كَمْ كانتْ لهفتِي كبيرة،أَن أَسمعَ حِكايَة صَديقنا (سَمير) وَمأساة ما جَرى لَهُ مَع الكَلبِ الأَسودِ، وَكيفَ حدثَ لهُ ذلك، لَبيت الدَعوة بِكُلِّ سُرور، وَذهبتُ لشقتهِ عَلَى جناحِ السُّرعَةِ، عندما دَعاني صديقي (جَميل) ليقصَّ لِي الحكاية كما سَمِعَها عَنْ لسانِ (سَمير) عندما زارهُ فِي المستشفى، وَاستمعَ لَهُ وَهوَ يحكيها له بأدق تفاصيلها، يَضحكُ (جَميل) وَهوَ يَدعوني للتَفضلِ بالجلوسِ حولَ طاولةٍ اعدت لنا فقط فِي شُرفةِ شقته المُطلة عَلَى البَحر.
– سَأَرويها لكَ يا صَديقي وَأَنا فِي دهشةٍ لما جرى لهُ، سَأَرويها كَأنَنِي ظلَّهُ أرافِقُهُ، إنها بحق فلم سينمائيِّ مِنْ افلامِ الخَيال.
– أغلقتُ الهاتف (النَقال) كما طلبَ منِي مُضيفي(جَميل) وَرحتُ أَنصتُ لِما سوفَ يرويه بكلِّ جَوارحي وَهوَ يبدأ حديثه عَنْ كلّ ما جَرى لـ (سَمير):
لَمْ يكن يَعرفُ (سَمير) مِنْ أَينَ جاءَ اليه دُفعةً واحدةً كُلّ هذا القلقُ وَالاِضطِرابُ، انَّها ليست المَرَّةَ الأَولى التي يَعيشُ فيها لوحده فِي الشقةِ لعدةِ أسابيع بلْ حتَّى لأَكثر مِنْ شَهر.
مَضَى أُسبُوعٌ واحدٌ مذ سافرتْ زوجتهُ لدولةٍ مجاورةٍ لهم؛ للاِطمئنانِ عَلَى حالِ أَبنتهما وحفيدهما بَعدَ أزمةٍ صِحيَّةِ ألمتْ بهما، وَطلبت من أُمها اَن تأتي لمساعدتها، عَليه اَن يعيش وحده فِي شقتهِ الفارهة، وَالتي تَحتوي عَلَى غُرفتينِ للنومِ وَصالةٍ واسعةٍ وَمطبخٍ حَديثٍ، وَجهازي تلفازٍ أحدهما فِي الصالةِ والأخر فِي غرفةِ المَكتبِ ذات المكتبة العامرة بمختلفِ أنواعِ الكتب.
فمُنذُ الليلةِ الأُولى لِسفرِ زوجته، حدثَ له ما لمْ يكن فِي الحسبان، فكُلما أَطبقَ عَينيه وأَرادَ أَن يخلِّدَ للنَّومِ يَطوفُ عَليه فِي المَنامِ (كلبٌ أسوَد اللون) ضَخمُ الجُثةِ، يُحاول الهجوم عليه، بَلْ قال لِي: أنه هَجم عليه ذات ليلةٍ فِعلاً، فَفُزَّ مِنْ غفوتهِ القصيرةِ وهو بأشدِ حالاتِ الخَوفِ والذعرِ.
كانَ الحُلمُ يتكرَّرُ يعود اليه كُلما حاولَ النَّومُ مجدداً، فَخاصمَ جفونهُ النوم، وحل محله السهر والاِضطراب، هكذا يَبقى طوالَ الليلِ وهو يتقلبُ فِي فراشه يُلازمهُ الأَرقُ لا يُفارقه القلقُ، حَتى مطلَعِ الفَجرِ.
