وصلت الى الشام يوم ١٥ آب عام ١٩٨٨ قادماً من العاصمة الإيرانية ( طهران ) بعد معاناة قاسية وخوف مرتقب من مستقبل مجهول مرده الاوضاع الغير طبيعية داخلية وخارجية ، وواحدة من أسبابه ذروة لهيب الحرب بين الجارتين الاسلامتين العدوتين إيران والعراق ، حيث الطيران العراقي يحلق يومياً في سماء طهران ليرمي حمم رشاشه من منافذ ( سوبر إيتندار ) الطائرات الفرنسية المميزة والتي منحتها حكومة ( شاراك ) الى العراق لتنهي بها الحرب من خلال الأستهداف الدقيق لحركة السفن النفطية في ميناء بندر عباس ومصفى عبدان والذي يعد أهم مرفق حيوي أقتصادي لإيران مما شلت الحركة به تماماً ليتجرع الإمام الخميني جرعة السم الشهيرة .
وصلت الى العاصمة طهران في ربيع ١٩٨٨ بعد أن نجوت بأعجوبة من جائحة الانفال التي أجتاحت كل مقراتنا ووجودنا ووديان تواجدنا والأشجار والقرى التي نحتمي بها كمقاتلين ( بيشمركة ) شيوعيين وجلالين وبرزانيين وحسكيين والباسوكيين . سكنت بدربونة ضيقة في شارع ناصر خسرو الشهير في بيت كبير ذوو طراز فارسي قديم مع الشهيد سامي حركات وعملت بمطعم ليل نهار في شارع كوجه مروي لسد رمق الجوع وكسوة الحياة المتواضعة . الشارع الذي يكتظ بحشود من العراقيين بكل ألوانهم وأنتماءاتهم ونشاطاتهم السياسية وقصصهم الاجتماعية الغريبة وطرق تزوير الوثائق والمستمسكات العراقية وبدون إستثناء ، بث الأشاعات تسبق واقعهم اليومي عن بلدهم البعيد العراق داخلين ببعضهم الى حد التجسس على بعضهم وبين صفوفهم ، وفي وسط طبيعة علاقتهم تنتشر أساليب التجسس على بعضهم . كنت في ظرف صعب ما عليك الأ أن تنجو من تلك الاجواء وتداعياتها الخطيرة ، وبعد أن نجوت بأعجوبة من عملية الانفال ومازلت أحمل أضرارها وخوفاً من يكشف آمري للسلطات الإيرانية بعد أن أدعيت في أول نقطة حدودية أني جندي هارب من الحرب ومن مدينة الكاظمية وأسمي علي . آذن أذا كشف آمري أنني شيوعي وكنت مقاتلاً في الجبل ؟. هذه وحدها تهمة تؤدي بك الى التهلكة الحتمية .
بذلت جهداً مضنياً من أجل أن أخرج من طهران سالماً بمعونة أصدقاء ورفاق وأحبة رغم البحبوحة المادية في ترتيب يوميات حياتي . في دمشق الوضع يختلف سياسياً حيث الرفاق والحزب والعمل العلني والبوح بأسمك الصريح وأنتمائك السياسي حيث لاخوف ولاتردد في الاعلان عن مواقفك . في يومها كان الجو السياسي للشيوعيين مشحون بالخلافات والانتقامات والمقاطعات لحد العظم مما لفت أنتباه القوى والاحزاب الأخرى أتهامات بالعمالة للنظام العراقي والمخابرات الاسرائلية بالجملة بدون وازع أخلاقي ولا أنساني ولا أسانيد ولا أحتراماً للتاريخ الطويل المعمد بالتضحيات ، حيث من يختلف أو يبدي وجهة نظر عليه أن يضع أمامه حملة شرسة وقاسية لتسقيطه سياسياً وأجتماعياً وأقتصادياً في تميز واضح لنا نحن الشيوعيين وبين صفوفنا ببغاوات يقلدون الاصوات رغم نشازته في التعبير يعني أي أشاعة تطلق على رفيق حتى وأن كانت نشاز أو للانتقام تتبنى رغم المعرفة المسبقة أنها أشاعة لتحطيم رفيق جزاء موقف أو أعتراض . الحقيقة هي العمود الفقري للتاريخ وأن طمست مؤقتاً لكنها ستظهر من جديد بأكثر صرامة ووضوحاً .
