18 ديسمبر، 2024 10:43 م

كيف غدت أوضاع الأردن قبل أحداث أيلول/1970؟؟!!!

كيف غدت أوضاع الأردن قبل أحداث أيلول/1970؟؟!!!

مقدمة
لم يدفعني لخوض هذه المقالة مُزاحَمة الذين أسهَبوا في سرد أحداث أيلول/1970 برؤاهم ومشاعرهم الوطنية والقومية وميولهم السياسية والثورية المتعاكسة حيال أقرانهم من الباحثين والمتابِعين، والتي كانت موضوعة إختطاف (أربع) طائرات مدنية أجنبية عملاقة في نهار واحد تلتها طائرة خامسة بعد يومين، وإرغام (ثلاث) منها على الهبوط بالقرب من اللواء المدرع/6 العراقي وسط صحراء “خَو” الأردنية حدثاً مهمّاً في أوارِها، بل أني لم أجد بين أولئك الكُتّاب مَنْ كان شاهد عََيان عاش بشخصه في خِضَمِّ ذلك الحدث، ليس بالأيام فحسب بل بالساعات… وذلك ما أعتبره سَبقاً صَحافياً مُشَرِّفاً يسجّل لصالحي، ولو بعد إنقضاء خمسين عاماً عليه.
فقد كنتُ أحد شهود العَيان -بحكم القدر ليس إلاّ- لهذا الحدث الجَلَل وغير المسبوق في تأريخ الشرق الأوسط والعالم، ومِفصَلاً لمواقف وأحداث أنكى وأَمَرّ فرضت أوزارها بعد بضعة أيام من الشهر ذاته بين الأخوة والأشقاء في أرض المملكة الأردنية الهاشمية وسوريا.
ولا أزعم أني كنتُ مُتَبَوِّءاً منصباً رَفيعاً في تلك الأيام، فلم أكن سوى ضابط برتبة “ملازم أول” آمراً للسرية/1- فوج المشاة الآلي/1- اللواء المدرع/6- الفرقة المدرعة/3 من الجيش العراقي، ومُرابِطاً مع الألوف من العساكر العراقيين في الأرض الأردنية والسورية منذ حزيران/1967.
وقد إنتشر جحفل لوائنا في آذار/1969 في محافظة “درعا” السورية، وغدونا -إلى جانب اللواء المدرع/45 من الجيش السوري- تحت إمرة قيادة الجبهة العسكرية الشرقية بمثابة قوة إحتياطية ضاربة لعموم الجبهة السورية- الإسرائيلية.
وفي شأن هذه المقالة وتلك التي ستتلوها في قادم الأيام، فقد أكون على يقين أن ما سأطرحه من معلومات وآراء يُحتَمَل أن تُثير لَغَطاً ومُداخلاتٍ وغضباً من القراء والمتابِعين الكِرام، وبالأخص من أفواه وأقلام الأخوة الفلسطينيّين الذين أمَدَّ الله سبحانه بأعمارهم، وكذلك من لدن القوميّين العرب المُتزَمِّتين مِمَّن عاصروا تلك الحقبة أو عاشوا أحداثها، وقد يصطف إلى جانبهم عدد من جيل الشباب المُتأثِّرين سلباً أو إيجاباً بمعلوماتٍ توارثوها من أجدادهم وآبائهم وأقربائهم.
ولربما يكون من بين الشخصيات المرموقة المُعترِضة هو فخامة رئيس السلطة الفلسطينية “محمود عباس/أبو مازن” كونه أحد رفاق السلاح وأقرب قادة “منظمة فتح” المقرَّبين للمرحوم “ياسر عرفات”… ولكنه إذا إعترض بالضِدّ، فإني على إستعداد أن أُسافر إلى “رام الله” لأُلقي محاضرة وَجاهِيّة خدمة للتأريخ عمّا سأورده من حقائق.
ففي مقالتي السابقة التي نشرها هذا الموقع الأغر -مشكوراً- يوم (الأربعاء-23/أيلول/2020)، سَرَدتُ مختصَراً لوقائع متتالية غطّت عامَين متتالِيَين (تموز/1968- آب/1970)، ووعدتُ متابِعِينا الأحِبّاء إستذكار مواضيع أخرى أكثر إثارة فرضت أوجاعها طيلة عام 1970 على الأردنيّين والفلسطينيّين والسوريّين وعلينا نحن العراقيين سويةً على الأرض الأردنية والسورية، والتي سُمِّيَت في الأدبيات السياسية بـ”أحداث أيلول”.
