في خلافها الحاد مع لينين كانت المناضلة الماركسية روزا لوكسمبورغ محقة حول اهمية الديموقراطية وعلاقة الحزب بالشعب ، فكانت ترى عن حق ان فرض الارادة على الشعب نوع من الارهاب . وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي دون اي محاولة من الشعب لانقاذه . لان الحزب كان سلطويا .
وهكذا هي الاحزاب الايدولوجية في الدول العربية ، حيث سقطت في فخ السلطة بديلا عن الشعب .
وظل الفكر العقائدي العربي اسير انظمة استبدادية تستمد شرعيتها من احزاب قومية تتحدث باسم الجماهير الشعبية ، فتحولت التنظيمات الحزبية الى اجهزة قمعية بيد السلطة الحاكمة التي
احتكرت العمل السياسي بعيدا عن النخب الشعبية من مفكرين ومناضلين .
وقد رافق السلوك الديكتاتوري هذا
عقودا من الفساد الاداري والسياسي ، فاصبحت السلطات الحاكمة بعيدة كليا عن مصالح وتطلعات الجماهير العربية .
اضافة الى انتشار المحسوبية ، والبطالة وتجاهل حقوق الانسان نتيجة الملاحقات الامنية والمخابراتية للمعارضين . ورافق ذلك تزوير الانتخابات ، وعدم مصداقية الشعارات والاهداف المعلنة ، حيث ان واقع الحال يدحض الشعارات الثورية الطنانة التي ابتلى بها المواطن العربي . مما سحق كرامة الشعوب العربية وجعلها تعيش في حالات غضب دائم تجاه هذه الانظمة .
وجرى تقسيم ثروات البلاد على كبار القادة الحزبيين والعسكريين والعوائل المقربة ، وحرمان الجماهير منها الا بالنزر اليسير ، فحرمت الطبقات الفقيرة من العيش بكرامة .
وانقسم المجتمع الى طبقة سياسية مرفهة وطبقة فقيرة معدمة تمثل السواد الاعظم من الشعب .
كما شكل الحكم الفردي المستند
على الحزب الواحد نموذجا للاستئثار بالسلطة وعدم التخلي عنها لاي سبب كان .
وقد ساعدت التقاليد والافكار المتوارثة على فرض التعايش مع الاستبداد والرئيس الواحد ، والقائد الاوحد . .
وهذا هو ديدن اغلب الانظمة العربية قبل سقوطها في انتفاضات الربيع العربي وماقبله .
أن انفتاح الشارع العربي على التجارب العالمية في السياسة والفكر والاقتصاد قد اعاد الوعي للشعوب العربية . فاصبحت أكثر فاعلية نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي ، التي مكنت الشباب من تبادل الخبرات والمعلومات والتنسيق فيما بينهم .
وبذلك فان مبررات ثورات الربيع العربي كانت تتفاعل في ضمير الشعوب العربية منذ امد ليس بالقصير ، نتيجة الاستبداد وفشل الانظمة في معالجة المشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية لشعوبها التي سبق ذكرها .
فاندلعت الثورات كحركات احتجاجية سلمية بادئ ذي بدء ، ثم اجتاحت العالم العربي موجات التغيير مطالبة بالحرية والديموقراطية ، ودولة المواطنة .
ولكن هذه الثورات الشرعية والعادلة قد تم استغلالها من قبل الاسلام السياسي الذي سارع بركوب الموجة بتبني النهج الديموقراطي . .ساعدته ودعمته دول غربية معروفة ، حتى اصبح البديل الرسمي والشعبي الظاهري عن الانظمة العربية .
فانتكست الثورات نتيجة تصاعد الاستقطاب الديني الطائفي بعد عمليات واسعة لتغيير السلوك العربي من مبدأ المواطنة الى الطائفة ، فتصاعد الخطاب الطائفي مع تنامي تدخلات الدول الغربية والاقليمية ، بهدف الاستيلاء على مصادر الطاقة من النفط والغاز ، وضمان امن اسرائيل .