طوالَ النَّهار يَبقى مُتعباً مُتكدرَ المَزاج، منهك القوى وَهو يَدورُ فِي دوامةِ كابوسِ الحلمِ، يزيدُ مِنْ رعبهِ حدثٌ قديمٌ لا يريد أَن يفارق تفكيرهُ وَيبرح ذاكرته مُنذُ كانَ يافعاً، حادِثُ الكلب الذي (عَقَرَ) (الفَلاح) وَهُو يَزرعُ في الحقلِ المجاوِر لمدرستهِ، وَأنتشر الخبر وقتها بينَ أبناءِ الحي، وَكيفَ هرع الناسُ لقتلِ الكلب، وأرداه اَحدهم ميتاً ببندقيَّةِ الصيدِ، وبقيت الناس تتابع بقلقٍ أخبار الرجل وهو يرقدُ في بيته محموماً، وفارق الحياة بعد (أسبوعيين) وهو يهذي من الحُمى، قالوا أنه ماتَ (بداءِ الكَلَبِ) أثر عضَّة (الكلب المسعور) بقيَ الحدثُ يُلازمهُ مُنذُ ذلكَ الحينِ، رغمَ مُرور ما يقاربُ خمسةَ عقودٍ مِنْ السنين، عادَ ليتزامنَ مَع كابوسِ الحلمِ، لقد كانَ فِي المرةِ الأُولى الكلب الذي (عضَّ) الفلاحُ (كلباً) واسع العينين أسودُ اللونِ ايضاً كأنهُ نفس الكلب، أخبرني أنه كانَ مرعوباً من هذه المصادفةِ العجيبةِ.
صَباحَ يَومِ الجُمعةِ، نهضَ من فراشِ النومِ متعباً، أعدَ لنفسهِ الفطور(بيضتان) سلقٌ كامل، وقطعة خبز، وطبق فيه قطع من الطماطم والخيار والزيتون، بَعدَ تناولِ الفطور،عملَ قدحاً من الشاي، ثمَ أتجه لصوبِ مكتبتهِ العامرةِ، وَبدأَ يَبحثُ بالكتبِ التِي تَبحثُ فِي تَفسير الأَحلامِ، فالمكتبة عامرة بكتبِ تَفسير الرُّؤيا والأَحلام ، اختارَ مِنها ثلاثةَ كُتبٍ:
الأَحلام بَينَ العلمِ وَالعقيدة للـدكتور عَلي الوَري
تَفسير الأَحلام / لسيجمود فرويد
وَكتاب تَفسير الأَحلام / لإبن سيرين
بَدَأَ بِتَصفُّحِ كِتاب (عَلي الوَرديِّ) استوقفتهُ فقرةً كتبها (الوردي) عَنْ الأُستاذِ (كويه) الباحثُ الفرنسي والتي تُعرفُ بـ (قانون كويه ) يقولُ فيها :
(إذا سيطرت فكرة على إنسانٍ بحيث صارت متغلغلة في اغوارِ عَقله الباطن فإن كلّ الجهود الواعية الذي يبذلها الإنسان في مكافحة تلك الفكرة تؤدي إلى عكس النتيجة التي كانَ يبتغيها منهُ.)
دَقَقَ بالعبارةِ وَأَعادَ قراءتها أَكثر مِنْ مرةٍ، استل دَفتر مُلاحظاتهِ ودَون العبارة فِيه، وَهوَيسأَلُ نَفسهُ بصوتٍ مَسموعٍ:
– هَلْ يَا ترى بَدأَتْ الفكرةُ تتغلغلُ فِي أغوارِ عقليّ؟
فَزِع مِنْ هذا الإستِنتاج، أَغلقَ كِتابُ (الورديّ) وَوَضعهُ جانباً، فَمعظم الشروحات فِيها فَلسفة وَالعديد من وَجهاتِ النَظَرِ وَالجدلِ وَالتأَويل.
وَتَجَنّبَ الخَوض بِمُطالعةِ كِتاب (فرويد) يعرفُ كِتابته الفلسفيَّة أكثر عمقاً وذاتَ صبغةٍ فلسفيَّةٍ كثيرة التَعقيد والتَّهويل والتَّأويل مقارنةً بكتاباتِ الدكتور(عَلي الورديّ) بهذا التَّخصُّص.