وها أنا عند وعدي، أخدم التأريخ ووقائعه وإرهاصاته قبل نصف قرن من يومنا الراهن، كي لا تبقى حقائِقُها طيَّ الكتمان فَتَؤول إلى النِسيان، مع إصراري أني ]]شاهد عيان[[ على ما رأيتُه بِأُمِّ عينَيَّ وليس مجرد شخص سمع من هذا ونقل عن ذاك أو قرأ هنا وهناك.
وأضيف أني لَـمّا كنتُ عراقياً، فأنا لستُ صاحب مصلحة في مدح هذا وقدح ذاك، بل سارِداً لحقائق رأيتُها وأُخرَياتٍ عشتُها، في حين لا أعتقد أن شهود عيانٍ آخرين يصطفّون لجانبي، فالذين عاصروا تلكم الأحداث خلال أربع سنوات عُجاف، وكانوا ضباطاُ في جيشنا، فإن معظمهم أضحوا بجوار العليّ المقتدر، ولم يَبقَ منهم سوى أعداد ضئيلة بقِسمَين، أوّلهما لم يكتَرِث بالأحداث من حيث الأساس فنَسِيَها، والثاني لا يمتلك مَلَكَة الكتابة والتعبير عمّا في خَلَجاته… فلذلك لم يظلّ في الساحة سوى ما يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة، وأنا من بينهم والحمد لله.
لماذا الأردن دون الآخرين؟؟
بُعَيدَ نكبة العرب الكبرى في حزيران/1967 وبعد إنبثاق العديد من الفصائل الفلسطينية المسلَّحة -على ما آنفنا ذكره- ولو من دون نتائج مثمِرة لإيذاء “إسرائيل” وإلحاق خسائر كبيرة بصفوفها بحيث تُرغَم على ترك اليهود لأرض فلسطين السليبة أو تجبرهم على مفاوضات بشروط يفرضها الفسطينيون.. ولذلك ترسَّخَت لدى البعض من القادة اليسارييين المتأثرين بالثورات الشيوعية “الروسية، الصينية، الكورية” والمؤمنين بالكفاح المسلَّح أسوة بالتجربة الفييتنامية المتصاعدة بإنتصاراتها الميدانية على الأمريكيين في تلك الحقبة، متناسين أن ثوار الـ”فييت كونغ” يقاتلون أعداءَهم على أرضهم بكل شراسة، ولكن بالوكالة عن دولتَين عُظمَيَين ودول جوار تَمُدُّهُم بكل ما يطلبون، ناهيك عن وعورة أرضهم وكثافة مستنقعاتهم وأهوارهم المُكتَظّة بغابات كثيفة وأدغال متشابِكة وأمطار إستوائية، وكل ذلك على عكس أرض “فلسطين” المسلوبة وعدم وقوف أية دولة عظمى مع شعبها ومحدودية إكتراث معظم أقطار العالم -من حيث الأساس- بمآسي أهلها إرضاءً لليهود والغرب الآوروبي والأمريكي.
وينبغي أن أوضِّح هنا، أن الفأس الأكبر وقع على رأس الأردن بمفرده من دون الدول العربية الثلاث الأخرَيات المتاخمات لـ”إسرائيل”، لأسباب عديدة أهمها:-
لم تُتَحْ للفدائيين الفلسطينيين أية فرصة للإنطلاق من “مصر” وعبور قناة السويس وإجتياز خط “بارليف” الحصين وكل صحراء “سيناء” للوصول إلى أهدافهم بأعماق أرض فلسطين المحتلّة.
أما القيادة السورية فقد كانت حَذِرة للغاية ولم تسمح لأية عملية فدائية عبر جبهتها قبالة “هضبة الجولان والقُنَيطِرة” المُحتلّتين والقريبَتَين من “دمشق” بواقع (70) كلم.
أما “لبنان” فقد نّأَتْ بنفسَها عن هذه الأمور منذ حرب فلسطين عام (1948)، لضعف موقفه العسكري وحدوده الضيّقة للغاية من الأراضي المحتلة.
