قصة تتطلب من القارئ التأمل في قراءتها، لأنهُ سيكون بطلها نهاية المطاف …
في مدرسةِ من مدارس بغداد الحكومية المتهالكة، زارها أحد المسؤولين ذات مرة، وبعدهُ ما زال يتجول في أروقة الادارة المدرسية لاحظ جهازاً للاستنساخ، حيث أن أحد المعاونين يستخدمه في سحب نسخ لأسئلة التلاميذ، فما كان من المسؤول الا ان يقول وهي يشعر بالزهو والفخر:
ما شاء الله لديكم جهاز استنساخ؛ هههههههه تقولون إن الدولة مقصرة معكم؟ مَنْ جهزكم بهذا الجهاز إذن؟ وزارة التربية أم اللجنة التربوية في مجلس المحافظة؟
فأجابه المدير بهدوء:
لا استاذنا، لا هؤلاء ولا أولئك
زمجر المسؤول وقال بغضب:
إذن فمن أين لك هذا؟
انهُ لي استاذنا وقد جلبتهُ لخدمة المدرسة قربة لله تعالى
بان الغضب على وجه المسؤول واومأ بيده وهي ترتجف وقال:
من تظنُ نفسك؟ اتريدُ ان تقول لنا بانك شريف ونحنُ خلاف ذلك؟ اتريدُ بفعلك هذا ان تهيج الرأي العام علينا؟ إنك وامثالك الطابور الخامس الذي يتعمد هدم الدولة والنظام السياسي من خلال هذه الممارسات؟ تريدون أن تبينوا بانكم الصلحاء ونحن الفاسدون؟ تريدون الوقيعة بين المسؤول والمواطن؟ نعم انت وامثالك يجب أن تجتثوا أو أن تنفوا
لمَ كلُّ هذه الضجةُ أستاذنا؟ أسحبُ جهازي وقوموا بتزويد المدرسة بجهاز، بلا وعيدٍ ولا تهديد!
ما زلت تتعمد إهانة الدولة! هل تعلمنا عملنا؟ أم ترشدنا الى واجباتنا وتريد أن تفهم الناس باننا مقصرين؟ مه ألم تزودكم الوزارة بالورق والاحبار؟
لا استاذنا، بل نجمع مالا من الكادر التدريسي لذلك
تباً لك سأريك كيف يكون ردي على وقاحتك هذه
خرج المسؤول مسرعاً وهو يرتعد ويتوعد بإنزال اقصى العقوبات بمدير المدرسة.
اجتمع كادر المدرسة وهو خائف يترقب، ويتساءل ماذا سيحل بالمدير؟ فأخبرهم المدير والهدوء يملئ جنباته كما هي عادتهُ:
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
بعد خروجهِ من المدرسة، ذهب المسؤول مباشرة الى وزارة التربية، ليبلغهم بوجوب توجيه عقوبة قاسية بحق هذا المدير الذي أهان الدولة والمحرض على النظام السياسي برمته بل يعمل على اسقاطه، وبما أن الوزير من حزبهِ وكتلتهِ البرلمانية وجب عليهِ طاعة الأمر…
اتصل وزير التربية بالمدير العام للتربية التي تتبع المدرسة اليها، ليخبره بإيقاع اقصى العقوبات بهذا المدير، وبالرغم من اخبار المدير العام للوزير بان هذا المدير من الكفاءات وممن ثبت حرصه وتفانيه وتضحيته في سبيل التعليم الا ان ذلك لم يشفع له، فامر الوزير بإعفاء مدير المدرسة من منصب الإدارة ونقله كمعلم الى منطقة نائية تقع أطراف بغداد، فما كان من المدير العام الا تنفيذ الامر على مضضٍ وهو من الصاغرين.
وصل كتاب المديرية العامة الى إدارة المدرسة، فما كان من مديرها الا ان سحب جهازه الاستنساخي، ثُمَّ خرج مودعا زملائهِ وتلامذته وهم في اشد الحزن، ولا حول ولا قوة لهم لفعلِ أي شيء.