بَدأَ البَحثُ فِي كتابِ ( تفسير الأَحلام/ لأبن سيرين) فـَـ (ابنُ سِيرين) أَشهر مِنْ نارٍ عَلَى عَلم بِهذا الضَّربِ مِنْ التَّخصُّص، بَعدَ تَصفحه بالكِتابِ لدقائقٍ، وَجَدَ مُبتغاه وَهو يَشرحُ (الحلم) المتتكر بـ (الكلبِ الأَسودِّ فِي المَنام ) ازدادَ رُعباً وَهو يقلبُ رُؤيا (الكلب الأَسود في المنام). الموضوع مُتشعب الجَوانب، فيشرحُ ويفسرُ بالتفصيلِ للعديدِ مِنْ الاِحتمالاتِ وَالحالاتِ، فالكلبُ الأسّود إذا هاجمَ (رجُلاً) يُفسرُ بشكلٍ يختلفُ عَنْ مهاجمةِ أمرأةٍ أو شابٍ أو فتاةٍ باكرٍ، أو امرأةٍ حاملٍ، وَكذلك يتطرقُ لكلِّ حالةٍ من حالاتِ الحُلمِ:
– هَلْ هاجَمك؟
– كيفَ كانَ ينظرُ أليك؟
– هلْ عضك فِي الحلم أو مزق ثيابك؟
– هلْ كانَ ينتظركِ ببابِ الدارِ، وهلْ أستمرَ يتعقبك؟
جميعُها تدلُ عَلَى شَخصٍّ يتعقبُ خطاك يراقبك يريدُ بك شراً وَهَو حاقدٌ وحسود. سَرحَ فِي خَياله وبدأَتْ تتواترُ الأًسئلة المُحيرة فِي رأَسهِ:
– منْ يكون هذا الكلبُ الأسودُ الذي يتتبعُ خطاي؟
– وماذا يُريدُ مِنِّي؟
– أيُّ حِقدٍ وَغِلِ يحملُ قلبهُ الأسودَ هذا؟
تَناولَ دَفتر المُلاحظاتِ وَالقلم، وَهو فِي مُنتهى الشرودِ، وَضَعَ يديه عَلَى وجههِ وأَغمضَ عينيه وهو يحاولُ التَّركيز، لتدوين بَعض أسماءِ الذين يتوقعُ السّوء مِنهم. بدأَ يفكرُ وهو يستذكرُ الحِكمة المُتداولة القائلة (سُوء الظَّنِّ مِنْ حُسنِ الفطن) وَيسالُ نَفسه:
– من تظنُ هذا الشخص الذي يَتعقبني؟
– هَلْ هو مِنْ الأَقاربِ أم مِنْ الأَصدقاءِ أم مِنْ مجموعةٍ أو جهةٍ أخرى لا اتوافقَ مَعها بالأفكارِ وَالآراء والمواقف؟
كشريطٍ سينمائيٍّ بدأت تترادفُ أمامَ ناظِريه العَديد مِنْ الصوَرِ وَالأَسماءِ والمَواقفِ، وَبرزَ سؤالٌ أخَر يَلحُّ ويتقدمُ الصور والأسماء، احتمال ان تكون (إمرأةٌ) هِيَ التي تَتَعقبي فأنا لا أَعرف بالضبطِ:
– هَلْ هوَ كلبٌ أَسود أم كلبةٌ سوداء؟
تَشتتتْ أفكاره، وإزدادت الإحتمالات، ابتدَأَ بتدوينِ أربعةَ أسماءٍ مِنْ الأقاربِ، ثم تبعها بثلاثةٍ من أسماءِ الأَصدقاء، وأَضاف أَخر اليهم، إذن أصبحوا أَربعةً مِنْ الأصدقاءِ الذين يتوقع السوءُ منهم، وَعندما بدأ بقائمةِ الأشخاص الذين لا يتوافق معهم فِي الآراءِ والمواقف ويتوقع منهم كُل السوءِ أكتفى بتدوين أربعةِ أسماءٍ منم أيضاً.
وَعندما بدأ بقائمةِ النساء برزتْ أمامهُ صور (أَربعة نساء) خليطٌ بين الأقاربِ والأَباعد!
يضحكُ وَهو يَفرغ مِنْ تدونِ الأسماءِ، مُتذكراً الشاعر وَالروائي اليوناني الشهير(نيكوس كازانتزاكيس) وروايته الشهيرة (الإخوة الأعداء).