ولذلك لم تتوفَّر ساحة سانِحة للعمل الفِدائي سوى “الأردن” لأسباب عديدة، في مقدّمتها التعداد الهائل للاّجئين الفلسطينيين المقيمين وثقلهم في المجتمع الأردني منذ حرب (1948)، قبل أن يُضافَ إليهم أعداد أعظم بعد نكبة (حزيران/1967) وأضحى لهم تأثير بائِن على قرارات الدولة، ناهيك عن كون الحدود التي غدت تفصل “الأردن” عن “إسرائيل” تمتدّ بواقع (650) كلم، في حين كان عدد من أنظمة الحكم العربية ((الثورية)) تدفع الفصائل الفلسطينية المسلّحة إلى العمل الفدائي على الجبهة الأردنية-الإسرائيلية وتشنّ هجمات إعلامية على القيادة الأردنية وسلطاتها مما يطول سرد تفاصيلها المُخجِلة.
ما عرفناه عن الفصائل الفلسطينية
الوقائع والأحداث لا تُعدُّ ولا تُحصى، وتتطلَّب تغطيتُها عدداً من الكتب، لذلك ليس بوُسعي سوى التركيز على الأهم والأعظم فحسب.
ففي زياراتي المتتالية إلى “عَمّان” -وبمعدل مرة واحدة في كل (45) يوماً- وبالأخص خلال عامَي (1969-1970)، كنتُ أتلَمّس تصاعداً في مشاعر عدم الإرتياح لدى أصدقائي الأردنِيّين -وأخص منهم الضباط- حيال تصرفات البعض من المسلَّحين الفلسطينيين المُنفَلِتين وغير الآبِهين بتوجيهات سلطات الدولة الأردنية وقواتها الأمنية المسؤولة عن فرض هيبتها وتنفيذ قوانينها وإستتباب الأمن في ربوع مجتمعها، من حيث تصرفات آلاف الشباب الفلسطينيين المُنضَوين في صفوف الفصائل المسلّحة التي بلغ عديدها (13) فصيلاً، على ما علمنا في حينه.
وقد قِيلَ أن تعدادهم المُعلَن بلغ عشرات الآلاف المنتشرين في هذه البقعة وتلك من أرض الأردن لوحده، ما بين أصحاب أسماء وهويات صحيحة مُدرَجة وسط سجلاّت رسمية تُصرَف لهم رواتب ومخصصات شهرية محددة رغم أنها لا تُسمِن ولكنها تغني من جوع، وما بين أسماء مُسجَّلة بأوراق وهمية لا أصحاب لها لِتُحَوّلُ رواتبُهم ومخصصاتُهم إلى جيوب مُتنوِّعة من دون رقيب وحسيب!!!!…. ولربما كانت “منظمة فتح” لوحدها مُنضبِطةً -بعض الشيء- في تعداد أفرادها وأمورها المالية مقارنة مع باقي المنظّمات حسبما كان تطرق أسماعَنا من معلومات عابرة.
وعلى العكس من أولئك، كان العديد من الأخوة الفلسطينيين يتعاكسون في مشاعرهم ومطاليبهم حيال أخوتهم الأردنيين بواقِعَين يستحيل إلتقاؤهما، حيث لم تَفِدْ كل النصائح المحلّية والوساطات العربية المتنوِّعة في التخفيف عنها سوى بأقوال وتبجّحات وتفاؤلات يطلقها المتحدِّثون بالمؤتمرات الصحافية الخادِعة والتصريحات الإعلامية المُنافِقة.
لماذا توسّعت الفجوة بين الأشقاء؟؟
بعد أولى المواجهات المسلّحة -المُعلَنة- بين مجموعة فلسطينية تقابلت بالنيران مع أفراد من الشرطة الأردنية في أواخر (1968) -على ما أتذكر- وتكرّرت تباعاً، فقد أُعلِنَ مِراراً خلال (1969) وفي أوائل (1970) عن تفاهمات عالية المستوى وإتفاقيات رسمية بين مسؤولين أردنيين مع أصحاب القرار الفلسطيني الأعلى لدى قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية” بزعامة السيد “ياسر عرفات”، تقضي -بما يُفتَرَض أت تقطع الشك باليقين- على منع تجوال الفدائيّين الفلسطينيّين داخل المدن الأردنية بملابسهم العسكرية وأسلحتهم، بل وأكدت بوضوح على ضرورة تسليمِها في مداخل المدن لقوات أمنية أردنية رسمية… ولكن عدداً من القيادات الفلسطينية خرجت على تلك التفاهمات بإقامتها نقاط سيطرة خاصة يديرها أفراد شرطة عسكرية فلسطينية مسلّحة يرتدون زِيّاً عسكرياً خاصّـاً بهم.
