الرواية فنُ العصر الحديث ـــ أو هكذا أُريدَ لها ـــ ؛ لما تمتلكه من قدراتٍ هائلة في تمثيل المرجعيات الثقافية للشعوب ، والافصاح عن هُوياتها ، والسرد الروائي حاملٌ أمين للتحولات الفكرية التي تشهدها المجتمعات ، والروائي متأملٌ خلاقٌ للهزات التي تتعرضُ لها الجماعات والأفراد . هذه السمات التي تتمتَّع بها الرواية حتَّمتْ على النقد تسويرها بهالةٍ مُضخَّمةٍ : فهي النوع الأدبي الأكثر تمثيلاً للطبقات البرجوازية كما يقول “جورج لوكاش”، والكلمة فيها آيديولوجيا كما يقول “ميخائيل باختين” ، وهي من المرويات الكبرى التي تساهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم ، وتشكيل التصورات عن الشعوب كما يقول الدكتور “عبد الله إبراهيم” .
هذه القيمة المضخمة التي تُسوَّر بها الرواية داخل الخطاب النقدي تدفعنا لتساؤل عن حقيقة الرواية العراقية بوصفها فناً فرض حضوره على المشهد الثقافي العراقي ، فهل تنطبقُ هذه المقولات المُضخَّمة على الرواية العراقية ؟ أم أن الرواية العراقية ما زالت تحبو على الرغم من بلوغها المئوية الأولى ؟
الرواية العراقية أسيرة لمُحدّدات قبْلية على صعيد الموضوع ؛ إذ بين هذه الكم الروائي الهائل , الذي تجاوز الألف رواية , لا تكاد تجد رواياتٍ تخرِج عن موضوعي الدين والسياسة ! هذا التقوقع الثيماتي دفعَ السرد الروائي إلى الحيز الشعبوي المسكون بجدل الدين والسياسة ، فتأثرت لغة الرواية بالمباشَرَة ، وسقط بعضها في فخ الاصلاح الاجتماعي ؛ من خلال تكريس العالم الروائي للوعظ ، والسعي إلى ايجاد الحلول للمشكلات الاجتماعية , أو الانخراط في فضاء التحليل السياسي ؛ فغَدَتِ الروايةُ وثيقةً صحفية لأزمةٍ سياسيةٍ , أو مشكلةٍ اجتماعيةٍ .
ثمة أزمة عضال في الرواية العراقية , تتمثل بأزمة المكان ؛ إذ كيف لرواية مُطالَبَة بالكشف عن المرجعيات الثقافية للشعب ، وتمثيل هُويات أفراده ، وتأمّل أزماته الكبرى أن تقتصِرَ على مكان واحد ! ؛ فليس سوى بغداد مكاناً لحركية الأحداث في الأعم الأغلب من السرد الروائي العراقي إن لم يكن كله ، والروايات التي لم تكن فيها بغداد مكاناً رئيساً ، فهو مساهم فعَّال في تطوير الأحداث ، ويمثل نقلةً نوعيةً في وعي الشخصية داخل الرواية .
هذا الإلحاح يُحتم تساؤلات العلِّية : لِمَ ؟ ألا توجد مناطق ذات عمق ثقافي غير بغداد ؟ ألسنا بلد الحضارات ؟ أم أن الروائي يجهل الجغرافية الثقافية للعراق ؟ والقارئ العراقي لا يستهوي مكاناً غير بغداد , أو” القارئ الكوني” لا يعرف عن العراق سوى بغداد ؟.
على الرغم من وجود بعض الروايات التي تتحرك عوالمها في فضاء مكاني خارج بغداد إلا أنها لم تنعتق من الطابع التسجيلي السِّيري ، ولم يتجاوز الروائي مهمة الشهادة على الواقع بتفاصيله ، فقد كرَّسَ روايته للتاريخ المدينة , وبتعبير أكثر دقة لتاريخ سيرته في المدينة , وحتى في هذه الروايات التسجيلية حضرت بغداد كحلم يراود البطل ويتطلع إليه , أو كمكان تقصده الشخصيات ؛ لتطوير أحداث السرد وتنويعها . وحتى روايات روائيي الخارج ظلت مسكونة ببغداد .
ويبدو لي أن حضور بغداد بوصفها مكاناً مهيمناً في الرواية العرقية فُرضَ فرضاَ على الروائي سواء أكان على وعي بذلك أم لا ؛ فبغداد تمتلك حضوراً في نفوس الشعب ؛ لأنها العاصمة ، ومدينة الأحلام الكبرى ، والمدينة التي يحبها الجميع ، وحمل لها إرثاً في ذاكرته , فلابدّ للروائي من ربط روايته بالإرث المُثمَّن في ذاكرة المتلقي ، ومحاولة جعلها تعبّر عن ذاكرته.
