كثيرة هي المشاكل التي افرزها وجود فصائل مسلحة ضمن جسد الدولة العراقية ، ليست تلك التي يطلق عليها بالمنفلتة فحسب ، بل حتى تلك المليشيات الام التي انبثقت منها الفصائل المنفلتة . فالمساحة الفاصلة بين هذه الفصائل وتلك المليشيات مساحة رمادية يصعب تميزها ، ويضيف على رماديتها انها تشكيلات مسلحة منغلقة على نفسها ، تتوالد من رحم بعضها باستمرار ، يقودها امراء حرب تم اختيارهم خارج معايير المؤسسة العسكرية وضُموا اليها قسرا ، لكن بقيت قراراتها مستقلة بعيدة عن قرارات المؤسسة العسكرية.
وما يزيد من استقلالية هذه الفصائل والمليشيات هي العقيدة التي تتبناها وتشكلت على اساسها ، والتي تعتمد على التحشيد الديني والمذهبي البعيد كل البعد عن العقيدة الوطنية التي تُبنى عليها جيوش العالم .وقد افرز هذا الاختلاف العقائدي نتائج سلبية اخرى من بينها :-
ادى الى صعوبة اندماج هذه المليشيات مع المؤسسة العسكرية العراقية .
خلق فجوة يصعب تقليصها بين هذه المليشيات والمكونات العراقية ، ليست السنية والكوردية فحسب بل وحتى الشريحة العلمانية في المكون الشيعي .
هذه العقيدة الدينية جعلتها مقربة من جيوش اقليمية ومليشيات مسلحة خارج العراق ، وخلقت عندهم الشعور بالانتماء لتلك الجهات الخارجية على حساب الانتماء للعراق .
ولكي نكون منصفين فان هذه الحالة ليست موجودة فقط عند المليشيات الشيعية بل كانت موجودة عند مليشيات سنية ايضا ، غير ان المليشيات السنية لم تستطع فرض نفسها على المؤسسة العسكرية والدولة العراقية كما فعلت الفصائل الشيعية لسببين :-
الاول …ان الفصائل السنية المسلحة لم تكن على وفاق مع الساسة السنة المشاركين في العملية السياسية .
الثاني …ان المكون السني ليس مهيمنا على العملية السياسية مثل المكون الشيعي.
لذلك اعتبرت المليشيات السنية معارضة للعملية السياسية وجرى محاربتها ، بينما تمكنت الفصائل الشيعية من الانخراط داخل مؤسسة الدولة والسيطرة عليها بدعم سياسي من الاطراف الشيعية المهيمنة على العملية السياسية وجرى فرضها على الدولة العراقية . رغم ان البنية الفكرية العقائدية لكلتا الفصائل (السنية والشيعية) واحدة ، فهما وجهان لعملة واحدة .
ان مراحل تطور المليشيات الشيعية معروفة وواضحة ، فبدايات تشكيلها كانت في عهد رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي حينما دعم التوجه الى اللادولة بتشكيل المليشيات ودعم العشائر، ثم استُغلت فتوى الجهاد الكفائي للمرجع السيستاني لتشكيل مليشيات اخرى بدعم احزاب شيعية عراقية وقوى خارجية اقليمية . وبعد هزيمة داعش تولدت ارادة شيعية في الابقاء على جميع تلك المليشيات واعطاءها صبغة رسمية ، فكان ان مُرر قانون الحشد الشعبي في البرلمان قسرا لشرعنة هذه المليشيات ، لتصبح ظاهريا منضمة للمؤسسة العسكرية العراقية ، لكن حقيقة الامر ان قياداتها وهيكليتها وتوجهاتها بقيت كما كانت مستقلة ومنفصلة عن الجيش، وكل ما حصل هو انها جُمعت ضمن هيئة هلامية باسم هيئة الحشد الشعبي . والمفارقة هنا ان قانون الحشد الشعبي “المُمرر قسرا” شابته الثغرات التالية لصالح المليشيات منها :-
لم يتطرق القرار الى اسماء الفصائل التي انضوت تحت هيئة الحشد .
لم يتطرق القرار الى اعداد مقاتلي الحشد الشعبي المسموح لهم الانضمام لهيئة الحشد .
خلا القرار من اية شروط لانضمام اي فصيل الى هيئة الحشد .