وإضافة لذلك فإن معظم قادة المنظمات المسلّحة لم يعودوا يأتمرون حتى بتوجيهات السيد “ياسر عرفات” -المُعتَرَف بمنصبه ومنظّمته رسمياً على مستوى الجامعة العربية برضى الزعماء العرب- سوى بالإسم وعلى الورق وإستلام حصصهم من الأموال العربية التي تُسَلَّم بين أيدي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية… وكل ذلك لَـمّا تعدّد داعموهم من الزعماء العرب كلٌّ حسب هواه ورغباته ورؤاه وسياسة دولته مالِياً وتسليحياً وإعلامياً، وآووهم مع أفراد عوائلهم ومَلّكوهم قصوراً راقية ومحمِيّة… ولما كان أولئك الزعماء على غير وئام فيما بينهم، فقد إنعكس ذلك سَلباً على قادة المنظمات الفلسطينية الذين تشتّتَت رؤاهم وفقاً لمرجِعِيّاتهم المتناقضة، حتى سَرَى بيننا -نحن الضباط العراقيون- الـمَثَل الشعبي المَوصِلّي:- ((كُل مَنْ قَهوِتُه مِن كِيسُه))، والحكمة التأريخية:- ((الناس على دين ملوكهم)).
لذلك لم يَعُدْ العديد من مسلّحي تلك الفصائل يلتزمون ولا يأبَهون بالسلطات الأردنية، حيث كنتُ أرى العشرات من الفدائيين الفلسطينيين -وبالأخص لدى عملي لعدة أشهر ضابطاً للإنضباط العسكري للوائنا- وهم يتجوّلون وسط شوارع المدن الأردنية فحسب –من دون المدن السورية– ويتبضّعون من المتاجر بكامل قيافاتهم وهم مدجّجون بأسلحة متنوعة فوق اللازم -بما فيها عدد من الرمانات اليدوية يعلِّقونها على صدورهم- ليس في البلدات الصغيرة والنائية، بل في قلب “عَمّان وإربِد وجَرَش” ومطاعمها ومقاهيها.
وكنتُ أرى كذلك البعض من أفراد الشرطة العسكرية الفلسطينية يتصرفون بِتَعالٍ ملحوظ وإستخفاف لدى تعاملهم مع عساكر الجيش الأردني والمواطنين المدنيّين لدى إجتيازهم نقاط السيطرة والتفتيش التابعة للفصائل المسلّحة في مداخل المدن ومخارجها وكأنهم دولة داخل دولة، ولم تَفِدْ معهم إرشادات القادة العراقيين ونصائح ضباطهم المُحايِدين -التي لم يَشَأ أيٌّ من القادة الفلسطينيين قبولها- كي لا تحصل ما لا يُحمَدُ عُقباها إذا سارت الأمور بهذه الوتيرة… ورغم ذلك فقد سارت وتصاعدت حتى بانت أنها ستنفلق وتتفجّر.
وهناك مِن زعماء الفصائل الفلسطينية اليسارية-الراديكالية مَنْ تَجَرّأَ عَلَناً وصرّح بإنعدام شرعية العائلة الملكية الهاشمية، ودعى لإسقاط نظامه ((الرَجعيّ!!)) وإحلال نظام ثَوريّ محلّه، كون “الملك الحُسين” -حسب أقوالهم- مجرَّد دُمية بيد الرجعية والإمبريالية العالمية والصهيونية وقد أُوتِيَ بجدّه وأبيه من “الحجاز” وأضحوا ملوكاً!!!!! فيما أنكر آخرون وجود أي شيء يحمل إسم “الأردن” في التأريخ، بل كان بقعة جرداء وجزءاً بسيطاً ومُهمَلاً من “فلسطين”.
وقد تُوِّجَت الخلافات إثر محاولة أحد الفصائل إغتيال “الملك الحُسين” نهار (الثلاثاء- 9/حزيران/1970)، بإستهدافه في منطقة “الصُوَيلِح” ببنادق وقنابل يدوية، وقد نَجا منها بقدرة قادر.
