شهد العالم ( لايشمل ذلك الخمسة الكبار ) ثلاث موجات من الانتشار النووي منذ الحرب العالمية الثانية ، ومع انتهاء الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة لأكثر من عقد بقيادة وتقرير مصائر العالم فقد ظهرت ديناميات جديدة تحكم الانتشار النووي وفِي اتجاهات متعاكسة . تخلت بعض الدول عن اسلحتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفيتي ، فيما تخلت اخرى عن برامجها للتسلح النووي وكشفت كل اوراقها النووية ، وعمدت دول اخرى الى ممارسة نوع من الانضباط الذاتي وابقت برامجها في اطار سلمي خالص وشفاف تحت اشراف دولي ، وهنالك من واصل برامجه النووية ولم يكشف الا ما اضطر للكشف عنه ، ومن هذه المجموعة تمكنت بعض الدول من حيازة أسلحة نووية فعلاً مثل الپاكستان وكوريا الشمالية .
في اطار تصنيف الدول وفق المعايير النووية توجد مجموعة تسمى بدول ” التمويه النووي Nuclear Hedging ” ، وتعتبر الدولة ضمن هذا التصنيف عندما تتبنى ستراتيجية نووية تقوم على خيار امتلاك قدرة وطنية كامنة قابلة للتحقيق عملياً ، وتؤمن لها سرعة الحصول سلاح نووي . يتضمن خيار كهذا امتلاك قدرة فنية وطنية على انتاج السلاح خلال فترة تتراوح بين أسابيع او سنوات ، ومن متطلبات هذا الخيار ايضاً امتلاك البنية التحتية لتأمين دورة وقود نووي كاملة بدءاً من تعدين الخامات النووية وحتى انتاج شحنة نووية عالية التخصيب تصلح للتفجير ، سواء من خلال تخصيب اليورانيوم او عزل الپلوتونيوم ، اضافة الى امتلاك الخبرة العلمية والهندسية القادرة على تجميع مخرجات البنية التحتية بشكل قنبلة ذرية ؛ اي ان الدولة المعنية تحافظ على موقع قريب من العتبة النووية* ، من حيث المعرفة التقنية والبنى التحتية النووية والهندسية .
الدول التي تصنف كدول تمويه نووي تكون في العادة واحدة من اثنتين : اما ان تكون دولة تبنت في السابق مشروعاً لإنتاج سلاح نووي لكنها توقفت عند حدود قريبة من اجتياز العتبة النووية ، او دولة تُمارس ستراتيجية خفض مستوى برنامجها النووي المؤهل اصلاً لإنتاج شحنات نووية متفجرة ، اي تكون قد اجتازت في السابق العتبة النووية ولم يبق أمامها سوى التجميع لانتاج الشحنة المتفجرة لكنها قررت تخفيض درجة برنامجها النووي ؛ في الحالتين يلعب عامل الضغط الخارجي دوراً حاسماً في اضطرار الدولة لابقاء برنامجها النووي عند مستوى معين قابل للرفع ، او التخلي عن قدرات معينة لاعادة مستوى البرنامج النووي في حدود المقبول دولياً مع الاحتفاظ بالقدرة على رفع مستواه .
تكمن قيمة التمويه النووي اذن في منحه الدولة قدرة على البقاء قريبة من العتبة النووية دون اثارة ردود فعل سلبية ، بضمن ذلك عمل عسكري مضاد يكون محتماً في حال امتلاك برنامج نووي عسكري معلن ؛ ان التمويه النووي يتيح للدولة امكانية رسم خط فاصل واضح يوفر لها القدرة على انكار له قدر معقول من المصداقية بشأن نوايا حيازة سلاح نووي .
المعايير التي يتم وفقاً لها تصنيف الدولة على انها دولة تمويه نووي متنوعة تتراوح بين المستويين الوطني والدبلوماسي ، واهم هذه المعايير هي :
اولاً : الغموض وعدم الشفافية : في هذا المجال تُمارس الدولة قدراً كبيراً وممنهجاً من التعتيم على عاملي القدرات الفعلية والنوايا ، ولكن تفحص بعض جوانب برنامجها النووي بشكل منفصل يمكننا من قراءة النوايا والاهداف الحقيقية للبرنامج . وبالنسبة لايران تطرح في هذا المجال اربع قضايا أساسية :
١- الفارق الواضح بين مزاعم سلمية البرنامج وبين قدرات التخصيب الفعلية . قبل توقيع الاتفاق النووي كانت ايران تقوم بتخصيب اليورانيوم بكميات تفوق حجم حاجات برنامجها السلمي المزعوم ، حيث كانت تشغل عشرات آلاف اجهزة الطرد المركزي الخاصة بتخصيب اليورانيوم بما يفوق احتياجات برنامج سلمي ؛ والاكثر من ذلك انها وقعت اتفاقاً مع روسيا لانشاء ١٦ مفاعلاً نووياً وكلها تعمل بوقود تقوم روسيا بتجهيزه مما يعني ان مخرجات بنيتها التحتية الخاصة بالتخصيب لاعلاقة لها باحتياجاتها رغم التوسع في تأسيس مفاعلات جديدة .
