19 ديسمبر، 2024 12:53 ص

ج 18 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

ج 18 اكتشاف الحب : اوراق من مدونتي الشخصية

 طبيعتي المُشاكِسة

لااستطيع ان انفي عن نفسي طبيعتها المشاكسة التي تعلن عن وجودها فجأة،وكأنَّ لها ردود افعال خاصة بها،ويصعب عليّ أحيانا ان أخنع اهتياجها عندما يُرتَكَبُ أمام نظري خطأ عن عَمد،قد يتسبب بضرر شديد للآخرين،وغالبا ما وجدتني في موقف لا احسد عليه،بسبب غضبي واعلان رأي الصريح دون مواربة،وهذا ما كان يضعني في مواقف متشنجة ضد اخرين ،قد اتعرض بسببها الى مصادمات وتجريح،واحيانا اشعر بحالة نأي غير معلنة تتشكل ضدي من قبل زملاء ومعارف وحتى اصدقاء،ومع ذلك لم أكف،رغم انني في كثير من الاحيان امارس مع نفسي تقريعا ذاتيا شديدا،لانها كثيرا ما  تركمني بقضايا لاصلة شخصية تجمعني بها،ولكن على ما يبدو فإن الطبع يغلب على التطبع كما يقال،وهذا ما تكرر ايضا اثناء ماكنت منقطعا عن كل ماحولي ومنغمسا في رحلة علاجها لتلقي الجرعات الكيميائية. . فقد عزمت منذ زيارتي الاولى للمستشفى على ان التقط بعض الصور عن طريق كامرة الموبايل ولكن بطريقة خفية دون ان اثير انتباه احد ،لاجل ان ادعم بها الموضوع الصحفي الذي كنت انوي كتابته،بعد ان هالني حجم المعاناة التي كان المرضى يتحملون تبعاتها على صحتهم، بسبب عددهم الكبير وقلة الأسِرَّة المتوفرة لاستقبالهم اثناء تلقيهم الجرعات الكيمائية، فليس اكثر قسوة من مشهد مريض بالسرطان ينتظر اربع او خمس ساعات حتى يحظى بسرير فارغ يستلقي عليه اثناء ما يتلقى جرعته،وبعضهم رغم تردّي حالته الصحية،كان مرغما على ان ياخذها وهو جالس لثلاث ساعات متواصلة على كرسي دون ان يكون قادرا على النهوض او الحركة،وربما يطول به الزمن الى اكثر من ذلك،بينما تقتضي حساسية الحالة الصحية وحراجتها لهؤلاء المرضى على وجه الخصوص ان يستلقوا على سرير ليكون جسدهم مسترخيا طيلة الوقت الذي يتلقون فيه الجرعة .

ما حفزني اكثر على تنفيذ الفكرة،انها في الاسبوع الماضي كادت على وشك ان تجلس على كرسي لتاخذ جرعتها،عندما طرحت عليها احد الممرضات هذا الخيار بعد ان لفتت انتباهها ووجدتها مرهَقة جدا بسبب طول ساعات الانتظار،لكنني رفضت،لان ذلك قد يتسبب في تدهور حالتها الصحية ولربما تصاب بالدوار وتسقط على الارض، وكان علي ان اقنعها بأن ليس امرا هيِّنا ان تجلس لثلاث ساعات مزروعة على كرسي والكينونة في يدها واعصابها مشدودة.

 

فخ نصبته لنفسي

بعد يومين على تلقيها للجرعة الثانية كان لابد ان نتجه صباحا الى المستشفى لكي نجري فحصا لدمها،لمعرفة تطورات حالتها الصحية،وبدأتُ في تنفيذ فكرة التصوير ما أن اقتربنا من الممر الضيق الذي يؤدي الى غرفة الاطباء،والذي عادة ما يتزاحم فيه عدد كبير من المرضى كان كل واحد منهم ينتظر دوره، ليكشف عليه الطبيب المسؤول عن حالته.

الزمتُ نفسي بأن اكون على قدر كبير من الحذر حتى لاأثير انتباه احد ما، ولاجل ذلك كتمتُ خاصية الصوت في تقنية كامرة الهاتف الذي عادة ما يصدر اثناء عملية الالتقاط .