في اليوم الأول ، الذي طأطأت به قدميه الحافتين أرض دمشق الحبيبة شعرت بالآمان رغم وضعي الصعب حيث بلا جناح لأفق قريب . سكنت مع أبن قريتي وصديق الطفولة والرفقه الدكتور عزيز الشيباني في مشتمل متواضع في حارة ركن الدين . نتقاسم حنين الشوق الى قريتنا وبيوتها وذكرياتهم السجية بيتاً بيتاً لعلها تشحذ بنا ما تبقى من ذكرى وأمل للقاء وصدى صوت مخنوق عبر أسلاك التلفونات المخترقة . رغم كل المحاولات في الحصول على عمل يسد نزراً من رمق العيش الصعب ، لكنها هباء كل المحاولات تتلاشى بقدوم الأيام لم يبقى أمامك الا القراءة واللقاء بالرفاق والاصدقاء ومقهى الروضة بمثابة وكالة أنباء عن أخبار العراق والعراقيين والذي يتصدر نشراتها الرئيسية أبو حالوب المقيم العتيق .
في تلك الرحلة والأقامة لايعكر مزاجك ويحزنك الأ صراع الرفاق وقساوة الاساليب وحذالة الاتهامات والمقاطعة الاجتماعية ضد من بات خارج الصندوق المقدس ، ولم يجرأ أحداً الى الآن بفتح ذلك الصندوق الأسود وما كان يخزنه من أجحاف وتشويهات وتعديات ليعاد الى ماكان على عهده . لآجل لم الشمل والذي بات متشظياً وسط أكوام من ميليشيات وأحزاب إسلام سياسي ودين متخلف . وفي يوم ما من عام ١٩٨٩وفي ظهيرة دمشقية كنت نازلاً مشياً على الاقدام من ركن الدين الى مقهى الروضة في الصالحية صادفني في الطريق غضبان السعد الشيوعي والعسكري المرموق أيام ثورة تموز ، وبعد السلام والكلام والسأل عن يوميات الشهيد خالي خزعل في معرض تجميع معلومات عنه لكتاب قادم . حدثني بألم عن تفاصيل يوميات حياته والأساليب التي عومل بها لا لشيء الأ في أبدائه بعض الملاحظات عن طبيعة التنظيم والأداء الحزبي والتعامل الفض مع حشود من الرفاق .
كنت فقيراً في أدواتي الأولى في تتبع مسيرة حياتي ، حيث ضيعت فرص كثيرة بسبب مستحاتي ، كانت مسيرتي قاحلة ومليئة بالالغام ، كنت في بداياتي أكتب لنفسي في فضاءات قرية الهويدر على شريعة النهر وفوق السطح وكهوف الجبال ، وأنا من الذين وليس هذا تفرداً أو تميزاً أكتب عن الاشياء التي عشتها وخضت تجاربها . يقول جوستاف فلوبير أنا هي بوفاري في روايته مدام بوفاري . وهذا هنري ميللر ورواياته . أكتب بدون تردد ولاخوف رغم السد العالي للتيار المنافي للحقائق والوقائع وهناك نفر ورغم تجاربه الطويله في الحياة والسياسة لكنها لايمتلك تلك المبادرة بإتجاه روح التغير وبناء الانسان ولي تجارب عديدة للأسف الشديد وستبقى حالتنا هذه للآسف . وهل من رابط بين السياسة والكوميديا .
من كتابي سيصدر قريباً في العاصمة بيروت .