تشظتْ أَفكارُه، وراحَ يسبحُ فِي تيهٍ واسعٍ عَميق، فيما برزَ أمامهُ قَولُ الله تعالى (إِنَّ بَعضَ الظنِّ إِثمٌ) لتزيدَ مِنْ ارتيابه، بدخول صراعٍ جديدٍ لحلبة (سُوء الظنَّ وحُسنِ الفطنِ) فسوءُ الظنِّ بالأقاربِ والأَصدقاءِ يدفعُ للجفاءِ ويزيدُ العداءَ وَالبغضاءَ وَيهدمُ جسورَ المَودةِ وَالوصال.
أَغمَض عينيه باسترخاءٍ وهو يتأملُ… بدأتْ الأفكارَ والأَسماءَ وَالحكم والأَمثال تنهالُ عليه تتزاحمُ وتنشطرُ برأسهِ كورمِ السَّرطان.
قَرَّرَ أن يُغلقَ هذا الباب، نَهضَ مِنْ مَكانه، أَعادَ الكُتب للمكتبةِ، ودسَ القائمة التي دونَ فيها الأسماء بكتاب (أبن سيرين) وَذهَب للمطبخِ يُعدُّ لنفسه (كوباً من القهوة) وَهو يفكرُ فِي إعداد وجبةٍ لطعامِ الغداء.
وَفِيما هو يَتناولُ طعام الغداء عَلَى أَنغامِ موسِيقى هادئةٍ، حضرت على باله فكرة مدهشة جديدة، قرَّرَ أَنْ يذهبَ في جولةٍ قبل حلول المساء وبدأَ مباشرة يُسلسلُ برنامجَ السهرةِ:
(أأخذ باص النقل العام، وأذهبُ للتجولِ فِي وسطِ المدينة، وَمِنْ ثُمَ أَختار(حانة) – بار ومطعم- أسهرُ فيها هذه الليلة ، أتناولُ (الجُعة) مع وجبةِ طعامِ العَشاءِ، أستمتعُ بمشاهدٍ حيةٍ مِنْ الموسيقى وَالرَّقصِ الطَّربِ، وأخرج مِنْ هذا الرأسِ كُل هذه الأَفكار فشراب (الجعة) فِي (الخمارة) أفضل ألف مرةٍ مِنْ التَّفكيرِ بهذا الكَلبِ اللعين).
وَفِيما هو في خِضمِّ هذا المِضمارِ، رَنَّ الهاتِفُ (النَّقال) يَنظرُ للمُتَّصلِ رقم وأسم زوجتهُ على الشاشةِ، يَفتحُ الأتصال:
ألو،أَلو، ألف أهلاً
جاءَ الجواب: أهلاً حَبيبي، كيفَ حالك؟ أَن شاءَ الله بخير؟
– نَعمْ ،أَكيد بخير، سألها عَنْ أَخبار أبنتهما وَطفلها وَزوجها؟
– جميعهم الآن بخير، لَمْ يَبقَ لعودتي سوى ثلاثة أيام.
وهو يَصغِي لحديثها لكنهُ فِي حيرةٍ وَترددٍ هلْ يُخبِرُها عَنِ مُعاناته وَوَضعِهِ وَقصة (الكلبِ الأَسود) الذي يطوفُ عليه فِي المنام أم يُبقي المَوضوع طَي الكتمان لحِين عَودتِها؟
يَهتَدِي اَن يُؤجل إخبارَها لِحينِ عَودتِها، لَكنه يُخبرها عَلَى ما عَزَمَ عَلَيه هذا الَمساء، تَدعو لهُ بنُزهةٍ جَميلةٍ وَسهرة أجمل.
يَغلقُ الهاتِف (النقال) عَلَى أَمَلِ الاِتِّصال مَساء اليومِ التالي.
قبلَ أن يخرج مِنْ شقته راجع من خلالِ( الهاتف النقال) حالة الطقس لهذا اليوم:
(الجَوُّ باردٌ مَع رياحٍ شماليةٍ باردةٍ، السَّماءُ ملبدةٌ بالغيومِ، مع احتمال زخات مطر في المساء)
كان يعلمُ جيداً إن الشتاء داهمَ المدينة مُبكراً هذهِ السَّنة، وبعضُ المدن المجاورة لمدينته سقطَ فيها( الثلجُ) منذ عدةِ اسابيعٍ.سريعاً ارتدى المِعطف (الجُوخ الأَسود) الجديد فوق البدلةِ الشتويَّةِ، وَغطاء للرأس ولفاف للرقبةِ يقيه مِنْ زمهريرِ البردِ، وأخذ بيده (مَظَلَّة) مَطريَّة.
