صدر مؤخراً للشاعر العراقي فارس مطر ديوان شعري موسوم “الفرح المتأخر يغمرني” مشار في طبعته العربية الأولى بـ “شعر معاصر”، يقع بمائة وأربع صفحات من الحجم المتوسط ويحمل عنواناً ميسوراً ومترامياً على غير ما هو شائع. فالقصائد من أليفها إلى يائها لا تحمل عناوين متواردة تحاكي أو تقترب إعتبارياً من نصوص القصائد بشكل وآخر. ويبدو أن الشاعر أراد بإصرار التفرد بإختيار هذا الأسلوب الإنسيابي، الذي يضم الجمالي والأدبي، سلسلة من لآليء الرومانسية، بأحكام متطابقة بشكل جيد لدرجة أنها تصطف لتشكل وحدة كاملة، وإن كانت مجزأةً، تبقى واحدة من عوالم ما يعرف بـ “الشعر الملحمي”، في الأساس. وهو ليس أسلوباً مبتكراً، إنما شعر استطاع فارس مطر أن يجعله قصيدة طويلة واحدة بعنوان رئيسيٍ واحد.
يقيم الشاعر العراقي فارس مطر وأفراد عائلته منذ أربع سنوات في العاصمة الألمانية برلين. ولد في مدينة الموصل سنة 1969 وتتميز كتاباته بالسلاسة. صدر له ديوانين في الشعر: “سنبقى”، تضمنت أكثر من أربعين قصيدة سياسية ساخرة و “تمرات في الربذة” صدرت عن دار صحارى في العراق عام 2014، وله دراسة نقدية بعنوان “شعرية العشق بين حضور المرأة وغياب المكان الحميم”. ومجموعته الشعرية الجديدة “الفرح المتأخر يغمرني” صدرت في يوليو 2020 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان ـ الأردن. شارك في أماسٍ ومهرجانات شعرية عديدة منها مهرجان جرش 2014 ضمن نشاط إتحاد الكتاب الأردنيين ونشرت قصائده في الصحف الأردنية والعراقية والعديد من مواقع التواصل الإجتماعي وحصل على تكريمات من منتديات أدبية وثقافية عربية متنوعة.
بدءاً لابد من الإشارة إلى أن الواقعية والرمزية والأسطورة والخيال وحتى التمرد، سمات مميزة في الفن الشعري، قديمة قدم الفن نفسه. إستطاع فارس مطر بلغة شعرية مترعة إستعاضتها في منجزه الأدبي القيّم، بطريقة لا تخلو من إبتهالات جمالية وسيميائية، قيمية وتعبيرية وفلسفية، من النص اللغوي وحتى العلاقة بين المحتوى والشكل، فأحاطها شاهدة تقدير وإعجاب. ولا أنكر أن ترانيم الشاعر، خلال قراءتي، قد استحوذت على مشاعري في تتابع غير منقطع. فهي قصيدة فيها الكثير من المساحات والتفاصيل الفرعية، وتعتمد التفعيلة المدوّرة، لكنها تتفادى استخدام القافية. تتراوح بين حب الوطن والتأمل واسترجاع الذاكرة، ومزيج من المشاعر التي تنتاب الإنسان في الكثير من المواقف الصعبة. ولا تتجاهل الهموم والأحزان الجَمعية التي أحدقت بالمجتمع العراقي والتي تخصّ العيش والوجود والموت، ـ أتون حروب، صراعات، متناقضات، أفراح وأحلام مع جدف من العواطف الزائفة والخلط الطائش لقلب الصورة.. السؤال هل تمكن الشاعر من نفخ روح جديدة في الشعر الملحمي ليسلط نظرة عامة للحياة والمعتقد، أعمال ومصير الإنسان العراقي، رغم كل التداعيات وتنوع الإضطهاد وتوسع التشابك في كل الإتجاهات بما في ذلك الثقافة والفنون؟