قد يرجع السبب لغاية إشهارية مفادها: إنَّ العالم لا يعرف عن العراق سوى بغداد ، وحتى بعض مناطق العراق لا تعرف سوى نفسها , ومناطق مجاورة لها , وبغداد ؛ فلكي يصل الروائي إلى أكبر عدد مُمكن من القراء لابدّ له من الاشتغال على المتفق عليه ، والمثمن في اللاوعي ؛ بغية ديمومة التشويق .
وقد يعود السبب إلى بغداد نفسها بوصفها مركز الصراع والآيديولوجي السياسي؛ فهي الحلبة التي تصارعت فوقها الآيديولوجيات , وما زالت تتصارع ، والمكان الذي احتضن الجميع ، وشتتهم في الآن نفسه .
أما الأزمة الفتاكة التي نخرتِ الرواية العراقية , وزعزعت ثقة الروائي بأدواته ؛ فتضخم إثرها خطابُ الكراهية , والتنابز بالألقاب هي تعويلُ الروائي على “النقد الأكاديمي” ـــ إن كان ثمة نقد بهذا المفهوم ــــ ؛ إذ أن مشكلة الروائي العراقي – وربما العربي – أنه يُعوّل على النقد الأكاديمي تعويلاً مفرطاً , ويتخذه معياراً للتباري ، ويظن أن تدبيج الكلام المُدعَّم بأسماء فلاسفة ونقاد غربيين يتقن “الأكاديميّ” حياكتها بين سطوره الانطباعية هو : الشهادة ، والجائزة ، وخاتمة المطاف ، ويعتقد أن دراسة روايته في رسالة ، أو أُطروحة بمثابة نوبل للآداب !, ربما لم يدرك الروائي أن النقدَ الأكاديميّ في أغلب تجلياته قوالبٌ جاهزة ، ورؤى مُحنّطة : تصلح للروايات كلها ، ومن الطبيعي جدًا أن تصلح للقصة ، والأدهى في طبيعته : إن هذا النقد يُجوّز ما يقال عن الرواية أن يقال للشعر !
ثمة أزمة أخرى معقدة في تكوينها -تشذ منها بعض الروايات- , تتمثل في ظاهرة (الاستعمال الواحد) – إن جاز لنا التوصيف – ؛ نتيجة التدوير وإعادة الإنتاج ، فالبضائع التي توفرها معامل التدوير وإعادة الانتاج غالباً ما تكون ذات استعمال واحد ، كذلك الإبداع ؛ إذ المبدع الذي يُعيد الرؤى والأفكار الرائجة ، ويتقمص فنون الإبداع العالمي ، ويستلهم السينما ، ويطوع مشاهدها ؛ عبر تحويلها إلى مكتوب غالباً ما يصلح إبداعه للاستعمال الواحد ، ومثالنا الرواية الآن فهي هجين يعتمد على التدوير وإعادة الإنتاج ؛ لذا فهي لا تدفع المستهلك لأكثر من قراءة ، ولا تشحذ همّة التأويل ، ولا حتى للاشتياق لعوالمها ؛ لأن صلاحية استعمالها انتهت بالقراءة الأولى , في حين الإبداع الروائي الخلَّاق الذي يشتغل بعيداً عن معامل التدوير وإعادة الإنتاج , غالباً ما يدعو للتأمل, وإعادة القراءة , والاشتياق ؛ بل يشعر القارئ بحميمية مع الابطال , وتفاعل مع حيواتهم ؛ إذ كثير مِنَّا يشعرَ بأنه صديقٌ لـ(غريغور) كافكا , و(راسكولنيكوف) دوستوفيسكي , ومشتاقٌ لحكمة(زوربا) نيكوس كازانتزاكيس .
الرواية العراقية – خلال قرن من نشأتها – ثيمات مُركَّزة حول جدلية الدين والسياسة , تهيمن بغداد على فضائها المكاني هيمنةً تجعل الرصد النقدي الدقيق يُجردها من القدرة على الافصاح عن هُوية الفرد العراقي ، أو تأمل أزماته , ويجردها من قدرتها على تمثيل المرجعيات الثقافية تمثيلاً سردياً نابعاً من تأمل تلك المرجعيات ومن ثم سردنتها لا نقلها نقلاً يكاد يكون حرفياً , فضلاً عن طابعها الجماعي في التفكير ؛ فعالمها الروائي يحسب الإنسان جرماً مطوياً في العالم الأكبر , ينفعل بالمؤثرات ولاسيما الديني منها والسياسي , ولا يفعل , ويبدو أنها عاجزة عن تأمل العالم الأكبر المطوي في الإنسان نفسه ؛ لتتأمل أزمة الفرد نفسه , لا محنة الجماعة من خلال الفرد .