استقل باص النَّقل العام الذاهب لمركز المَدينة، واتَّخذَ لنفسه مقعداً جنب امرأةٍ كبيرةٍ بالسنِ تَجاوزت الثمانين لكنها أَنيقة، كانَ عِطرُها أخاذ، سريعاً وصلَ الباص لمركز المدينة.
أزدادتْ بهجته وهو يشاهد حركة الناس وهي تَعجُ بالحياةِ الليليَّةِ فِي الشَّوارعِ والمتاجرِ التي تَتَلألَأ بِمظاهر الزِّينةِ لقربِ موعدِ الاِحتفال بأَعيادِ الميلادِ والسنَّةِ الجَديدة، نَشَراتِ الأَضويَةِ المُلونةِ، وأَشجار عِيد المِيلاد، فِي كلِّ مَكان، تجولَ بحيويةٍ فِي شَوارعِ (سنتر) المدينةِ المُخَصصَّةِ للمشاة، وَبعض أَسواق الملابس والعُطور والهَدايا، اندلف فِي مَتجرٍ كَبيرٍ لبيعِ (المشرُوبات الكحوليَّة) وهو يعرض بضاعته بعنايةٍ وهندسةٍ جميلةٍ فقد رُصفت وَصُففت وَرُتبت وصنفت بشكلٍ يُبهرُ النظر أنواعاً وأشكالاً وأحجاماً لقناني وعُلب المشروبات الكحوليَّة فيه، أمتدت يَده عَلَى (قنينة ويسكي) (جُوني وايكر – دوبل بلاك ليبل) ذات العُلبةِ السَّوداء، وبسعة (واحد لتر) عَليها تَخفيض خاص لهذا اليوم فقط ، مِقداره(نصف السعر) وَكتبت بِجنبها ملاحظة : (يَحقُّ لكلِّ (زبون) أَنْ يأخذَ قنينةً واحدة).
لَمْ يعرفْ بِالضَّبطِ مَا هِي المناسبةُ الَّتي دَعتهم لِهذا العرض والتخفيض المُغري، اخذَ مَعها (قِنينتانِ صغيرتانِ مِنْ الويسكي) كُل واحدةٍ بسعةِ (50 مل) جاء له فكرة أن يشربها فِي الحديقةِ الواسعةِ المُجاورةِ لشارعِ التَمشي، كثيرٌ مِنْ الناسِ تَشربُ هكذا، وَضعَ (مشترياته) فِي (كيسٍ) على شكلِ حقيبةٍ صغيرةٍ ملونةٍ مِنْ الورقِ، تباعُ بمتجرِ بيعِ المشروباتِ الكحوليَّةِ، بَعدَ أَنْ سددَ ثمنها.
اندَلفَ سَرِيعاً إلَى الحديقةِ المجاورة لشارع التمشي، جَلسَ عَلَى أَول (مَسطبةٍ) فارغةٍ لا يوجدُ أيُّ شَخصٍ يجلسُ عَليها، سَحبَ بتأَنِي مِن (الحَقيبةِ الورقيَّةِ) الَّتي يحمِلها أَول قنينة ويسكي صغيرة وفتحها وَدَلقَ كل محتوياتها دفعةً واحدةً فِي فَمه، بَعدَ برهةٍ من الزمنِ دَبَّ دَبيبها المُنعش، سَحبَ القنينة الصغيرة الثانية وشربها هذه المرة عَلَى مهلٍ، تخلصَ مِنْ (القنينتين)الفارغتين فِي صندوقِ للقمامةِ كانِ يبعدُ بِحدودِ ثلاثةِ امتارٍ مِنْ (المَسطبةِ) الَّتي كانَ يجلسُ عليها، عادَ مجدداً لشارعِ التَّمشي الرَّئيسي.
