في صيف عام 1971 اصطحبتني خالتي الى النادي الرياضي في تل ابيب الذي كان يعج بالإسرائيليين ايام السبت. كان مشهدا مشابها لمسبح الشعب البغدادي في الستينيات. كان البعض يزاول الرياضة ومنهم من يعوم في بركة السباحة ومنهم من انتظم في حلقات للحديث والاسترخاء. جلست على كرسي مريح وفتحت راديو الترنزيستور الصغير لاستمع الى اغنية لام كثلوم بعد نشرة الاخبار من دار الإذاعة الإسرائيلية. سارعت خالتي لتطلب مني ان اخفض الصوت. كانت لي مفاجئة صادمة.فقد كنت بضعة اشهر في اسرائيل بعد فراري من جحيم العراق في نهاية 1970 . هذه المحطة المفاجئة يسميها الشاعر الإسرائيلي الموهوب ،عراقي الأصل، ايلي الياهو، واحدة من “محطات الخجل“ في قصيدة يصف فيها سلوك والده الذي كان يسارع إلى تحويل موجة الراديو من العربية إلى العبرية بعد خروجه من كاراج السيارات الخاص إلى الطريق العام، خشية أن يسمع أحد المارة الأغاني العربية التي يشغف بها.
اذا كان النجاح هو محصلة اجتهادات صغيرة تتراكم يوماً بعد يوم فإن الموسقى العربية سطرت نجاحا باهرا في العقدين الأخيرين. إسرائيل عام 2020 هي محطة معاصرة تتناغم فيها انواع الموسيقى من كل انحاء العالم اخترقت فيها الموسقى العربية المساحة المغلقة بوجه ما هو ليس بغربي او روسي في فضاء الموسيقى، بتاثير افواج المهاجرين.وهذه هي قصة كفاح طغى فيها ذوق الجمهور على ميول منتجي البرامج الإذاعية الذينحاصروا الاغنية العربية، باعتبارها امتدادا للغة العدو. لكن اللغة العربية كانت اللغة المحكية لدى 850 الف يهودي، قدموا من مختلف انحاء الدول العربية بلهجات متباينة، لكن الذوق العام كان متشابها الى حد ما، عندما كان المشهد الغنائي يعج باسماء اساطير الشرق مثل ام كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش في مصر وسليمة مراد في العراق وصباح في لبنان وغيرها. غير ان النزاع العربي الإسرائيلي حمل الغناء الرومانسي عبئا سياسيا جعله موضع احتكاك بين المنحدرين من الدول العربية والقادمين من اوربا الشرقية والغربية . هكذا وجد يهود الدول الشرقية ثقافتهم العربية وموسيقاهم رهينة في موطنهم الجديد. فما كان منهم الا احتضان الموسيقى اليونانية بنغمها الحزين لتكون بديلا “شرعيا” للموسيقى العربية التي كان الاعتقاد السائد انها موسيقى بدائية مقارنة مع بيتهوفن واقرانه، وفقا لما يرويه شمعون برناس الخبير في الموسيقى اليونانية، لدى تحليله سبب نجاح هذه الموسيقى في إسرائيل.
يقول ايلي جرينفيلد المستشار الفني للمؤسسات الموسيقية والفنانين في إسرائيل ” انالانطلاقة الحقيقية للموسيقى العربية بدأت مع حضور سافو Sapho الفرنسية المغربية الى اسرائيل عام 1988 حيث قدمت عروضا موسيقية في “هيكل الثقافة “، اكبر قاعات تل ابيب المهيبة ،غنت فيها لكوكب الشرق ام كثلوم“. هكذا حطت الموسيقى العربية في قلب تل ابيب النابض وليس كما جرت العادة في حانات ومقاهي جانبية. ومن مطلع العام 1990 تشكلت العديد من الفرق الموسيقية التي تقدم الموسيقى العربية فيما تأثرت غيرها من الفرق بهذه الموسيقى واكتسبت معجبين في العالم والدول العربية على حد سواء.
وفي نظري ان اسرائيل، مع مر السنين، تخلصت شيئا فشيئا من عقدة النزاع العربي الإسرائيلي سيما بعد توقيع التفاقية السلام مع مصر، اذ كان النزاع عائقا نفسيا بوجه تقبل موسيقى العدو. وبعد عامين من التوقيع على معاهدة السلام مع الأردن، اصدرت سريت حداد، من اشهر المغنيين في اسرائيل والاكثر تاثيرا على المشهد الغنائي في 1997 البومها “كرمل” مع اغاني عربية تم تسجيل معظمها في الاردن. كما حلت ضيفة على الاردن، حيث غنت من اغانيها لعمالقة الطرب العربي على الرغم من انها تفتقر الى جذور عربية.