إنبثاق الأسواق السوداء وفَلَتان السلاح
ومن أخطر الأمور التي برزت في عموم المملكة الأردنية هي الأسواق السوداء -في العَلَن- والتي تَوفَّرَت فيها أنواع شَتّى من الأسلحة وبأخفض الأثمان، بدءاً من المُسدّسات الشخصية ذات المناشئ الرصينة إلى أنواع الغَدّارات والرشاشات والقاذفات (آر بي جي) والهاونات الخفيفة والمتوسطة من مختلف المناشئ، وبالأخص تلك المتوفرة لدى المنظمات الفلسطينية، ما أشار إلى تسرّبها من أيدي المسلّحين المُنضَمّين إليها، في حين أن تجارة الأسلحة وإمتلاكها في الأردن طيلة عقود تميَّزَت بوجودها تحت السيطرة الصارمة بأيدي السلطات الأمنية والإستخبارية ذات السطوة، وتحت ظلال نظام حكم قوي ومستقر ومُدعَم من الغرب ويحترمه معظم دول العالم.
أما مشكلتنا -نحن العراقيون- فقد كَمُنَت في سَرَيان السوق السوداء للسلاح إلى صفوف البعض من ضباط ومَراتب وحداتنا، سواءً طَمَعاً في الثراء العاجل أو هوايةً بإمتلاك السلاح إن إستطاعوا إمراره إلى العراق لدى تمتعهم بإجازاتهم الدورية… ولكن إستخبارات لوائنا وفرقتنا، وكذلك الإستخبارات العامة لدى وزارة الدفاع كانت بالمرصاد لمن تُسَوِّل له نفسه في الإقتراب من السوق السوداء، وقد حوسِب عدد منهم وسِيقُوا للمحاكم العسكرية وعُوقِبوا بقساوة وحُكِمَ عليهم بالسجن وطُرِد البعض من الجيش وفقاً للقانون… ولما رأى منتسبونا الآخرون تلك الإجراءات الساخنة، فقد تراجع الجميع ولم يجرأوا عليها.
تصرفات يستحيل قبولها
في آخر زيارة لي لـ”عَمّان” والتي صادَفَت نهار (الأربعاء-21/آب-آغسطس/1970)، رأيتُ بعَينَيَّ في طريق وفي قلب العاصمة (ثلاثة) تصرفات مُقرِفة وسمعتُ عن أُخرَيات -يطول سَردُها- إقترفها مسلّحون يرتدون قيافة عسكرية لفصائل فلسطينية، والتي يستحيل أن تتقبّلها أية دولة تحترم نفسها.
وفي “عَمّان” عصراً تَصادَفَ أن مَرَرتُ قريباً من “مطار ماركا” الدولي المدني-العسكري المختلط، حيث إستجلبت نظري طائرة نقل عسكرية أردنية قديمة ((أعتقدها كانت من طراز داكوتا DC-3)) وهي تحلِّقُ ببطؤ وإرتفاع منخفض في طريقها للهبوط على مدرج المطار، حيث فوجِئَتُ بصَلياتٍ متتالية لسلاح رشّاش أُطلِقَت من “مُخيَّم الوَحدات” الفلسطيني، وقد أربكت الطيّار الذي إرتفع بطائرته سِراعاً ليُنقذها، فراقبتُها وهي تحوم بعيداً حتى هبط بها بعد حوالي (20) دقيقة!!!!!
وحالما عدتُ مساءً إلى “دَرعا”، توجّهتُ إلى آمر فوجنا “المقدم الركن طارق جلال القاضي”، لأوضح له مشاهداتي، وأقترح عليه أن يمنع الضباط والمراتب من النزول إلى “عَمّان” والإكتفاء بـ”دمشق” والمدن السورية، لأن الأوضاع في “الأردن” آيِلَة للإنفلاق في أية ساعة.
