خاص : حاوره – محمد البسفي :
بعد أن كشف، في الجزء الأول من محاورته المطولة معنا؛ مواطن معاناة السينما العربية وعلل واقعها الحالي، مبينًا بمبضع جراح محترف سرطان الاحتكارات التي سرقت السينما من جمهورها الحقيقي.. يستمر الدكتور “مالك خوري“، الناقد اللبناني، ورئيس قسم السينما بالجامعة الأميركية بالقاهرة، في الجزء الثاني والأخير من حديثه؛ الذي يواصل فيه فضح دعاة الفكر “ما بعد حداثي” وتأثيراتهم في واقع السينما العربية وما يكرسونه من فلسفات “الضياع” كحالة طبيعية مستهدفة التسويق والترويج في ثقافتنا المجتمعية عبر آليات “اللعب” بالعبثية التي أصبحت غاية سينما ما بعد الحداثية الحالية !
ولم يكتفي “د. مالك خوري“، بتشريحه الحال السينمائي الآني المتأزم؛ بل وضع مقترحاته وتصوراته للخروج من تحت مظلة الاحتكارات الرأسمالية – فلسفيًا وفنيًا وسينمائيًا – العنكبوتية، واضعًا ما يشبه “المنافستو” موجهه لشباب ومبدعي السينما الجدد لاستغلال نفس آليات الرأسمالية المعولمة، من تقدم في وسائل الاتصال والتواصل التكنولوجي، ولكن لإنتاج مشاريعهم السينمائية “المستقلة”، فكرًا ورؤى ورسالة، لخلق شخصيات سينمائية منحوتة من واقعنا العربي المعاش…
(كتابات) : انتشار الفلسفات العدمية والتفكيكية والأفكار الفوضوية وغيرها من مدارس فلسفات ما بعد حداثية.. ألا تراها أثرت على المنتج السينمائي العربي الذي تنتجه لنا شركات شبه متعددة الجنسيات لترسيخ مفاهيم شمولية محددة سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي.. فأصبحت مقولات مثل “الواقعية” الاجتماعية و”الصراع” الاجتماعي وغيرها من مقولات تقدمية منبوذة سينمائيًا بل ومحاربة لتحل محلها توجهات أخرى مثل “التطبيع مع العدو القديم” و”صراع الحضارات والأديان” وغيرها ؟
- أعتقد أن هذه الاتجاهات العبثية وجدت لنفسها متنفس؛ تحديدًا بعد الأزمة المفصلية التي عانت منها قوى اليسار الماركسي في العالم، نتيجة إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، في أواخر القرن الماضي. فقد تناغمت هذه التيارات العبثية، في تفكيرها وأسلوب تعبيرها الفني، مع أجواء انسداد آفاق التغيير في تلك الفترة نتيجة لزلزال إنهيار معظم الأنظمة الاشتراكية في تلك الفترة.
مع بداية التسعينيات من القرن الماضي؛ ومع الزلزال الذي ضرب العالم مع إنهيار الدول الاشتراكية، والذي رافقه تصاعد جارف لأفكار تتحدث عن نهاية التاريخ والسياسة والإيديولوجيات، وعن إنعدام جدوى البحث عن بدائل لواقع الهيمنة الرأسمالية الشاملة، تمدد وإزداد تأثير أفكار كانت بدأت تظهر ببطء وبغير تناسق في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. وأطلق على هذه الاتجاهات الفكرية والثقافية، في حينه، بشكل عام وصف “ما بِعد الحداثة”. وتناغمت هذه الأفكار إلى حد كبير وبأشكال مختلفة مع التطورات السياسية الآنفة الذكر، حيث أصبح التركيز على المنهجية النسبية المطلقة أساسًا في رسم معالم التحليل المعرفي لأوجه عديدة من مواضيع البحث الثقافي والسياسي والاجتماعي.
الكثيرون من الذين تأثروا بتوجهات “ما بعد الحداثة” فقدوا، إلى حد كبير، اهتمامهم بالتقييم النظري لشكل وفاعلية السينما، في مرحلة رأوا فيها بداية لمرحلة “إنتهاء صراع الإيديولوجيات”. بيد أن فقدان الاهتمام بهذا الحيز النظري العام، من ناحية، شجع من ناحية ثانية فتح أطرًا كانت في السابق على هامش اهتمامات التنظير السينمائي.