وكان الفاعل الرئيس لهذا التحول الحركات والتنظيمات الإسلامية الطامعة بالسلطة ، ومحاولتها السيطرة الشاملة على المنطقة بطرح شعارات مظلله هدفها التمويه على مطالب الشعوب الحقيقية .
ونتيجة لذلك ، زادت الصراعات المحلية ، كما تفاقمت المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية الى درجة باتت تنذر بتفكك بعض الدول العربية ، بعد تحولها إلى دول فاشلة وظيفياً .
وهكذا عمت الفوضى في المنطقة العربية وعاد الاستبداد السياسي بوجه جديد اكثر من السابق باسم الدين والطائفة والمقدسات المزعومة ، وقد ادى هذا النهج الى شيوع الجهل وفساد الأخلاق و انحراف رجال الدين عن جوهر العقيدة الدينية السمحاء .
هذا هو واقع حال الدول العربية اليوم ، حيث بدل الإسلام السياسي الهوية العربية والوطنية بالهويات الجزئية الطائفية ، التي ترفض الآخر ، للاستحواذ على الثروة والسلطة مما جعل الهوية الوطنية تذوب داخل الهويات الجزئية .
ان الاسلام السياسي الذي مني بهزيمة تاريخية في مصر ، قد شهد تراجعا تنظيميا وسياسيا مستمرا في بقية الدول العربية ، خصوصا بعد انهيار الدولة الاسلامية الراديكالية في العراق وسوريا . وقد تمظهر ذلك في العراق حين انتفض الشعب على الاحزاب الاسلامية الحاكمة في تشرين /اكتوبر من العام الماضي ، وهناك تراجع شعبي ملحوظ للاسلام السياسي على عموم الدول العربية في الفكر والسلوك الاجتماعي .
كما ان هناك تراجعا ملحوظا من الولايات المتحدة والدول الغربية في دعم الحركات الاسلامية ، الذي امتد لسنوات .
وقد ساعد على تراجع الحركات الاسلامية ايضا ، عدم قدرتها على تجديد الخطاب الاسلامي التقليدي .
تتميز مرحلة مابعد الاسلام السياسي ببروز شرائح شبابية واعية لاترفض الدين الاسلامي ، ولكنها ترفض الخلط بين العقائد الدينية للفرد مع مشروع الدولة الحديثة التي تستند على الادارة العلمية والتوزيع العادل للثروة .
ان العمل على مشروع سياسي استراتيجي جديد قد اصبح ملحا اكثر من اي وقت مضى . على ان يتم وفق برنامج سياسي يستند على الفكر الوطني الديمقراطي البعيد عن تقديس الفرد . ويؤمن بتبادل السلطة والتعددية الثقافية ، واحترام الرأي الاخر . اضافة الى تحديد حقوق وواجبات المواطن . ويستند على دستور حديث يضمن تحقيق المساواة لكل فئات المجتمع .
ان الايمان بالوطنية لكل دولة عربية لا يتعارض مع الروابط العربية المشتركة البعيدة عن الشوفونية . روابط تستند على نظام عربي جديد بديل عن النظام القديم القائم على هياكل شكلية كالجامعة العربية والمنظمات والاتحادات العربية القائمة . نظام ديناميكي فاعل ، يحتوي الخلافات العربية والاقليمية ، ويتفادى النزاعات المسلحة . نظام يرفض الاستبداد ، ويقوم على مبدأ الاقتصاد والمصالح المشتركة .
ان هناك مصلحة عامة في تضامن الدول العربية على وفق أرضية مشتركة تجمعهم في كل مايتعلق بالسياسة والحياة الاجتماعية والاقتصادية ، اسوة بالسوق الاوربية . وبعيدا عن العقائد المظللة التي اقتصرت على شعارات وهمية لامكان لها في ارض الواقع ، ولم نجن منها سوى الاستبداد والخذلان .