رغمَ البردِ فِي شَارعِ التَّمشي المُكتظِّ بالمارةِ كانَ يسيرُ مُنتشياً سَعيداً، خُصوصاً بَعدَ أَنْ حَصلَ عَلَى (قَنينة الويسكي) وجرعات منعشة من الويسكي والتي تناولها للتو، اختار مَقهى فِيه طاولة فارغة تطلُّ علَى الشارعِ العام للاستراحةِ ولتناولِ فنجان مِنْ القهوةِ، خلالَ الاِستراحةِ كانَ يتصفحُ أخبارِ العالم مِنْ خلالِ هاتفه (النقال) ويراقبُ حركة الناس فِي الشارع، وهي تزادُ سُرعةً وكثافةً وَمَعهما كانَ رَذاذُ المَطر يزدادُ هطولاً كذلك.
حَزمِ أَمرِه أَن يذهبَ إلى (الحانة) إعتادَ الذهابَ أليها وَخصوصاً فِي مثلِ هذا اليومِ (مساء الجمعة) فهو يعرفُ جيدأَ أنَ غداً (يوم عطلة) تكون أماكنَ السَّهرِ وَالسَّمَرِ( المطاعم والمقاهي والبارات وكلّ أَماكن اللهو) مكتظة بالناسِ، وَضاجة بالمُوسيقى والرَّقصِ وَالضَّحك.
بَعْدَ استراحةٍ لأِكثرَ مِنْ ساعةٍ، أرتدى مِعطفِه مجدداً وَغطاءَ الرأسِ، وَاللفاف، وسارَ مُحتمياً بمظلته باتجاهِ (حانته) المُفضلة، شعرَ أن البردَ قَد زادَ فيما بدأَ رذاذ المطر يزدادُ كثافة بهطوله، اندلفَ فِي (الحانة) جالتْ نظراته تتفحصُ طاولاتِ الجلوسِ اختارَ أحدى الطاولات المطلة عَلَى الشارعِ وتشرفُ عَلَى صالة (البار) أيضاً، وضعَ مِعطفه واللفاف وغِطاء الرأسِ وحقيبة (الويسكي) عَلَى الكرسيِّ الذي بِجوارِه.
نادِلُ الطاوِلةِ الَّتِي أختارها لجلسته تُديرها (فَتاةٌ) كانت رشيقة طَويلةَ القامَةِ، ناهدةَ الصَّدرِ، حَسناءُ الوَجهِ، بعينينِ ساحِرتين بزرقتها، ناوَلته ( قائمةُ المشروباتِ وَالطعام) تَمعنَ بِها كالمسحور، وَبعدَ فترةٍ طلبَ منها أَنْ تأَتيه بِعلبتين مِنْ (بيرة كورونا) اعتادَ أَنْ يشربها فِي هذه (الحانة) أَنها مِنْ المنتجاتِ (المكسيكية) اللذيذة، واختار مَعَها بَعضَ المُقبلات مَع وجبةِ عشاء (ستيك لحم بقر) سجلتْ (النادِلةُ الفاتنةُ) الطلبات في دفترٍ صغيرٍ، اخبرها أنَّ مَعه فِي هذه (الحقيبة الورقية) وَوَضعها عَلَى الطاولةِ أَمامِه، عُلبة ويسكي اشتراها للتَّوِ، وأخبرها أنه سيأخذها مَعِه للبيت، لا أَيشربُها هنا.
ابتسمتْ.. وَقالتْ له لا تُوجَد أَي مُشكِلة بِذلك.
بَعدَ بُرهةٍ مِنْ الزمنِ جاءت (النادلةُ) بِعُلبتي البيرة (كورونا) وَطبقاً فيه (جبس وَفستق حَلبي) وأَخبرته إن العشاء يتأخر بحدودِ الساعةِ ويكون جاهزاً. طلبَ مِنْ (النادلةِ) الجميلةِ قائمة الحساب، وأخرجَ مِنْ محفظته، الكارت الخاص لدفعِ قيمةِ فاتورةِ الحساب، وسددَ الحساب لها..
شَربَ (قنينة الجعة الكورونا ) الأَولى، وَقبل أَن يكمل الثانية جاءت وجبة الطعام.