بعد بضعة أشهر زار المسؤول مدرسة في أطراف العاصمة بغداد، تلك المدرسة التي لم يزرها زائر ولم يذكرها ذاكر، وقد اختارها المسؤول وجلب معه رفقةً إعلامية، باحثاً من خلالها على دعاية انتخابية، ظناً منهُ أنهُ سيجدها بحالةٍ متردية، فيقوم بإطلاق الوعود التي لن تنفذ ابداً كما هو المعتاد، فيكسب ود كادر المدرسة وأهالي المنطقة، فقد اقترب وقت الانتخابات…
وصل المسؤول الى المدرسة فوجدها بأحسن حال، حتى أنها أجمل من بعض مدارس مناطق وسط العاصمة بلا مبالغة، فكانت مفاجأةً كبيرة، وبما أنه أبلغ بحضوره فقد دعا مدير المدرسة أهالي المنطقة ووجهائها، لحضور حفل استقبال الزائر، فدخل المسؤول من بوابة المدرسة ليرى اطفالاً استقبلوه بملابسٍ جميلةٍ يحملون في أيديهم اعلاما وورودا يلوحون بها ويقرؤون نشيدا لاستقبال الضيوف، فبهت المسؤول وتوجه صوب الإدارة ليتجول في اروقتها، فقال له المدير:
أستاذ… الناس تنتظرك في ساحة المدرسة وحديقتها، ونحنُ في منطقة تعتبر ريفية وهؤلاء الناس لهم اعرافهم الخاصة، هلا بدأت بهم؟
فأسرها المسؤول في نفسه، لكنهُ كتم غضبهُ وقال:
لا بأس، فإن في مقابلتهم نفعاً كثيرا
حين وصولهِ إلى ساحة المدرسة التي كانت مخططة ومنظمة بشكل يلفت النظر، كذلك الرسومات التي زينت حائط المدرسة من الداخل؛ وبما أن المنطقة تعتبر ريفية فكانت المائدة ممدودة احتوت ما لذ وطاب من طعام الريف، فشاركهم المسؤول وليمتهم، لكنه بقي صامتاً لا يدري ما يقول! فأظهر ابتسامة مصطنعة وأخفى خيبة أمل، لأن ما أعده من خطبة لم تعد تنفع، فكان لا بدَّ لهُ من تدارك الموضوع، فطلب من مدير المدرسة الذهاب إلى الإدارة ونفسه تحدثهُ بأنهُ سيجد سلبية يدخل من خلالها لبيان شخصيته السلطوية، لكن الحظ لم يحالفهُ، فأخذ الجانب الآخر، وهو مدح الدولة، فقال:
فليأتي المغرضون ليروا إنجازات الدولة، فهذه المدرسة خيرُ اثبات
فأجابه المدير:
أستاذ، لا شأن للدولة في بناء هذه المدرسة، فالأرض تبرع بها الأهالي والبناء تبرعت بهِ منظمة دولية ……
لكنَّ الدولة من جهز المدرسة!
كلا أستاذ، الدولة لم تجهز المدرسة بغيري، حتى الكادر فهو من المحاضرين المجانيين، كما وأن الله أنعم علينا بمعلم كان مديراً لمدرسة فعوقب، فكانت عقوبته نعمة علينا حيثُ بدأ بإقامة مجلس الإباء والمعلمين، وتنظيم الساحة وحديقة المدرسة، وكثير من الاعمال التي نهضت بواقع المدرسة، ولذا تجد أن التلاميذ واولياء الأمور يسمعون لهُ ويطيعون و ……
كان المسؤول حين حديث المدير ينظر امامه، حيث انتصب جهاز استنساخ جعلهُ يستذكر قصته مع مدير المدرسة المعاقب؛ فقطع حديث المدير قائلاً:
افلا تحضر لنا هذا المعلم لنتعرف عليه؟
حاضر أستاذ
حضر المعلم المثابر وإذا به هو المدير المُعاقب!
هنا ينتهي كلامي وقصتي، واترك للقارئ الكريم أن يحزر كيف سيتصرف المسؤول مع هذا الموقف
ملاحظة:
القصة من خيال الكاتب تحمل بين طياتها حكمة بالغة، ولا وجود لأحدائها على ارض الواقع فإن صادف منها شيء مع الواقع فهو من قبيل الصدفة لا أكثر.
……………………………………………………………………………..