وأصبحت التجليات السينمائية للمقولات، التي رافقت فترة “ما بعد الحداثة”، مثل “إعادة التدوير” و”اللعب العبثي” بأساليب تركيب الفيلم، والإحتفاء بخلط الأزمنة والأمكنة، والإبتعاد عن أحادية التوجه في الأسلوب والسرد، والمزج بين أنواع فيلمية أو Genres ، كالتاريخي والكوميدي والرعب والإثارة والخيال العلمي وما شابه، أصبحت كلها صفات بارزة ومتداولة في أفلام فترة الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من هذا القرن. وشكل هذا نوعًا من التجديد في طبيعة “القالب” السينمائي المهيمن وجعل الثقافة السينمائية، سواءً في المضمون أو في الأسلوب، تُصبح أكثر مرونة وقبولاً لاتجاهات سردية وشكلية متباينة. وخف، ضمن هذه الأجواء، ولع العديد من المنظرين السينمائيين في تركيز على قراءة القالب السينمائي وتقييمه حصرًا في إطار الإيديولوجيا.
على مستوى آخر، ساهمت هذه التوجهات بتكريس حالة الضياع السياسي والفكري، التي كما ذكرت سابقًا، كانت نتاجًا شبه مباشر لإنهيار التجربة الاشتراكية في “الاتحاد السوفياتي”. ففي السينما، يمكن رصد عدد من الممارسات التي جرى التعاطي معها في إطار تمثيلها للفكر “الما بعد حداثي”، والتي عكست حالة الضياع، لكن في إطار يحتفي بها كحالة ويكرسها كحالة طبيعية، بل ومتوخاة.
من ضمن هذه الممارسات، الاتجاه للخلط المتعمد والاحتفال بتقديم الأحداث بأطر مختلطة تاريخيًا ومكانيًا. مثل هذه الاتجاهات شملت رسم مكونات بصرية للسياق العام لسرد القصة تتسم بجمعها لمكونات آتية من فترات زمنية متباينة، (خلفيات لفترات مستقبلية مع فرعونية؛ مع تلك التي تقرن بالغرب الأميركي في أواخر القرن التاسع عشر)، أو مكانية مائعة، (كمدينة من المستقبل تضم تجسيدات عمارة ومطاعم وأمكنة وملابس متشابكة في ترابطها؛ على الرغم من تمثيلها لخلفيات عربية وصينية وأوروبية وغيره).
وفي كثير من الأحيان يطلق على هذا النوع من الممارسة الدمجية للعناصر توصيف “اللعب” بالأدوات والمرجعيات. وإذا كان هذا النوع من مستوى هذا “اللعب” ليس غريبًا عن بعض التيارات التي أقترنت مع مرحلة الحداثة، (السوريالية هي مثال على ذلك)، فإن التشديد هنا هو على “عبثية” اللعب والتأكيد على اعتباره بمثابة غاية بحد ذاته، والتي لا يجب أن يسمح لها بالإرتقاء إلى دعم أو تثبيت أو الاحتفال باتجاهات نظرية أو فكرية محددة. وعكس ما يتجلى في التقليد الفني المعروف بالمحاكاة الساخرة (Parody)؛ حيث يجري نوع من التقليد لأسلوب أو عمل فني محدد، وذلك بهدف انتقاده والتصويب على بعض مكوناته، (أفلام المخرج، “ميل بروكس”، في السبعينيات على وجه الخصوص)، فإن ما يحصل في الممارسة الما بعد حداثية هو شيء آخر. فهنا نحن أمام نوع من الاحتفال العبثي بالمرجعية التي يجري التعاطي معها؛ يُطلق عليه عادة تعبير (Pastiche)؛ والتي يُعاد تدويرها جزئيًا أو بشكل عام. وهذا لا يرتبط بالضرورة بالتعبير عن توجه إيجابي، أو سلبي، أو حتى “حيادي”؛ تجاه هذه المرجعية أو ما ترمز إليه أو تمثله.