اتذكر في مطلع الالفين عندما شكلتُ جمعية لتطوير الموسيقى العراقية واطلقت عرضا بعنوان “الملتقى في مقهى بغداد“ استحضرت خلاله مساهمات الاخوين صالح وداود الكويتي في تطوير الموسيقى العراقية في النصف الاول من القرن العشرين، علما ان داود كان جد الموسيقار الموهوب دودو تاسا. دعوت الأخير ليكون ضيفا الى جانبي في استوديو الاذاعة الإسرائيلية “ريشيت بيت“ للحديث عن مكانة الاخوين في العراق قبل الهجرة الى اسرائيل. وخلال البث المباشر تحدثت كيف ان بث الموسيقى العراقية في مطلع عهدها في الثلاثينيات كان من قصر الزهور، الذي سكنه الملك فيصل الاول كما ان الملك غازي اهدى صالح الكويتي ساعة ذهبية. فما كان من تاسا الا التعقيب بانه كان يعتقد ان هذه الرواية هي من نسج خيال القادمين من الدول العربية!
قطع تاسا شوطا كبيرا في موسيقى الروك كما ان البومه ” الأخوان الكويتي” صدر بعد عقد ونيف من هذا الحديث الاذاعي قدم فيه اغانٍ والحان جده واخ جده باطار فني جديد ليتحول الى صرعة في المبيعات والحفلات الموسيقية. والمفارقة ان هذا التوزيع الجديد استقطب الوف العراقيين خارج العراق وداخله على الرغم من ان اللهجة التي يغني بها تاسا ليست بلهجة عراقية نقية. وبفضل التوزيع الجديد دُعي تاسا الى عرض موسيقاه مع نسرين قادري الموهوبة في الولايات المتحدة من قبل العملاقة هيد ستارت بحضور عشراتالالوف من الجمهور الامريكي بضمنه من يميل الى الموسيقى العراقية.
تزامنا مع نجاح الالبوم ظهرت على الساحة الفنية في اسرائيل قبل 5 سنوات “فرقة النور“التي رفعت شعار الموسيقى العربية التقليدية التي كانت تعزفها فرقة دار الاذاعة الاسرائيلية وتضم 25 عازفا بقيادة العازف اريئيل كوهين ووالداه ينحدران من المغرب.حظيت نشاطاتها بتغطية اعلامية جيدة. هذا المشروع الطموح جاء تتويجا لظهور فرق صغيرة مثل “يوسف في إحاد“ و“بستان ابراهام” وفرق صغيرة بريادة يائير دلال من جذور عراقية حظيت بدعم من وزارة الخارجية الإسرائيلية باعتبارها سفيرة لإسرائيل في الخارج.
لا بد من السؤال كيف تنامى الذوق الإسرائيلي لدى الشبيبة؟ مما لا شك فيه ان شريحة كبيرة من الشبيبة اليهود استمعوا لانغام عمالقة الطرب في الكنيس بعد ان اجاز الحاخام الاكبر في اسرائيلي الحاخام عوفديا يوسف تطويع هذه الموسيقى للترانيم الدينية، التي ساعدت في تقديم الموسيقى العربية على طبق من ذهب، فشغفوا بها.
كما ساهمت مختلف مهرجانات السلام وفي مقدمتها مهرجان العود السنوي الذي يتم احياؤه كل عام في استقطاب جمهور اسرائيلي ليس له جذور شرقية. وسرعان ما تحول المهرجان الى عروض عديدة في عدة مدن وعشرات القاعات، تُستثمر فيها ميزاينات كبيرة وتدعمها مختلف البلديات اضافة الى وزارة الثقافة. كما ان هذه الموسيقى المهنية استهوت جمهورا واسعا، احتضنته القاعات الراقية التي تقدم المسرحيات والعروض الموسيقية الغربية مثل تسافتا، مسرح اورشليم المقدسي، متحف تل ابيب وحتى جامعة تل ابيب حيث تتركز النخبة.