أتمَ تناولَ (العَشاء) وارتشفَ أخر كأسٍ مِنْ (الجعة) بلذةٍ وهوَ مندمجاً مَع صوتِ الموسيقى وأَغاني لاحتفالٍ بعيدِ ميلادِ زواجٍ (لامرأةٍ وزوجها) يَجلسان لوحدهما على مائدةٍ منفردة صغيرة تتوسطها (شمعة متوهجة) يجلسان عَلَى مقربةٍ مِنْ طاولته، طوال الوقت كانَ يتلصص بحذرٍ لِهمسات الحبِ وصوتِ القبلِ التي يتبادلانها، وقد صفقَ مع مَن صفق وَغنى مع مَن فِي الصالةِ مع المقطوعةِ الموسيقيةِ الصادحةِ الراقصةِ التي عزفت خصيصاً لهما.
نَظرَ إلى ساعته فِي هاتفه (النقال) الساعة تشير إلى الحاديةِ عشر ليلاً (يكفي لهذا الوقت هكذا جاءَ قرارهُ) شعرَ إن مثانتهُ مليئة، نهضَ وذهبَ إلى (المغاسل ودورة المياه) عادَ لمكانه بَعدَ أفراغِ لتراتِ (الجعة) مِنْ مَثانته
فيما هوَ في هذه النشوةِ بَعدَ أَن شعرَ أن هماً ثقيلاً قد زال عَنْ صدره، في نفس هذه اللحظة شاهدَ مفاجئة كادت أن توقف قلبه.
سيارة (البُوليس) وهِي تقفُ مقابلَ الواجهةِ الزجاجةِ بالقربِ مِنْ المكان الذي يجلسُ فيه، يَفصِله عَنها فقط اللوحُ الزجاجي، تَسمرتْ عَيناه عَلَى أربعةِ افرادٍ مِن (البوليس) المدجيينَ بسلاحِهم وَبعُصيهم الكهربائيةِ وهُم يترجلون مِنْ السَّيارةِ، فِيما يَفتحُ أحدهُم الباب الخلفِيَّ للسيارةِ، يَقفزُ منها (كلبٌ ضخمٌ أَسود)، يَتَقَدمُهم (الكلبُ الأسودُ) يتوجهونَ للدخولِ من بابِ الحانة.
بصوتٍ – مَسموعٍ- كأنه يخرج مِنْ داخلِ رأسه يهتفُ:
– يا للحظِّ التَّعيس الكَلبُ الأَسود يَتَتَبعُ خطاي؟
أَصابته نَوبة مِنْ الهلعِ والإرتباكِ، أزدادت ضرباتُ قلبِه، عيناه تُلاحقُ (الكَلب) وَالشرطة وهُم يهمون بالدخولِ مِنْ بوابةِ المطعمِ، اندفعتْ يداه سريعاً تَجمعُ أغراضِه.
وضعَ مِعطفِه على ساعد يديه وحملَ (حقيبة قنينة الويسكي) وَغِطاءُ الرأسِ وَاللفاف، وَسارَ فِي خُطى حَذرةٍ في ممرٍ أَخر يُوصله لبابِ الخروج، دونَ أن يلتَّقِي بالكلبِ وَجهاً لوجه ، كادَ أَن يخرجَ مِنْ البابِ، تذكرَ أنهُ قد نسى (مظلته) استدار بغيرِ وعيٍ كيْ يجلبها ،عادَ عَلَى عجلٍ بذات الممرِّ، فِي أوَّلِ استدارته، وَهوَ يهم بألتقاطِ المظلة، حافة المِعطف الذي يحمله على يده، يرتطمُ بكأسٍ مليءٍ بنبيذٍ أَحمرٍ، وهو بيدِ ذات (السيدة) المحتفلة بعيد ميلاد زواجها والتي كانَ التصفيقُ ببهجةٍ يهز ارجاء الصالة لها، سقطُ الكأس من يَدها على الطاولةِ وغمرَ (النبيذ الأحمر) مَلابِسها.