كل هذا الأعمال ساهمت، كل من ضمن خاصيات ثيمية ونصية مختلفة، في إعادة رسم خطوط لسينما جديدة ولدت من رحم متغيرات مفصلية لرأسمالية متقدمة وأكثر سطوة وهيمنة على وعي من يعيش تحتها. هذه الأفلام عبرت إلى حد كبير عن حالة المراوحة والضياع والعبثية التي طبعت زمنها على وقع الزلزال الفكري الذي أصاب العالم بأشكال مختلفة، منذ تسعينيات القرن الماضي. إلا أنها من ناحية أخرى ساهمت، كما أشرنا سابقًا، إلى توسع أشكال التعبير السينمائي وتداخل هذا التوسع بثقافة السينما الشعبية بما فيها السينما المهيمنة. وما توسع من نفوذ سينما “مارفيل”، في العقد الثاني للقرن الحالي، إلا تعبير عن تراكمات التوجهات المغايرة في المضمون والأسلوب الذي رسمت معالمها الأولى “السينما ما بعد الحداثية” في آخر عقدين من القرن الماضي، والعقد الأول من هذا القرن.
أما ما كان يحدث في واقع الحياة فهو شيء آخر تمامًا. فلا التاريخ انتهى، ولا الصراع الطبقي انتهى، ولا الصراع ضد الاستعمار انتهى، ولا حركة الشعوب لإيجاد منافذ للتغيير انتهت. قد تكون أشكال هذه الصراعات والطبيعة السياسية لأطرافها قد تغيرت. وقد تكون الأطر السياسية للطروحات تتخذ أحيانًا أشكال التناحر الديني والإثني، لكنها كلها بالجوهر تعابير عن صراعات طبقية تحدث على المستويات المحلية والاقليمية والعالمية. فالأمبراطوية الأميركية ما زالت تناور لإبقاء هيمنتها على الرغم من المتغيرات الاقتصادية الضخمة التي حدثت على الأرض؛ وقضت إلى حد كبير على تلك الهيمنة التي كانت شبه مطلقة في السابق.
في بلادنا انعكس كل هذا بطريقة فجة ومقلدة بشكل سطحي لما كان يحدث في السينما الغربية بشكل عام، والذي اتسم في بعض مظاهر ساهمت بتوسيع أطر الأسلوب والسرد السينمائي. رافق هذا “تنظير” فارغ من أي محتوى لبعض السينمائيين الذين كانوا وما زالوا يحاولون تبرير انتقالهم إلى مواقع سياسية مناقضة لما كانوا عليه في مراحل سابقة. هؤلاء يلجأون إلى نوع من الانتقائية السياسية والفكرية والأسلوبية في أعمالهم السينمائية، والتي تهدف بالأساس لضمان الإبقاء على دعم أعمالهم من قبل الفئات المهيمنة على ثقافتنا السينمائية حاليًا، والذين أشرنا لهم تفصيلاً في السابق.
(كتابات) : هل ترى تبعيتنا السينمائية لمنظومة السينما الهوليوودية الأميركية، تبعية عضوية من الصعب تفكيكها نحو شخصية سينمائية عربية مستقلة أم التداخل العضوي الحالي أقوى من النوايا والأحلام ؟
- بالتأكيد لا.
صحيح أننا حاليًا في حقبة إزدادت فيها هيمنة قوى رأس المال على كافة مفاصل الإنتاج والعرض والتسويق السينمائي إلى مستويات غير مسبوقة. وصحيح أن هذا انعكس في العالم العربي في ترسيخ هيمنة شبه كاملة على الأسواق المحلية للسينما والإعلام المرئي والصحافة والمهرجانات من قبل رؤوس الأموال وموظفي دوائر القرار في دول الخليج العربية، التابعة بدورها لشركات رؤوس الأموال المتعددة الجنسيات لرأس المال العالمي. لكن حتى ضمن هذه الأجواء، ما زال اليوم هناك إزدياد لنشاطات فئات جديدة من السينمائيين القدامى والجدد على السواء من الذين يعملون ضمن أطر مغايرة تتيح في المجال لهم للتعبير عما يرونه أولويات فنية وثقافية وسياسية مستقلة وخاصة بهم.
من ناحية أخرى، فإننا نعيش في مرحلة أصبحت معها إمكانيات صنع الفيلم السينمائي “المستقل”؛ أقل كلفة عن أوائل الألفية بنسبة 80 بالمئة، وأسهل تقنيًا بنسبة 90 بالمئة. وساهم واقع الدمج التفاعلي بين وسائل الاتصال التسجيلي، السمعي والبصري ووسائل التواصل الاجتماعي؛ إلى جعل إمكانيات “التعبير” السينمائي أكثر توفرًا وإتاحة لفئات اجتماعية وطبقية وجندرية وديموغرافيات لم تكن لتحلم بأن يكون هذا متوفرًا لها أو ممكنًا منذ حوالي العقدين. وإزدادت إمكانيات مشاركة وعرض الأفلام “الخاصة” وتوفر المشاهدة الواسعة لها عبر الإنترنيت بنسب غير مسبوقة وأضعاف تلك التي كانت متوفرة من قبل.