غير ان الغناء بالعربية لا يزال التحدي الأكبر امام الجمهور الإسرائيلي اليهودي. ففي حين تخطى المواطنون العرب حاجز العبرية وامسوا يتعاطون بها ويتناغمون معها، على سبيل المثال، الفنانة نسرين قادري التي تغني بالعبرية ولها جمهور غفير من المعجبين ولونا ابو نصار التي تعزف على الجيتار وتغني بالعبرية . صحيح ان هناك من الجيل الثاني من يهود الدول العربية من يجيد الغناء بالعربية، سيما في الغناء العراقي ولهم جمهور من المنحدرين من نفس الاصل مثل يوسف البغدادي ، يعقوب نشاوي لكن هذا اللون بقي تاثيره محدودا. وحيال هذه المجموعة، برز كوكب جديد من نفس الجذور ذو خلفية موسيقية كلاسيكية وعربية زيف يحسقيل الذي يعزف ويغني وفق الضوابط الفنية لعمالقة الطرب العربي مثل عبد الوهاب وام كلثوم وفريد الأطرش. ومن المفارقة انه اسر قلوب العرب في إسرائيل ايضا، منذ ان كان في العشرينات من عمره وهو ملتزم بالتعاليم اليهودية التقليدية. هذه الفلتة جاءت بعد ان اخترق آفي كوهين، الذي كان مرتلا بالعبرية في الكنيس، الوسط العربي ايضا، بفضل صوته الرخيم وهو يغني للموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب ونجح نجاحا باهرا في هذا المضمار. غير اننا لا يمكن ان نغفل الصوت النسائي الذي اخترق حاجز العربية ولقى نجاحا منقطع النظير عندما غنت زهافا بن اغاني ام كلثوم وامست اغانيها مسموعة في غزة والاردن في الثمانينات من القرن العشرين.
في السنوات الأخيرة انضم صوت نسائي رقيق لتمار شوقي، التي تغني اضافة الى عمالقة الطرب المصريين، لفيروز وهو لون لا يغنيه المغنون اليهود في اسرائيل، باعتبار ان اغاني فيروز ليست بنفس الشهرة مثل ام كلثوم. والملفت للنظر ان تمار كانت تغني بالإنجليزية في بداية طريقها كما تعزف على البيانو. غير ان الأغاني التي سمعتها من جدتها وجدها امل وسليم شوقي كانت ناقوسا يقرع من بعيد نغما مألوفا، تجتمع فيه الألفة والطفولة! تتذكر تمار قصصهما، اذ كانا على علاقة بوديع الصافي من اشهر المطربين اللبنانيين عندما كانا في لبنان واستخدما اسماء مستعارة لدى تعاطيهما معهلتلافي الاحراج.
واذا كنا قد توقفنا في لبنان المحطة، فلا بد ان نتوقف مع “الفرقة المقدسية شرق غرب” بقيادة توم كوهين التي تخصص في السنوات الاخيرة عروضا لموروث المطربين الشهيرين في العالم العربي .لهذه الفرقة جمهور كبير يحضر العروض عن طريق الاشتراك السنوي في قاعات كبيرة او مسارح تدمج العروض الموسيقية مع ربرتوارها المسرحي مما يتيح متابعة العروض الفنية في مساحات بعيدة عن مركز إسرائيل، حيث تقدم الاغلبية الساحقة من العروض. وتتميز هذه الفرقة بتقديم عروض موسيقية متنوعة الجغرافية والمضمون،تشمل ضمنا، موسيقى واغانٍ يهودية مغربية واغانٍ اندلسية وهي تتعاون مع كوكبة من الموسيقيين مختلفي الجذور، اذ تجد مثلا رفيد كحلاني، يمني الجذور نشأ على الموسيقى اليمنية والغناء بلهجات متنوعة، متأثرا بموسيقى شمال افريقيا وموسيقى البلوز الامريكية لمايكل جاكسون وبرينس. خلق كحلاني تركيبة ساحرة يسوقها خارج اسرائيل وهو من اكثر الفنانين الاسرائيليين الذين يقدمون عروضا خارج البلاد بفضل قدراته ومظهره اللافت للنظر، سواء تسريحة شعره او ملبسه، كلها عوامل انصهرت في بطاقته الشخصية. اصدر عدة البومات منها اسماء عربية “Ma’ahla Asalam“ مثل ماحلى السلام وضع لها الكلام كاتب يمني الجذور تسيون جولان الذي يشغف باغانيه اليمنيون والبومه الثاني Insaniyaانسانية .
ولا شك ان هذه الفرقة الموسيقية والفرقة الاندلسية التي سبقتها في الولادة في 1994وهي فرقة تضم 28 عازفا، تتعاون مع مطربين وفنانين، تتماهى موسيقاهم مع مساحة المضمون للموسيقى الشرقية او موسيقى شمال افريقيا. ولا بد للاشارة الى فنانة يسطع بريقها في السنوات الاخيرة وتقدم عروضا غنائية في المغرب ايضا هي نيطع القايم التي تأثرت بالترانيم الدينية التي سمعتها من ابيها وباغاني نسوية سمعتها من جدتها وهي تقدم ضمنا موسيقى من شمال افريقيا مطعمة ببصمات البيت الذي نشأت فيه . تقول في احدى مقابلاتها مع موقع اخباري ” قد يكون للموسيقى التي انتجها وقع ايجابي سياسي وانا لا اعارض ذلك، باعتباري يهودية اسرائيلية اختارت الغناء بالعربي. إن ردود الفعل التي تلقيتها من العالم العربي لم اكن لأحلم بها.“
وفي السنوات الأخيرة انضمت المسرحيات الغنائية الى المشهد الموسيقي العربي. الاولى تتناول حياة ام كلثوم والثانية فريد الاطرش بمشاركة يهودا وعربا. قدمها المسرح اليهودي العربي مئات العروض في اسرائيل وخارجها ولقيت نجاحا باهرا.
