19 ديسمبر، 2024 12:21 ص

سابينس: موجز تاريخ الانسان وترجمة مميزة للدكتور جكر عبدالله ريكاني

سابينس: موجز تاريخ الانسان وترجمة مميزة للدكتور جكر عبدالله ريكاني

استلمت قبل يومين النسخة التي اهداها لي الدكتور جكر عبدالله من والده الدكتور عبدالله جاسم الذي اتصل بي قبل ايام وقال بان نسختي محفوظة عنده، حقيقة كتجربة سابقة في قراءة احدى كتب الدكتور جكر او الابحرى ترجماته، احسست بضرورة ان اتحدى الظروف القسرية الني نعيشها سواء ما فرضه واقع كورونا او الدراسة المكثفة التي تأخذ الكثير من وقتنا حالياً، استلمت الكتاب وما ان عدت حتى بدأت بتصفح اولي للفهرست – محتويات الكتاب – لاخذ فكرة عامة عنه، خاصة وان الكتاب نفسه اخذ حيزاً اعلامياً كبيراً لاسيما بين الاوساط الثقافية والدينية، وحين اقول الثقافية وافصلها عن الدينية، لاافعل من باب الفصل بين الدين والثقافة، انما من باب نظرة الدين الى هكذا نظريات، وفي المقابل كيفية تدوالها بين الاوساط الثقافية سواء العلمانية او الالحادية او حتى العامة، فالنظرة بلاشك تختلف بشكل كبير، ففي الاوساط الدينية الحتمية والسبقية هي اساس الرؤية التي يتم تبنيها، في حين تتفاوت الرؤية في الاوساط الاخرى بين قبول وتداول وبين انحياز واكتراث وبين لامبالاة ، وفي الحصيلة لابد ان يكون لكل وسط رؤيته التي لانقوم ولانعطي الحق لانفسنا بالحكم عليها، او حتى تقيميها.
عودة الى الكتاب ” سابينس: موجز تاريخ الانسان ” لمؤلفه يوفال نوح هراري وهو كما يعرفه المتابعون للكتاب والمفكر وألاكاديمي الاسرائيلي والمؤرخ المتخصص في تاريخ العصر الوسيط بالجامعة العبرية في القدس، والغريب في عنوان الكتاب اني وجدت في بعض المواقع الالكترونية اسم “العاقل :تاريخ موجز للبشرية”، وضمن السلسة ذاتها “الانسان الاله: موجز تاريخ الغد”، وما يهم في الامر هو كتاب سابينس الذي بين يدي، حيث الترجمة التي اعتبرها دائما مدخلاً مهما للتغلب على اي تحدي يمكن ان يواجهه البحث العلمي، لان الترجمة في الغالب تطرح آليات يمكن من خلالها سد الفجوة المعرفية التي نعاني منها ليس في اقليم كوردستان فحسب انما في غالبية دول الشرق الاوسط، باعتبار ان الترجمة هنا بالذات اما مسيسة او منحازة لمذهب وطائفة على حساب الرؤية الاكاديمية والعلمية والحقائق التاريخية والانسانية، لذا كباحث تاريخي اكاديمي اجد في الترجمة رافداً مهماً يمكن من خلاله اثراء الحركة العلمية، فالبحث العلمي هو الوسيلة التي يمكن من خلالها ان نصل الى فهم دقيق للمشكلات التي نواجهها، وفي الوقت نفسه الوصول الى حل لتلك المشكلات واكتشاف حقائق جديدة ومن خلال الغوص في الماهيات التي ترافقها والعلل التي توجدها واستنباط القوانين والنظريات التي تساهم في اغناء الحركة العلمية بصورة عامة، وذلك ما لامسته من خلال قراءة الكتاب، الترجمة التي تعطينا الرؤية الناضجة حول المفاهيم والقدرة على تبسيطها للمتلقي كي يتعايش معها وفق ما هو مطروح دون انحياز او تجاوز للمنطق المخصوص، وبحق ذلك ليس بغريب على الدكتور جكر الذي اقدر سعيه الدائم لخلق انموذج كوردستاني شرقي يقتدى به ليس هنا فحسب انما حتى في اغترابه.
اما الكتاب فقد بقيت اقرأ فيه ليومين حتى لااقطع سلسلة الافكار التي تنتابني كمتلقي اولاً وكباحث ثانياً، ووجدتني اقف عند مفترق الطرق في الرؤية التي طرحها الكاتب، لاسيما اني استنبطت من النظرية التي يطرحها حول تاريخ البشرية ان هناك متغيرات اساسية تتحكم في مسألة تطور الانسانية، او بعبارة اخرى مرت البشرية بها، كالثورة المعرفية التي اعطتنا القدرة على ادراك الواقع والحقائق بشكل يتناسب ووجودنا الفعلي المغاير والمختلف عن الحيوانات، ومن ثم الثورة النيوليثية – الثورة الزراعية أو التحول الديموغرافي في العصر الحجري الحديث – التي من خلالها خرجنا من طور اللااستقرار والتنقل والبحث والجمع والصيد الى حالة من الاستقرار بسبب تعلمنا زراعة الارض، والمعترك الثوري الثالث هو الثورة العلمية التي دفعتنا كعنصر ” عاقل ” الى تطوير قابلياتنا المعرفية خارج دوائر مراقبة الاخر.