لكن التناقض المتزايد بين واقع طموحات الأجيال الجديدة والمستقلة التوجه من السينمائيين العرب لإبداع الأفلام الخاصة بهم؛ وتوفر الكثير من الإمكانيات التقنية والعملية لإنتاج وتسويق والدعاية لأعمالهم من ناحية، وبين واقع التآكل المستمر لمساحات التعبير المسموح بها من قِبل قوى رؤوس الأموال المهيمنة على مفاصل العمل السينمائي والتلفزيوني والدعائي في بلادنا من ناحية ثانية، فإننا في الواقع أمام فترة حُبلى بفرص جديدة وفي نفس الوقت ملأى بتحديات صعبة.
في خضم هذه المعمعة وفي ظل هذه التناقضات القائمة في الواقع السينمائي العربي؛ وكذلك العالمي، هناك أطر فكرية عامة واقتراحات عملية محددة؛ أوجهها للمهتمين جديًا بعملية الإبداع الفكري والسياسي والفني المستقل ضمن الواقع الحالي للثقافة السينمائية العربية :
أولاً؛ الحفاظ (بقدر الإمكان) على الاستقلالية الإنتاجية والتوزيعية لأعمالك، بوجه منتجي “المقاولات” أو المتاجرين بلقب “السينما المستقلة” ومهرجانات عروض الأزياء وتجار “أفلام الجملة” ومنظمات “دعم الفنون” التابعة لجهات تفرض بشكل أو بآخر أجندات ومواصفات خاصة لمصلحة الطبقات الحاكمة سواء محليًا أو عالميًا. لا تفصّل عملك على قياس المهرجانات وجماهيرها، فمعظم هذه، (وخصوصًا الكبيرة منها)، أصبحت ملاذًا للذين يتعاملون مع السينما كمرآة لرؤيتهم هم، وليس كمساحة حرة للتعبير عن رؤية الآخرين للعالم.
ثانيًا، حاول الإنخراط دائمًا في أطر مختلفة لعرض أعمالك، وأبدأ أولاً محليًا وضمن الأوساط التي أنت جزء منها. كثير من السينمائيين الشباب يصابون بخيبات أمل، وانسحاب كامل من العمل السينمائي نتيجة إصرارهم على حصر فرص عرض أفلامهم في المهرجانات الأوروبية والعالمية. فهذه الممارسة مكلفة وغير بناءة وفي معظم الأحوال تتحول إلى مضيعة للمال وللوقت الذي يمكن خلاله أن تعمل على فيلم جديد.
وبالنهاية فإن السينمائي الذي لا ينجح في التواصل مع جمهور البيئة التي هو منها، من الصعب أن ينجح في التواصل والتفاعل مع بيئة هو غريب عنها، إلا إذا حاول أن يفصل أعماله على مقاييس ومستلزمات وتوجهات البيئة الغريبة التي يطمح لإرضاءها.
قم بعرض فيلمك على أصدقاءك، عبر نوادي سينما، في الأحياء، في مهرجانات السينما المحلية والمستقلة، هذه الأجواء تفيدك تجربة وفكرًا ونقدًا أكثر بكثير من الأجواء الباردة والمدعية في المهرجانات الاستهلاكية التي تعتمد على دعم وهيمنة رأس المال التجاري.
ثالثًا، ساهم في تكوين أو دعم أطر للعمل التعاوني مع السينمائيين المستقلين الآخرين، وذلك في الإنتاج والتوزيع والعرض والدعاية وغيرها. العمل التعاوني هو إطار يوسع من قدرات الأجيال الجديدة في العمل السينمائي، ويساعدها على تخطي الكثير من العوائق التي تفرضها محدودية الإمكانيات المتوفرة للسينمائيين المستقلين. وستكتشف سريعًا، أن ما تتخيله عن “تقييد” لحريتك في هذا النوع من بنية العمل، لا يقارن بحجم الضغوط والقيود والرقابة والتدخلات التي يعاني منها السينمائيون الآخرون الذين يعملون في إطار السينمات المهيمنة، وحتى في إطار السينمات المدعومة من قِبل جهات وجمعيات الدعم “الغير حكومية” العربية منها أو الأجنبية.