هذه الثغرات افسحت المجال للمليشيات التصرف تحت ” يافطة” هيئة الحشد بحرية كاملة وبالشكل الذي تراها مناسبا لتوجهاتها . ولكي تستطيع هذه المليشيات من التحرك خارج العراق دون ان تتعرض للاحراج امام الحكومة العراقية والمجتمع الدولي ، فقد شُكلت فصائل مسلحة من رحم تلك المليشيات وبرعايتها كي تقاتل خارج العراق اينما اقتضت مصلحة المذهب ذلك .
على هذا الاساس نستطيع القول بان الفصائل الموجودة حاليا والتي يُطلق عليها الفصائل المنفلتة ما هي الا وليد شرعي للمليشيات الموجودة اصلا ، نمت وترعرت على اعينها ، تقاتل تارة في سوريا ، وتارة تهدد هذه الدولة او تلك ، واخرى تقصف المنطقة الخضراء او المطار ، بمسميات جديدة ومختلفة ، وما اكثر الاسماء في معجم اللغة العربية .
استنادا للحقائق اعلاه يمكن لنا فهم ما يحصل في العراق من امور يلفها الغموض مثل :-
احجام الحكومة السابقة الكشف عن الطرف الثالث الذي كان يقتل المتظاهريين السلميين.
عدم تجرأ الحكومة الحالية القبض على قتلة وخاطفي الناشطين المدنيين.
عدم الافصاح عن الجهات الداعمة لبعض من تم القاء القبض عليهم من المتهمين بعمليات القتل والخطف والقصف .
كذلك يصبح معلوما لماذا تستنكر المليشيات المعروفة عمليات القصف التي تقوم بها الفصائل المنفلتة الفتية المنبثقة منها.
فكلها مرتبطة ببعضها البعض سواء كانت الفصائل المنفلتة او المليشيات الوقحة او الاطراف السياسية الداعمة لها ، وما يحصل من اختلاف المواقف ما هو الا توزيع ادوار فيما بينها ، لغرض الاستمرار بمسك الوضع الامني والسياسي بيد ومحاربة الاخرين بيد اخرى .
والا فهل من المعقول ان الاجهزة الامنية والمخابراتية للدولة العراقية ، واجهزة مخابرات المليشيات ، والاحزاب الداعمة لها ، تقف جميعها عاجزة عن الكشف عن مرتكبي جرائم القتل والخطف السياسي ، في الوفت الذي يتم فيه القاء القبض في سويعات على مرتكبي القتل والخطف الجنائيين؟
ان رغبة الحكومة العراقية في ابعاد العراق عن الصراع الامريكي الايراني لا يمكن تحقيقه بوجود ليس فقط الفصائل المسلحة وانما كل المليشيات الوقحة والاطراف السياسية الممثلة لها في الحكومة والبرلمان ، فلا يعقل مثلا ان يصرح برلماني تابع لاحدى الفصائل المسلحة من على شاشات الفضائيات ، بانه اذا لم يتم اخراج القوات الامريكية من العراق “وفق رغبة بعض البرلمانيين” فانهم مستعدون لاخراج هذه القوات بالقوة ، دون ان يراعي هذا السياسي ان هكذا قرار هو من مسؤولية السلطة التنفيذية ، ويجب ان يترك الخيار لها في تحديد مصلحة العراق في اخراج او ابقاء تلك القوات او اية قوات اخرى ،باعتبارها هي من ترسم سياسة البلد ، لا ان تُرهن سياسة الدولة بمليشيات واطراف سياسية فاقدة للبوصلة الوطنية باتجاه اطراف اقليمية .
ان تفكيك المليشيات الوقحة والفصائل المنفلتة ، وتقليم اظافر الاطراف السياسية العقائدية الداعمة لها يجب ان يكون من اولويات الحكومة العراقية الحالية ، فستعيد هي بذلك الاعتبار لبنود الدستور العراقي الذي تم اختراقها من قبل الاطراف السياسية . فلا يمكن لجهة مليشياوية مسلحة ان تخوض بنفس الوقت غمار العمل السياسي وتكون لها مقاعد برلمانية ، ولا يجوز دستوريا السماح بتشكيل احزاب دينية عقائدية كالتي تزخر بها العملية السياسية منذ بدايتها ، ولا يسمح الدستور العراقي بالعمل السياسي داخل الجيش العراقي ومؤسساته …كل هذه البنود الدستورية جرى اختراقها من قبل هذا الثالوث ( المليشيات الوقحة ، والفصائل المسلحة ، والاحزاب الداعمة لها) .