وبعد أن تأكدتُ من انها قد دوَّنَت اسمها في السجل الخاص بقائمة المنتظرين للكشف عليهم والذي كان موضوعا على منضدة حديدية صغيرة يجلس خلفها موظف شاب،ومن ثم إطمأنيتُ عليها لانها حظيت بكرسي اصبح فارغا بعد ان نهضت عنه احدى النساء ما أن  نودي على اسمها،عندها تخيَّرتُ ان ابتعد حتى نهاية الممر،وجلستُ على ثالث درجة من سلّمٍ حجري يؤدي الى الطابق الثاني من المبنى،لأنني وجدت في المكان الذي اخترته زواية متسعة تمكنني وبشكل خفي من التقاط بعض الصور التي  تظهر حجم الازدحام،ولكي ابدو للاخرين كما لو انني اتصفح المواقع في الهاتف،فأنا على عِلم مسبق بان التصوير ممنوع،وتأكدت من ذلك في زيارتي السابقة قبل شهر عندما لاحظتُ فريق عمل احدى القنوات التلفزيونية ورغم انتظارهم عند البوابة الخارجية للمستشفى لفترة تزيد عن الساعة رفضت الادارة ان تسمح لهم بالتصوير . . في لحظة ما شعرت بحركة جلبت انتباهي كانت قد صدرت عن  شاب لم يتجاوز العقد الثالث من عمره ، في حينه أومأ لي حدسي بانه كان يراقبني،فحاولت ان يكون رد فعلي طبيعيا كما لو انني  كنت مستغرقا في النظر الى شاشة الهاتف وقراءة موضوع ما،ولم تمض سوى دقائق معدودة حتى جاءني شخصان من موظفي المستشفى وسألاني إذا ما كنت مريضا او مرافقا لمريض،ومن بعدها طلبا مني ان اسلمهما الهاتف،ولانني كنت حريصا على ان اتحاشى اثارة اي ضجة اثناء مجادلتي لهما،لذا طلبت منهما ان نذهب الى غرفة الادارة وهناك يمكن ان نتفاهم،ولما وصلنا بالقرب من غرفة الادارة طلب مني احدهما بان أسلمه الهاتف وإلاَّ سينادي على الشرطة،ولانني ادرك جيدا عدم جدوى الحوار في مثل هذه الحالات سلمته اياه وبدأ في عملية البحث عن الصور في استديو الهاتف وانا اقف الى جانبه،وما ان عثر عليها حتى اشار على كل صورة بعلامة صح، ثم ضغط على زر المسح لتختفي جميعها ، لكنه بقي محتفظا بالهاتف ورفض ان يسلمني اياه لمّا مددت يدي نحوه، انذاك احسست بأن المسالة لم تنتهي بعد ، وان هناك فصلا اخر ينتظرني، ولكني لم استطع تخمينه ، ولهذا استنفرتُ فطنتي استعدادا لكل الاحتمالات غير السارة، فأنت إذا ما وقعت في شرك من يمثلون الدولة،عليك ان تتوقع الاسوأ،لانك ستكون مضطرا أن تصمت وتتغاضى عما يمكن ان ينال منك شخصيا،هكذا تعودنا في منظومة حياتنا أن نخضع لكل ما يمثل السلطة الحكومية،وان تعبّر ردود افعالنا عن الخضوع،حتى لو لم نكن مخطئين،لاننا إن لم نفعل ذلك فهذا يعني اننا قد نلقى الفاظا لاتسرنا، وربما نوضع في موقف محرج لكرامتنا الشخصية،فكيف إذا كنا بحكم الغرباء،انذاك سنشعر بخوف مضاعف ،وربما سنلعن الساعة التي ولِدنا فيها . .وفي محاولة مني للتغطية على ما كنت اشعر به من قلق، ليس ازاء نفسي ، انما تجاه زوجتي إذا ما علِمت بالموقف الذي سقطت فيه، اقدمتُ على ابراز الهوية التي تثبت بانني عضو عامل في نقابة الصحفيين،ودعمت تلك الحركة التي اشعرتني بشيء من الثقة بجملة حاولت فيها ان اثبط همَّتهما فقلت لهما بأن الصور ليست مهمة بالنسبة لي إذا ما اردت ان اكتب موضوعا صحفيا عن المستشفى،ولكي اخفف من حدة الموقف أكدت لهما بان ليس لدي اي ملاحظات سلبية على اداء جميع افراد الطاقم الذي يعمل فيها،ولا أحد يستطيع ان ينكر جهدهم الكبير والمضني في ادارتها،لكني بصدد كتابة موضوع حتى استعرضه في البرنامج التلفزيوني الذي اقدمه اسبوعيا على شاشة القناة التي اعمل فيها،وهدفي من ذلك ان اثير انتباه السادة المسؤولين الحكوميين حول المشاق التي يتحملها مرضى السرطان في رحلة علاجهم،ومن الضروري ان يزداد الاهتمام بهم وبماتحتاج اليه المستشفى من دعم حتى تستطيع ان تواجه العدد الكبير من المرضى .