ولعل اكثر ما هو رمزية في تبوأ الموسيقى العربية مكانة مرموقة في اسرائيل، هي العروض الموسيقية التي قدمتها “فرقة النور“ في مقر رؤساء اسرائيل مع انها حديثة العهدفهي تقدم 50 عرضا سنويا “ بالرغم من ان ميزانيتها لا تزال بعيدة عما هو مطلوب وفقا لما تقوله مديرة الفرقة حنا فتية. وما يميز هذه الفرقة ان مضامينها الموسيقية تغطي دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا وهي الفرقة الوحيدة التي تتقن اداء الموسيقى العراقية. كما انها مميزة في الحفاظ على التقليد الشرقي واللحن الاصلي دون مسه. تعلل مديرة الفرقة حنا فتية عراقية الجذور ذلك بقولها: “هل يعقل ان يقوم احد بتغيير موسيقى بتهوفن “؟ وردا على سؤال من هو جمهور المشاهدين للعروض الموسيقية تقول: نحن نقدم موسيقى مميزة رفيعة المقام تحاكي الاصل باكبر قدر ممكن وبكل امانة، فلذلك تجد الجمهور خليطا من المخضرمين الذين نشأوا على الموسيقى العربية او من الشبيبة الذين طوروا وعيا بجذورهم الشرقية، على الرغم من انهم لم ينشؤا في بيئة موسيقى شرقية او جمهور له حس موسيقي رفيع.” وهذا الوصف ينطبق على مواصفات الجمهور الذي يتابع الموسيقى الشرقية على اختلافها.
وخلافا لهذا التوجه، نجد مبادرات الجيل الثاني من المنحدرين من جذور عربية في تحويل انغام الطفولة الى موسيقى عصرية تتمشى مع ذوق الشباب الإسرائيلي الى جانب احياء الأغاني التراثية ولعل قصة الثلاثي اليمني الاصل فرقة ايوا خير نموذج .اطلقت 3 شقيقات تاير وليرون وتاغل اول البوم عام 2016 من الموسيقى اليمنية سرعان ما تحولت الى صرعة موسيقية للكليب الذي شاهده الملايين. هذه كانت باكورة عملهن الفني التي تستند الى دراية واسعة بالأغاني اليمنية التراثية التي قمن بادائها في وقت مبكر والقدرة على كتابة كلمات جديدة باللهجة العربية اليمنية اضافة الى قدرات وثقافة موسيقية من مؤسسات رسمية اضافت هيبة لمكانة الموسيقى العربية.
ويجمل الصورة ايلي جرينفلد قائلا:” إن تنامي الادراك بثروة الموسيقى العربية في المشهد الإسرائيلي طبع بصمات عميقة في نفوس الجيل الثاني من الاسرائيليين وهي بمثابة “ثورة“. حتى في خضم الكورونا، يُعد مسرح يافا اليهودي العربي لاطلاق مشروع عن سيرة حياة العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ يجتمع فيه المطرب زيف يحسقيل مع الممثل الشهير اوري جبريئيل من اصول عراقية. كما تخللت برامج وازارة المعارف الترفيهية بثا حيا لعروض موسيقية عربية من منصة زوم في هذه الفترة.
ولا شك ان تحسن المناخ السياسي بين اسرائيل ودول الخليج في الآونة الأخيرة اسهم في رصد وزيرة الثقافة السابقة ميري ريجيف ميزانيات اكبر للموسيقى الشرقية والعربية وفق معاييرمحددة، شذرت المزيد من المساواة بين الموسيقى الغربية والشرقية. امتدادا لهذه الاجواء قدمت تمار شوقي مؤخرا عرضا غنائيا بالعربية في العقبة سألها في اعقابه احد الامارتيين اذا كان لديها استعدادا للغناء في الامارات في غياب العلاقات الدبلوماسية بينها وبين اسرائيل. يقول المثل ” إذا كان مصعد النجاح معطلاً، استخدم السلم درجة درجة“ وهذا ما فعلته الموسيقى العربية في اسرائيل!
نشر اصلا على موقع تل ابيب لاستعراض الكتب https://www.tarb.co.il