بِغيرِ وَعيٍ اتجه مندفعاً صوبها لغرضِ الاِعتذارِ ماداً يده ليمسكَ الكأَس الذي يَتدحرجُ أمامَ (السيدة) فوقَ الطاولةِ، جَفَلتْ المرأةُ منه وبدأت تصرخُ فزعةً متذمرة، تنزلقُ (الحقيبة الورقية) من يدِه عَلَى أرضِ البلاط المرمري اللامعِ ،سمعَ الارتطام بالأرضِ وصوت تهشم قنينة (الويسكي) بجانب كرسيها، رائحة (الويسكي) تنبعث سريعاً بالمكان، تملكه الذعر وازدادَ ارتباكاً، حاولَ أَنْ ينحني ليلتقط (الحقيبة الورقية) الذي استقرَّ سقوطها بجوارِ كرسيِ السيدة المحتفلة، راحتْ (المرأة) تصرخُ بصوتٍ عالٍ غاضبٍ، وَهِي تحاولُ مَنعه من التقرب إليها بحركة من يديها كدفاع عن النفسِ، زوجها يَصرخُ معها، بكلمات لمْ يفهم منها شيئاً.
أحسَ أن جميع الانظار التي فِي الصالةِ تلتفتُ وتحدقُ بتوجسٍ واندهاشٍ إليهم، دارتْ به الدُّنيا، وزدادَ هلعاً وحيرة حاولَ أَن يكلمها تَعثرت الكلماتُ بتمتمةٍ بفَمه لا يعرفُ سبب ذلك:
– هَل مِنْ الخَوفِ أم بسبِ حالة الارتباك أم من تأثير الخمر؟
شعرَ إنَّ كلَّ من فِي صالةِ (الخمارة) يصوبُ عيونهُ نَحوه، بفزعِ ورعبٍ عيناه تراقبُ نظرات (عيون الكلب الأسود) وهو يتقدمُ بإتجاهه، يحدثُ هرجٌ يتداخلُ مَع صوتِ الموسيقا الصاخبِ فِي المَطعم، شعرَ إن رأسه بدأَ يدورُ بَيْنَ صراخِ المَرأةِ وَعُيونِ الناسِ فِي الصالةِ وَالشرطةِ والكلبِ والموسيقا وتأثير الخمر، لا يعرفُ ماذا حدثَ لهُ بَعدَ ذلِك.
أَحَسَّ إنَّ يداً حنونةً فوقَ جبهتهِ تتحسسُها، وَهِيَ تُزيلُ برفقٍ قطراتٍ مِنْ العرقِ المتصببِ مِنها، فيما صوتٌ ناعمٌ خافتٌ ينسابُ إلى أذنيه وهو يرددُ إن صحتهُ اليومَ أَفضل وَنبضات قلبه وتنفسه مُستقرتان.
يَفتَحُ عينيهُ بتثاقُلٍ، أربعةُ نسوةٍ بملابسٍ بَيضاء حولهُ يتناوبنَ الحديث فِيما بينهن، صَوتٌ مَلائكي فِيه كثيراً مِنْ الرقةِ وَالحنانِ يتحدثُ باتَ يسمعهُ بِضوحٍ أكثر وَهو يرددُ:
ـ فِي الأَيامِ الأَولى كانَ يَتصبَّبُ عَرقاً، وهو يَهذي بكلماتٍ مُحدَّدَةٍ (المَعذرة، المَعذرة، العفو، أَسف، كَلبٌ أَسود) هذه الكلِماتُ كانتْ لا تفارقُ لسانه.
يُجيبها صوتٌ أخرُ هامساً:
– إنها الحُمَّى التي لازمتهُ للأيامِ الثلاثةِ الماضيةِ، لكن وضعهُ الآن مُستقر وزالَ عنهُ الخَطر، سيتحسنُ سريعاً، ونعرفُ ماذا جرى لهُ وَما هو سِرُّهُ.
صوتٌ نسائيّ رقيق النبرات يخبرُ الجميع: إنَّ زَوجتهُ تنتظرُ بلهفةٍ سماعَ خبر تَحَسن حالتهِ فَهي مُنذُ ثلاثةِ ساعاتٍ تنتظرُ بفارغِ الصبرِ فِي غرفةِ الاِستِعلامات.
كُتِبَتْ فِي مالمو مَملَكةِ السّويد 2020