وقبل ان انهي كلامي انهالت الاسئلة عليّ من قبلهما:”من انت ؟ ، ماذا تعمل ؟ ، اين تسكن ؟ ، من اي مدينة ؟ ، من اي طائفة ؟، من اي عشيرة ؟” . احدهما وهو الاصغر سناً، كانت نبرة صوته ترتفع بشكل مزعج اثناء ما كان يوجه الاسئلة، لذا طلبت منه ان يهدأ ولايرفع صوته ،لان المسألة لاتستوجب ذلك ،خاصة واننا داخل مستشفى . وظننت  بانني سانهي الجدل لصالحي عندما ثم اعلنت عن رغبتي بمقابلة المدير، لكن اجابة الموظف صاحب الصوت المرتفع افحمتني،لمّا قال لي بان المدير يعرف كل ما تريد ان تقوله له،وسيكون جوابه بان طاقة المستشفى الاستيعابية ستكبر بعد ان تنتهي اعمال التطوير والتوسيع بعد شهر . وقبل ان يسلماني الهاتف والهوية حذراني من الاقدام على التصوير مرة اخرى،لانني سأكون سببا في حرمان زوجتي من تلقي العلاج في المستشفى.

 

الحب خارج الحسابات

خرجت الى الباحة الخارجية وجلست على مصطبة في مقابل حديقة المستشفى لكي استعيد هدوئي، وبيني وبين نفسي حمدت الله بأن الذي جرى لم تكن تعلم به زوجتي،لانها لو كانت حاضرة في حينه لربما اصابتها انتكاسة صحية بسبب خوفها عليّ من ردود افعالي التي لا استطيع التحكم بها احيانا،خاصة إذا ما تعرضتُ الى موقف يستفز كرامتي الشخصية. وكانت تدور في راسي فكرة اننا احيانا نضطر الى ان نهادن الظروف التي تعبس بوجهنا،ولنا عذرنا في ذلك إذا ما وجدنا ان مسالة الثبات على الموقف اقرب الى ان تكون تعبيرا عن الحماقة،لان اضرارها ستكون مؤذية لمن نؤثرهم على انفسنا،ومن الناحية المبدأية انا لست على استعداد ان اكون سببا  في حرمانها من العلاج  تحت اي ظرف،وتساءلت مع نفسي هل ساستطيع ان اتحمّل ما سيواجهني به ضميري من حساب عسير إذا ما كنت مسؤولا عن اي تطورات سيئة في حالتها الصحية ؟ .

بقيت لساعة من الزمن مأخوذا بتلك الدوامة من الافكار،حتى انني لم اكن اعي ما كان يدور حولي،وازدادت قناعتي بان الألم الذي قد نسببه في لحظة ما لشخص نحبه لن يعادله اي ألم آخر ،وأن مشاعر الحب التي نرتبط بها مع اناس يشكلون العالم الصغير الذي عادة ما نلجأ اليه ونحن مطمئنين من اننا سنجد فيه ما نبحث عنه من شعور بالامان والثقة والاطمئنان،هو القيمة الجوهرية الوحيدة في هذه الحياة،وغيره دائما ما يخضع لحسابات الربح والخسارة لانه مبني على المصالح والمنافع المتبادلة.ومن الصعب علينا ان نجد بديلا عن الانسان الذي نرتبط معه بعلاقة حب حقيقية،فكيف بعلاقة دامت ربع قرن تحت سقف واحد،فمن المنطقي انها لم تعد قابلة للمساومة تحت اي ظرف صحي قد تتعرض له،ومهما كانت الاعباء التي ساتحملها بسببها  .

بعد ان انهت الفحص خَرَجت تبحث عني، رغم وضعها الصحي الذي لم يكن يسمح لها ان تبذل اي مجهود عضلي،وكانت تفتش بين جموع المرضى ومرافقيهم الذين كانوا يملأون ممرات المستشفى، ثم وجدتني جالسا على المصطبة في الباحة الخارجية،وكان القلق واضحا على ملامحها ،لانها وحسب ما قالت لي في ما بعد،كانت قد لمحت  الموظفَين وهما يتحدثان معي، لكنها لم تستطع ان تلحق بي عندما خرجتُ برفقتهما، لانها كانت على وشك الدخول الى غرفة الدكتور لقمان بعد ان نادى باسمها الموظف المسؤول عن تنظيم دخول المرضى .

 

يتبع …