وهنا استحضر ما قاله احد الكتاب ” معتز ممدوح ” الانسانوية الجديدة: الوريث الاخير لمشروع التنوير الغربي، حول ما قاله هراري في كتابه الذي عنونه ب ” الانسان الاله: موجز تاريخ الغد ” : الانسانية في زماننا تجاوزت المجاعة والفقر والامراض والحروب، وصارت تواجه تحديات اخرى مختلفة في عصر مابعد الصناعة، ومن ابرز تلك التحديات الذكاء الاصطناعي، الذي يعتقد هراري انه من الممكن ان يؤدي الى زوال سيادة البشر واستعبادهم من قبل جيل جديد من الآليين. هذا فضلًا عن تحدي آخر ألا وهو محاولة هزيمة الموت، أي سعى الإنسان من خلال الطب الحديث لتجاوز الموت وتحقيق الخلود.
وهذا ما جعلني انحاز الى التاريخ كمدخل اكثر قيمة لفهم النظرية التي يطرحها هراري، فالتاريخ الذي طرحه من خلال كتابه بدءاً بيوم في حياة آدم وحواء، ومروراً بالطوفان – الفيضان – وسفينة نوح، ومن ثم تجليات التطور الانساني عبر الثورة الزراعية والتلازميات التي فرضها الواقع الجديد للانسان، ومن ثم الوقوف على معالم التطور الجسماني والمعرفي والانتاجي الانساني والاهرامات انموذجاً، وما اثار انتباهي هو طرحه لمفهوم لا عدالة التاريخ وفق منظور ربما لااتفق معه، ولكنه في الاجمال طرحٌ يثير في المتلقي التساؤل لاسيما انه لم يتوقف عند الطرح لذلك المفهوم فحسب بل ارفقه ببعض القرائن ومحاولات توحيد النوع البشري، ومن ثم محاولته لربط تلك المحاولة بمنظور السيطرة على البشرية عبر توظيفات مغايرة للرؤية نفسها – القمر الاصطناعي التجسسي – وسطوة المال وتناسل الافكار – الايديولوجيات المتناحرة – الامبريالية والنظام العالمي الجديد والرأسمالية التي طرحها كعقيدة ومن ثم عقيدة السلام التي تؤرق الانسانية، ومن ثم على الرغم من طرحه لفكرة الوثنية والوحدوية – الخير والشر – الا ان منطقه فرض عليه الانصياع لمبدأ الانسانوية وطرح فكرة عبادة الاديان للانسانية، الا انه بنظري اخفق في خلق مسار متوازن يمكنه من خلاله الوقوف بجدلية اخرى غير المثالية، على حقيقة العوالم غير المهمينة، بعبارة ادق عوالم الجوع والفقر والمرض والطائفية والمذهبية واللااستقرار وحتى الصراعات الدموية المستمرة والتي لم تتوقف منذ قرون، وهذا ما سيتطلب في الحقيقة فرض ايديولوجية انسانوية غير التي ساقها هراري وغيره من دعاة الانسانية، وبالطبع ذلك سيفرض ثورة اخرى نتيجة نزوح البشرية نحو العدمية واحتمالية تحولهم الى السايبورج الذين يستحيل تقريباً التعرف عليهم على انهم الهومو سابينس، ومع ان الفكرة يسيطر عليها الخيال العلمي بالاخص فيما يتعلق بالتصميم البيولوجي او الهندسة البيولوجية وخلق انموذج من الاحياء والتكنولوجيا في جسم واحد، الامر الذي يفرض قناعات قد تخالط ذهنية الانسان في وقتنا الحاضر باعتباره يعيش حالة من الذهول حول الفرضيات التي لامسها خلال العقود الماضية لاسيما فيما يتعلق بطروحات الفيروسات التي تحولت الى حقائق جعلت العالم يعيش حالة من العدمية واليأس لاسيما انه وجد كيف حول الحيوان حياته الى صراع مع البقاء وكأن الحيوان اصبح الهاً فرض عليه واقعاً جديداً ربما لم يكن ليخطر على باله يوماً، لذا فانه يريد احياء اسطورة فرانكشتاين، السؤال هل هذا هو المستقبل المتوقع، او هل هذا هو مايريده الانسان، او لنصيغها بعبارة هراري ” ماذا نريد أن نصبح في المستقبل ؟ ، بل ما الرغبة التي نريد تحقيقها..؟ ” … من لايخاف من هذا السؤال ، ربما لم يعطِ نفسه الوقت الكافي للتدبر فيه.