منذ أيام، هناك تطبيل جنوني مستمر، ضد الصلح الإماراتي البحريني مع إسرائيل والذي يسمى بالتطبيع. في الواقع قد يكون هذا الصلح من أهم وأعقل العمليات السياسية العربية، بعد كامب ديفيد، منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948. وعلى خلاف ما يروجه البعض، أن هذا التطبيع هو ضد القضية الفلسطينية، أو أنه يضعف الفلسطينيين و نضالهم من أجل حقوقهم، فإنه في الواقع يساهم بشكل كبير في دعم الفلسطينيين و مسيرتهم نحو حياة كريمة و آمنة، بعيدا عن تجاذبات السمسرة و الإرتزاق السياسيَين اللذَين تغذيهما دول عدة، لها أجندات سياسية، لا ترى من الفلسطينين إلا أرقاما مكدسة و من القضية الفلسطينية إلا آداة تخدم رفع غلتها السياسية و التجارية لا أكثر.
مرَدَت منطقتنا منذ عقود على تحويل الناس إلى رحى تدور حول المسرحيات، كقطب وحيد، لرسم الحياة والتفكير نحو الذات و الآخر و العالم. هذه المسرحيات نسجت من الأوهام التي رمت في أتونها شعوب الشرق، وهي في دورانها في فلك هذه المسرحيات اكتسبت عادة التماهي في هذه الأوهام، حتى أصبحت تؤمن فعلا أن هذه الأوهام هي واقع حقيقي. مع أن كوراث كبرى حلت بمنطقتنا، كانت كافية لإيقاظ الناس من الغفلة، لكنها ظلت تكرر نفسها في حال شلل جماعي شبه كامل. والغريب، أن هذا الشلل مازال مستمرا لدى فئات معينة. تقف اليوم أنظمة معينة و أحزاب و قنوات إعلامية، في إصطفاف سوقي، تبيع تلك المسرحيات/الأوهام للناس كحقائق، و تحاول أن تقنعهم، أن شللهم الجماعي ما هو إلا الوجود الصحيح، وما دونه فشل و إنكسار و خيبة!
إسرائيل هي دولة معترف بها من قبل دول العالم أجمع (ومنها طبعا تركيا والسلطة الفلسطينية). هذه الدولة أقامها اليهود، وهم اليوم، من أقوى الجماعات في العالم على صعيد الإقتصاد و التجارة و المال و السلاح و الإعلام. هذه حقيقة بدهية يعرفها أبسط الناس، أو على الأقل، هذا ما يروجه بكثرة المعادون للسلام مع إسرائيل. ومن وراء هؤلاء اليهود، تقف الدول الغربية و على رأسها أمريكا، داعمة لإسرائيل بكامل قوتها و إمكاناتها. ومنذ
عام 1948، حدثت عدة حروب بين إسرائيل و العرب، استنفد العرب فيها كامل قوتهم وأقصى إمكاناتهم، بينما لم تستعمل إسرائيل إلى اليوم أقصى قوتها لدحر جيوش العرب، وما زالت في حوزتها ثلاثمائة صاروخ نووي.
تقول العرب أن اليهود يديرون الدولة الأمريكية. بتعبير آخر، يعتقدون أن نفوذ اليهود هو المهيمن على الإدارة الأمريكية. أثبتت الوقائع أن الإدارات الأمريكية حتى الآن حرصت على الحفاظ على مصالح إسرائيل و إتخاذ كل السبل لإنتصارها، بمساندة واضحة من دول الغرب (بل وحتى روسيا والصين!). أما العرب و دولهم، فليسوا سوى زبائن مستهلكين للبضائع الغربية، وعلى رأس هذه البضائع الأسلحة البالية التي تزيد في أوهام العرب وظنونهم أنهم يملكون القوة، وقد أسرع هذا في دفعهم إلى المزيد من الأوهام، والدخول في مغامرات غير محسوبة العواقب.