وداعنا لـ”درعا” إلى صحراء “خَو”
بعد إنقضاء سنة ونصف السنة على مُرابطتنا في بِقاع محافظة “درعا” السورية منذ (آذار/1969) فقد حلّت أيامنا الأخيرة في ربوعها… ووفقاً لِـما كنا مُبلَّغين به قبل أسابيع فقد حُرِّكَت وحدات جحفل اللواء المدرع/12 بقيادة “العميد إسماعيل محمد ياسين التلعفري” من ضواحي “المَفرَق” لتًحِلّ محلّ وحدات جحفل لوائنا التي حُمِّلت على أسطح ناقلات الدبابات، حتى ألقَينا نظرات الوداع نحو تلك المدينة الجميلة بذكرياتها العزيزة يَومَي (الأحد-الإثنين 30-31/آب/1970) قاطعين (130) كلم في طريقنا إلى صحراء “خَـو” الأردنية القاحلة والفاصلة بين مدينة “الزرقاء” وبين واحات “الأزرق” المائية على الحدود الأردنية-السعودية، فأقِمنا مخيَّماتنا وسط المنطقة المسمّاة “قِيعان خَنّا” حسبما مؤشرة على الخرائط، حيث سنباشر ببقاعها الشاسعة والمُحدّدة بالإتفاق مع الجانب الأردني تمارينَ -مُمَنهَجة ومُخطّط لها سَلَفاً- خلال كل أيام شهر (أيلول/1970)، وكان المفترَض إنهاؤُها بمُناورات تعَرّضية ودفاعية ميدانية شاملة -بكامل جحفل اللواء- تطول (3) أيام بإستخدام العتاد الحيّ، وبذلك سنُمارِس رمياً حقيقياً -ومن الحَرَكة- على جميع الأسلحة الجديدة التي زُوِّدنا بها وتدرّبنا عليها في “سوريا” منذ أوائل عام (1970) بواقع (144) دبابة (T-55) و(67) عجلة قتال برمائية مدرعة (BTR-50) ورشاشاتهما والمراقب والمعدات والأجهزة الأحدث المُرَكَّبة فيهما، إضافة للقاذفات (RBG-7) والرشاشات المتوسطة والهاونات الخفيفة الحديثة.
وحسب نَهج التجحفل الذي طبّقناه منذ (حزيران/1967)، فقد بقيت السريّة/1 من فوجنا -التي كنتُ آمِرَها- متجحفِلَةً تحت إمرة كتيبة دبابات خالد وآمرها “النقيب الركن عبدالعزيز الخطيب” الذي تعلّمتُ منه كثيراً وإرتبطتُ معه بعلاقة طيبة للغاية.
الخبر الصاعق
لم يَنقَضِ على تمركزنا في صحراء “خَو” سوى (5) أيام، وبينما كنا نمارس التدريب اليومي حسب المنهج المقرر بعد ظهر يوم (الأحد- 6/أيلول/1970)، وفي حين لم نكن على عِلمٍ في بقاعنا النائية تلك- بإنشغال العالم منذ الصباح بأخبار فشل مُسَلَّحَين إثنَين من فدائِيّي “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بإختطاف طائرة ركاب مدنية (إلـ-عال EL-AL) الإسرائيلية صبيحة هذا اليوم ومصرع أحدهما والقبض على الآنسة الفدائية “ليلى خالد” على يد أفراد حماية الطائرة أثناء هبوطها الإضطراري في “مطار هيثرو” اللَّندَنية، فقد أُمِرنا لاسلكيّاً بإيقاف التدريب فوراً والعودة سراعاً إلى مُخَيَّماتنا والمكوث فيها وعدم مغادرتها لأي سبب كان!!!
وحال عودتي لخيمتي، أسرعتُ -كعادتي في هكذا أحداث- نحو جهاز المذياع لأٌفاجأ بإذاعة (BBC) الموثوقة وقد قطعت برامجها الإعتيادية وباتت تُغطّي -عن طريق مُراسِليها في أكثر من عاصمة عربية ومحلّية وعالمية- أنباءً مثيرة ومتلاحقة عن نجاح أحد فصائل المقاومة الفلسطينية غير المشهورة -وبتوقيتات متقاربة- في إختطاف (ثلاث) طائرات ركاب مدنية ضخمة أخرى تابعة لعدد من الخطوط الجوية العالمية ذات الصيت.
كانت ساعات حُبلى بأخبار مُثيرة ومتلاحقة وشبه فَورِيّة عمّا يجري من أحداث تهمّ الأردن وفلسطين وعموم الشرق الأوسط، حتى مالَت الشمس نحو المَغيب وقتما فوجئنا بطائرتَين مَدَنِيّتَين ضخمَتَين وكل منهما ذات (أربعة) محرِّكات نفاثة ضخمة محمّلة تحت جناحَيهِما، وهما تحلّقان فوق رؤوسنا وعلى إرتفاع منخفِض للغاية وغير معهود، وقد شخّصتُهُما فكانت إحداهما أمريكية والأخرى سويسرية، وقد أنزَلَتا عجلاتهما الضخمة وكأن قبطانَهُما يحاولان تشخيص أو العثور على مهبطٍ ما!!!!
ولكي لا أُطيل الحديث على القارئ العزيز ما شاهدته وعشته من ساعات عصيبة لهذا الحدث غير المسبوق في التأريخ، فقد فَضَّلْتُ إرجائه إلى مقالة لاحقة ستأتيه خلال أسبوع بعونه سبحانه.