أَجهَلُني
لا شيءَ يُعَرِّفُني عَنِّي
أَتَحَسَّسُ أَوصالي
أَبحثُ عن جَسَدي
وأَقولُ لمن يَجمَعُني
لا أَتشابَهُ
هذا ما قالتهُ الحربُ
فلا بأْسَ تَحَمَّل شَكلي
حاوِل ترتيبَ الزَّمنِ المُتَقَطِّعِ
قَدرَ الإمكانِ
ولا تَترُك يوماً أَو طَرَفاً دون مُواساةٍ
سأُشَيِّعُ صوتي الآنَ فأَرجوكم
لُمُّوا أَنفاسي
هذا نَصِّي
زَمني
جَسَدي المُتَفكِّكُ
هاكُم قلقي وَنَشَازَ مُحاولتي
لا شك في أن التراتيل الشعبية والأغاني أصبحت مفهومة بشكل أفضل اليوم مما كانت عليه قبل مائة عام. فما الذي جعل الشاعر فارس مطر ((دار النشر)) أن يُعرف قصيدته بـ “شعر معاصر”؟ وماذا يعني ذلك؟.. وهل أغمره حقاً، منجزه الشعري تلك الفرحة رغم تأخرها.. وبأي لون؟.
تسمى النصوص والألفاظ غير المرتبطة بآية أو قافية أو إيقاع “مترا ” Metrum، نثرًا. ومن ثم، يسمى النثر بالكلام غير المقيد. ويشمل اللغة اليومية، ولكن أيضا الشكل المصمم ملحمياً في الأدب يطلق عليه “فن النثر”. والشكل الخاص الذي يقف بين الكلام المقيد وغير المنضم هو الإيقاعات الحرة. إنما المصطلح التقني مشتق من الكلمة اللاتينية (prosa oratio) خطاب النثر، والتي يمكن ترجمتها تقريباً على أنها كلام مباشر. بمعنى ما هو على المحك سيكشف بشكل أساسي: أن أي شكل من أشكال الكلام الذي لا ينتمي لقاعدة سيكون بالتالي ملزم. بمعنى آخر: حتى لو تم التفريق بين النثر والشعر من حيث أنه غير مرتبط بالقافية أو المترا، فلديها أي “القصيدة”، القدرة على أن تكون شاعرية من خلال الأسلوب واللحن والصور والإيقاع واختيار الكلمات. وهذا ما تميّزت به قصيدة “الفرح المتأخر يغمرني”.
ما زال اللَّيلُ فَتِيّاً
وأَنا في أَوَّلِ حَتفي
سادسَتي ورصاصٌ
خَمسونَ شَظيَّةَ فَقدٍ
يَتَجَمَّدُ وقتي
أَتَسلَّقُ نَصِّي
بحثاً عن هاويَةٍ
عن شَرخٍ مُوسيقيٍّ يَتَغَمَّدُني
تُمطِرُ فوقي
غيمةُ مُنتَصَفِ اللَّيل
تُغَنِّي
تَستَنبِتُنِي
وعلى قلقٍ
تسهرُ حتَّى مَطلَعِ فجرٍ
يُقلِقُهَا أَيضاً
شَابَ الفانوسُ
جَدَائِلُهَا شَابَتْ
وأَنا مُنهَمِكٌ في حتفي
يَملَؤني الصَّمتُ
دِمَائي تَكتَظُّ
ووجهٌ مُلتَصقٌ في ذاكرتي
كم كان الوَقتُ رَصاصاً
والرُّؤيةُ بارودٌ
رائحةٌ صَفراءٌ
أَبخِرَةٌ
تَختَنِقُ الأَحلامُ
ونَغفو
نَغفو
كعصافيرٍ في ليلةِ بَردٍ
تتنفَّسُ آخِرَ زَقزَقَةٍ
وَيَروحُ الوعي
أَغيبُ
أَغيبُ
وأَصحو