وبخصوص قضية فلسطين، لم يحصد العرب من الدول الغربية سوى المرارة و الفشل و الخيبة، علما أنها هي مصدر تزويد العرب بالأسلحة و التكنلوجيا و الصناعات الإستهلاكية. ولكن بعيدا عن الإستغراق في الحديث عن التفاوت الكبير بين العرب مجتمعين و إسرائيل التي تقف خلفها دول العالم، ما عدا بعض الدول التي من الممكن تسميتها بدول لا حول و لا قوة إلا بالله، كلما نظرنا إلى أحوالها المهلهلة؛ لنسأل أنفسنا عن أولئك العرب أو تلك الجهات التي تطبل ضد هذا التطبيع، لماذا تثير كل هذه الضجة المسرحية؟
في الواقع من الممكن إحتزال كل هذه الجهات بقناة إخبارية خليجية تبث في دولة خليجية صغيرة. هذه القناة أمست بمثابة ناطق رسمي لسياسات معينة، تشترك فيها دول معينة مع أحزاب ومنظمات معينة أيضا. هذه الدولة الخليجية الصغيرة، تسهر وبقلق كبير، في كنف الحامية الأمريكية التي تسحب منها المليارات من الدولارات. فحاكم هذه الدولة قدم لأمريكا قبل حوالي عام 193 مليار دولار، ثمن الحماية المذكورة (ثمانية مليارات للحامية الأمريكية على أراضيها و 185 مليار دولار لدعم الإقتصاد الأمريكي!). ولكن السؤال العجيب هو ممن تحمي أمريكا هذه الدولة؟ قد يقال أن الدول الخليجية الأخرى تهددها، وتشكل خطرا عليها بعد الحصار الذي فرضته عليها. ولكن هل حلت القوات الأمريكية في أراضي هذه الدولة منذ تهديد الدول الخليجية الأخرى لها، أم أن هذه القوات موجودة هناك منذ عقود؟ وهل كان العراق يشكل أي تهديد لهذه الدولة الخليجية، حين أستخدمت من قبل أمريكا، كقاعدة لإنطلاق الغارات على العراق والتي دمرته عن بكرة أبيه! وهل كانت ليبيا تشكل أي خطر على هذه الدولة الخليجية الصغيرة حتى تحولت إلى خزان مال و قناتها الفضائية إلى بوق وطبل للحملة البريطانية الفرنسية على ليبيا في عام 2011، والتي تحولت بسبب ذلك إلى دولة يعمها الخراب و الفشل والحرب منذ حوالي عقد من الزمن!
وإذا كانت أمريكا هي راعية إسرائيل، أو هي ربيبة إسرائيل بحسب رأي المعادين لعملية السلام، فلماذا يدفع حاكم هذه الدولة الصغيرة هذه الكمية الكبيرة من المال لأمريكا، ولا يستثمر هذه الأموال في مقاومة إسرائيل؟ إذا لم يكن بمقدوره فعل هذا، أو أنه ليس أهلا لذلك، فلماذا يقوم بإطلاق هذه الحملة الشعواء على عملية السلام عبر قناته الإخبارية التي تقدم نفسها على أنها تقف في صف الشعوب العربية، ضد الإستبداد وضد القوى الخارجية مثل أمريكا والغرب!
إن من تنطق بلسانهم هذه القناة فضلا عن هذه الدولة الخليجية الصغيرة، هم النظام الإيراني، والإخوان المسلمون، وحركة حماس وبعض من يلف لفهم، بالإضافة إلى أقليات دينية، لها ولاء ديني لبعض الدول الأوروبية، ولها منافع في إستمرار صراع العرب و المسلمين مع إسرائيل. وحين تسأل الإخوان وحماس ومحور إيران هل الوقوف ضد السلام مع إسرائيل هو من منطلق ديني ضد اليهود، يجيبونك فورا: لا. إسرائيل تحتل فلسطين، يضيفون، لذلك لا يجوز التطبيع معها. إذن هناك بعد شرعي إسلامي وآخر سياسي و إنساني في الموضوع. ما يخص البعد الشرعي، فإن مهمة تحرير الأرض المحتلة تقع على عاتق الخليفة و الدولة الإسلامية. ومعلوم أننا اليوم نعيش وليس هناك من خليفة أو دولة إسلامية. بل حتى مع وجودهما، فإن الفقه الإسلامي لا يسمح بالدخول في حرب أو مغامرة (حتى لو كان ذلك في سبيل تحرير أرض محتلة)، إذا كانت الخسائر أكبر من المنافع. سياسيا، تعيش الدول العربية أضعف حالاتها، ناهيك عن مقدرتها على خوض مغامرات التحرير البهلوانية.
