى ماضيها الوطني المثخن بالصراعات ، ويذكرها بثوابتها العراقية الملفعة بالحساسيات . ولعل هناك من يظن بأن المقال يضمر بين طياته إيحاءا”يستهدف تبرئة كل ما اجترحته الأنظمة السياسية المتعاقبة على سدة الحكم في العراق ، من سنن متخلفة ونواميس بدائية وقوانين تعسفية ، ارتأت ، من منظور مصالحها الفئوية ، أنها الطريقة المثلى لرأب صدوع ، ورتق شقوق المجتمع العراقي ؛ الملئ بالتناحرات القبائلية ، والفائض بالانقسامات المناطقية ، والمغمور بالتوترات المذهبية ، على خلفية تجميد سيرورة التاريخ والتلاعب في تسلسل أحقابه والتعسف في قراءة تجاربه . وذلك لمجرد إدانة معطيات التجربة المعاصرة والنيل من ممارساتها البكر ، التي – بالتأكيد – لم تخلو من ثغرات ولم تنجو من عثرات ، بالقياس إلى شمولية رؤيتها وجذرية خياراتها . والواقع إننا لا نقطع – لا هنا ولا في أي مساهمة أخرى سابقة – بعدم مسؤولية التجارب السياسية السابقة ، من حيث إسهامها المزمن والمتكرر ، في تشطير وحدة المجتمع العراقي ، وتذرير تكويناته السوسيولوجية ، وبعثرة أصوله الانثروروبولوجية ، وتشظي إرهاصاته السيكولوجية .على أسس خلفيات اقوامية متعصبة ، أو مرجعيات طائفية متطرفة ، أو أصوليات قبلية متزمتة ، أو توجهات مناطقية متعالية . للحد الذي إن الألقاب والأنساب التي كانت تسبق أسماء المسؤولين وتتقدم عناوينهم الوظيفية ، كانت تشكل دالة على درجة أهميتهم ومستوى صلاحياتهم . إلاّ أن ذلك لا ينبغي له أن يحجب عنا مقارنة الاختلافات ومضاهاة الفروقات ، بين الأنظمة السياسية السابقة وبين النظام السياسي الحالي ؛ لجهة التوظيف الديني والاستثمار السياسي والاستغلال الاقتصادي والتعويق الثقافي ، لظاهرة استخدام الألقاب القبائلية والأنساب الطوائفية والأصلاب الاقوامية . وما يترتب على الأولى من مضار سياسية واجتماعية ، كان من عواقبها السقوط المدوي لنظام الحكم السابق وانهيار سلطته العشائرية من جهة ، وما هو متوقع أن يتمخض عن الثانية ليس فقط من كوارث سياسية وفواجع اجتماعية – لم يبرح الواقع يطرح علقمها ويفرز سمومها – بل ومن انهيارات في مسار التاريخ ، وانسلاخات في وحدة الجغرافيا ، وتمزقات في نسيج الاجتماع ، وتصدعات في بنى الذاكرة من جهة أخرى . ذلك لأن الغرض في الحالة الأولى كان قائما”على خيارات السياسة وما تنطوي عليه من تأبيد السلطة وتأليه السلطان ، هذا في حين إن تبعات التجربة الثانية ، مبنية على رهانات العنصر والدين والمذهب والطائفة والقبيلة والمنطقة ، وتلك لعمري معاول كافية لهدم المجتمع مهما كان متماسكا”، وتقويض الدولة مهما كانت قوية ، ومسخ الهوية مهما كانت راسخة ، ونسخ الوعي مهما كان ناضجا”. وهكذا يبدو إن الوضعية التي يعيشها المجتمع العراقي ، في ظل تنازع الحميات الجاهلية وتصارع الفزعات البدائية ، سائر باتجاه تكرار مآسيه واستعادة فواجعه واستنساخ معاناته ، لاسيما وان الولاء السياسي الذي كان يفترض أن يمحض وبشكل مطلق للوطن الواحد والدولة الموحدة ، تحول إلى ولاءات نكوصية متشظية نحو مرابع العشيرة ومرابض الطائفة ومعازل العنصر وكانتونات المنطقة . والمشكلة إن كل من تمسك بأهداب ألقابه العشائرية ، وتعلق برموز أنسابه الطائفية ، وراهن على احسابه السلالية ، لا يشعر باكتمال شخصيته الاجتماعية وتوضّح هويته الوطنية ، إلاّ عبر تلك العناوين الأولية ومن خلال تلك الكنى البائدة ، فارضا”على مؤسسات المجتمع السياسي ليس فقط التماهي مع مكونات المجتمع الأهلي ، بكل تقاطعاته وتناقضاته وتنازعاته ، بل والتوحد مع عاداته وعلاقاته وتطلعاته أيضا”، بحيث إن اعتبار الشخص / المسؤول باتت ، لا تستمد من خلال أهمية المنصب الرسمي الذي يحتله ، أو تتشكل عبر قيمة الوظيفة العامة التي يمارسها ، وإنما بالاتكاء على ما يحققه اللقب من جاه اجتماعي ، و يغدقه النسب من هيبة رمزية ، ويمنحه الحسب من سطوة سياسية . ولهذا فقد تشظت مؤسسات الدولة على أساس الولاءات التحتية المتعددة ، بدلا”من الولاء السياسي الواحد . وانشطرت مكونات المجتمع على أساس الثقافات الفرعية المختلفة ، بدلا”من الوعي الوطني الكلي . وتصدعت الشخصية العراقية على أساس المخاييل الهامشية المتباينة ، بدلا”من الذاكرة التاريخية الشاملة .