سِيبَاطٌ
وَعناقيدٌ تتدَلَّى
صيفٌ وحصادٌ
ساقيةٌ
يانعةٌ أَنتِ كفاكهةٍ
ارسِمْهَا يا شِعْرُ
في الأصل، كان النثر يستخدم للكتابات العلمية، وبالتالي كان يعني أي تثبيت مكتوب ليس نوعاً من الشعر. وهذا يعني أن النصوص كانت تعتبر نثراً، لها محتوىً تاريخياً وعلمياً وفلسفياً، أو مجرد ملاحظات. في المقابل، كان الشعر مكتوباً في شكل شعر “مقفى” الغرض الأساسي منه هو العرض الشفهي كـ “المسرح”. استمر هذا القيد العام بشكل جيد حتى القرن الثامن عشر. ثم أصبح مصطلح “النثر” فيما بعد مصطلحاً جماعياً لجميع أشكال الكلام الذي لا يمكن تسميته بالشعر. في العصور القديمة، كان هناك تمييز صارم بين الكلام المقيد (الشعر الملحمي ، والشعر، والدراما) كشكل من أشكال الشعر والعرض الملائم والهادف من النثر (بيتر دليوس Peter Deliusالفلسفة والتاريخ (، تم استخدامه كشكل من أشكال التمثيل في وقت متأخر جداً، بدل الخطاب المرتبط بالسرد. وعلى الرغم من وجود أعمال نثرية منفصلة في العصور الأدبية الفردية، إلا أن النثر كما يبدو لم يبدأ بالانتصار إلا في بداية العصر الحديث، والذي سرعان ما أصبح مع ظهور فن سردي جديد، وهو الرواية، وسيلة شعرية للتعبير، أنتج العديد من الأنواع الأدبية ـ رواية، قصة، ملحمة، مذكرات أو قصص قصيرة، ألخ.
وَخَلِّدني مَبهوتاً
عَطِّلْ بئري واسكُبها
وأَعِدنِي للقهوَةِ والخَفَقانِ
وَحَدِّثني عن ذاتي
وَعُرِيِّي
كم كنتُ أَسيراً
لا أَملِكُ إلَّا جَسَدي
طُرُقاتي أَذرَعُها
ذِكرى
ذِكرى
أَغرِسُها
تَنمو شجراً وخساراتٍ
هل تُبصِرُ دربَ خَرابي
مدنٌ ومياهٌ
أَزهارٌ
أَخَذَت أَسرَاري
وَوَشَت بِي
يُتقِنُنُا الحزنُ فُرَادى
يَتَغلغلُ فينا
الآنَ سَأَذهبُ فاقتُلني
لا تُسهِبْ أَرجوكَ
فُصُولُ دَمِي
لا تَكفِي حِبرَ روايتنا
حَدِّثني آناءَ القهوةِ كلَّ صَباحٍ
كُن فرَحي وفُرَاتي
خَبَأْتُ اسمَكَ تحتَ صنوبرةٍ
قَلبي يُؤلمُني الآنَ
سأَذهبُ
فاقتُلنِي بِقصيدة نَثْرٍ
وانثُرُني
أخيراً، قصائد الشاعر فارس مطر في ديوانه الجديد “الفرح المتأخر يغمرني”، من ناحية، الإنسيابية الشعرية والإلتقاء في دائرة “الإسطورة الملحمية” بكل معانيها المعرفية والأدبية، هي ليست محاولة تجريبية )نتحدث عن مرحلة ليسنك (Lessing ، بقدر ما أراد لها الشاعر أن تكون قصص متعددة عن أصول وأفعال وسقوط الآلهة. التصادم بأكمله مع الأفكار البربرية المشوهة، مع الارتباك والضبابية والأساليب التي تمس أقدار الناس، مرة أخرى يتم تجريبها بوحشية في بلد بَشَّر بظهور أول ملحمة شعرية في تاريخ الإنسانية. ماذا يعني؟. تعني قيمة ذلك أهمية المبالغة في تقدير وفهم معنى وروح وجودنا تماماً.!