لنأتي إلى البعد السياسي والإنساني. يتشتدق هؤلاء المعادون للسلام مع إسرائيل، أن هذه الأخيرة تظلم الفلسطينيين سياسيا، و تهضم حقوقهم كبشر. لو نظرنا ببساطة إلى واقع هؤلاء، لقال أي منصف في نفسه، إن إسرائيل تحتاج إلى عدة سنوات طويلة، لتبلغ صف هؤلاء في ما يخص الظلم وهضم حقوق الناس. فما فعلته تركيا بالأكراد، في خلال قرن، قد يندر له مثيل في العالم المعاصر، حيث تم سحق شعب بالكامل مع نهب لأرضه وخيراته وتراثه وهويته، ومازال الواقع الكُردي كما هو، رغم تغير طفيف، في السنوات الأخيرة، لكنه لم يقدر من إخماد تلك الحرائق الهائلة التي تحرق كُردستان وشعبه لعقود طويلة. وقل الأمر نفسه عن إيران و الشعوب التي تعيش فيها. ومع أن تركيا تتمتع بعلاقات حقيقية وعلنية مع إسرائيل، لكن تلك القناة الخليجية تتغاضى عن ذلك، بل تتماهى مع سياسة تركيا العنصرية بحق الشعب الكُردي وتنفخ الأكاذيب المفضوحة حول مزاعم الدعم الإسرائيلي للكُرد، لتخلق جوا إسلاميا وعربيا عاما مضادا للشعب الكُردي المظلوم! ومن هنا، ندرك حجم النفاق لدى هذه القناة وأصحابها الذين يتسترون برداء الإسلام، والتطبيل لفلسطين، و مكياج التظاهر بدعم قضايا حقوق الإنسان في العالم العربي.
اللافت في السلام مع إسرائيل، أن الشعبان الإماراتي و البحريني يقفان مع دولتيهما في هذه العملية. وهذا إن دل على شئ، فيدل على الوعي العام المسؤول تجاه وجودهم ومصالحهم ومصيرهم. ومتى ما تخلخلت هذه العلاقة، لا سامح الله، فإن مصير البلدين لن يكون بأفضل من مصير العراق و ليبيا اللذين تم تدميرهما من قبل الغرب، وبمشاركة تلك الدولة الخليجية الصغيرة وقناتها الإخبارية التي كانت تحرض الشعب الليبي ضد الراحل العقيد معمر القذافي، بينما كانت طائرات الناتو ترمي القنابل من السماء فوق ليبيا، لتدمرها شر تدمير.
أما للذين يعادون السلام مع إسرائيل، فمن الممكن توجيه سؤال بسيط إليهم: إن الميدان مفتوح، وعندكم المليارات من الدولارات، ومئات الألوف من المقاتلين، وصواريخ وطائرات ودبابات وأسلحة كثيرة. لِمَ لا تتفضلوا وترموا ببعض الألعاب النارية تجاه إسرائيل، وترموها في قاع البحر. وإن لم تكونوا تفعلون ذلك، ومعظمكم يتواصل خلف الستار مع إسرائيل أو الدول الداعمة لها (لا سيما أمريكا)، فلتكفوا عن خداع الناس وتضليلهم، بل واصمتوا خيرٌ لكم ولغيركم! وحري بالشعب العربي أن لا ينخدع بأكاذيب تلك القناة الإخبارية التي يديرها خليط له أجنداته ومصالحه، وآخر همهم هو مصلحة الشعب الفلسطيني المنكوب! *
* يستطيع القارئ العودة إلى عدة مقالات كتبتها في شأن هذه القناة الفضائية والقضايا التي تعلكها! في الروابط التالية:
1- https://kitabat.com/2020/02/08/%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%81%d8%b6%d9%84%d8%a9-%d9%84%d9%82%d9%86%d8%a7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac/
2-
https://kitabat.com/2020/01/29/%d8%b9%d9%82%d8%af%d8%a9-%d9%86%d9%82%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%84%d9%85%d9%8a%d9%86-%d9%85%d8%b1%d9%81%d8%b1%d9%81%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d9%86%d8%a7/
3-
ثلاث حلقات بعنوان: “سيكولوجية النخبة الفلسطينية و أسطورة فلسطين القضية الأولى للمسلمين والعرب” في موقع الحوار المتمدن: https://www.ahewar.org/m.asp?i=220