٢- لايران تاريخ موثق وطويل من عدم الشفافية وان جزءاً كبيراً من برنامجها النووي كان يعمل بصورة سرية ، ولم تكشف عن بعض منشآتها النووية الرئيسية مثل ناتانز واراك الا في عام ٢٠٠٢ .
٣- قامت ايران بمنع مفتشي وكالة الطاقة الذرية من زيارة وتفتيش مواقع يشتبه في انها كانت مواقع لتجارب واختبارات لمواد واجهزة حساسة ذات صلة مباشرة بصناعة جسم القنبلة الذرية ومكملات اخرى ذات صلة ، واهم هذه المواقع هو موقع پارتشين العسكري قرب طهران . كان هذا الموقع قد شهد اختبارات لمتفجرات تقليدية خاصة ومسرعات نيوترونية تدخل في تركيب قنبلة ذرية ، ونعرف الان ان الموقع المذكور كان مقراً لبرنامج ” آماد ” السري الذي انهت ايران العمل به عام ٢٠٠٣ بقرار سياسي لم تعرف اسبابه ؛ ورغم انه فتح للتفتيش بعد توقيع الاتفاق النووي عام ٢٠١٥ لكن أحداً لايعرف ماهي الخبرات التي تم تجميعها من الاختبارات التي جرت فيه ولا الأشخاص الذين قاموا بها . والاهم في الموضوع ان ذلك يثبت ضلوع جهات عسكرية في النشاط النووي مما يوحي ” بعسكرة ” البرنامج .
٤- من المعروف ان ايران بذلت جهوداً حثيثة للحصول على خبرات ومواد نووية من السوق السوداء بعد تفكك الاتحاد السوڤيتي ، ونعرف ان وفوداً ايرانية ذات صلة ببرنامجها النووي قامت بزيارات سرية متعددة للجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوڤيتي ، وان قدراً غير معلوم من المواد النووية كان قد وجد طريقه الى السوق السوداء في هذه الجمهوريات .
ثانياً : طبيعة ومضمون السردية التي يقدم البرنامج النووي الى الشعب وفقاً لها : لاتجد الدول الراغبة في الاستفادة السلمية من الطاقة النووية آية مشكلة مع المجتمع الدولي لانها تنصاع طوعاً لاية اجراءات من شأنها طمأنة الاطراف المعنية بشأن نواياها ، ولكن اذا تفحصنا الطريقة التي تقدم بها ايران برنامجها لشعبها ، فاننا ندرك فوراً طبيعة نواياها .
منذ اكتشاف العالم ان لايران منشآت نووية سرية وما ساور المجتمع الدولي من القلق بدات ايران بالدفاع عن موقفها زاعمة ان نواياها سلمية بالكامل ، وبدأ مسؤولوها بتقديم سردية تصور بلادهم وكانها ضحية لمؤامرة غربية تهدف لحرمانها من حقوقها السيادية في الحصول على التقنية النووية ، وان هذا الغرب يريد احتكار ذلك لنفسه ، وقدمت تفاصيل متضاربة بهدف مداعبة مشاعر مواطنيها وتحويل البرنامج النووي الى قضية وطنية . في عام ٢٠٠٤ زعمت ان في نيتها توفير ٧٠٠٠ ميغا وأت من الكهرباء من خلال برنامجها النووي ، ثم عادت في عام ٢٠٠٧ لتعلن ان الهدف هو انتاج ٢٠٠٠٠ ميغا وأت وان ذلك من شأنه توفير كميات كبيرة من النفط التي يمكن تصديرها وتأمين ايرادات ضخمة اضافية من العملة الصعبة بما يعود الخير والرفاه على شعبها ، ولذلك فان الغرب لايريد الخير للشعب الايراني ، ونحن نعلم ان ايران تنفق المليارات التي تقتطعها من قوت شعبها لتمويل برامجها التوسعية في الاقليم من خلال تأسيس وتمويل وتسليح التنظيمات المسلحة في طول المنطقة وعرضها ؛ ونحن نعلم ان بامكان ايران توفير مستلزمات رفاه وامن شعبها من خلال سياسة نووية شفافة وفتح المنشأت النووية وإتاحتها للتفتيش والمراقبة والكف عن الأنشطة التي تثير قلق المجتمع الدولي .
ثالثاً : دبلوماسية القط والفأر : تعتمد ايران في دبلوماسيتها النووية مبدأ ” تشتيت الضغوط ، وشراء الوقت ” . تقوم ايران باقتراح مفاوضات حين لاتجد سبيلاً للتهرب من قضية تتعلق ببرنامجها النووي ، ولكنها سرعان ما تبادر بالانسحاب بعد بعض الوقت ، وفِي احيان اخرى تقوم بالتنصل من اتفاقات سابقة وتقديم مقترحات لتعديلها ، وفِي خلال ذلك الوقت تكون ايران مستمرة في أنشطتها النووية المثيرة للاشتباه ولا احد يستطيع تقدير حجم الخبرات والمواد التي جرى مراكمتها خلال ذلك الوقت لان برنامج الرقابة والتحقق يكون خلالها معلقاً ؛ وحتى الاتفاق النووي فقد تم التوصل اليه في عام ٢٠١٣ ، ولكن ايران ظلت تماطل وتسوف في تفاصيل صغيرة بهدف كسب الوقت ، ولم توقع عليه مع مجموعة ٥+١ الا في تموز عام ٢٠١٥ ، ويعلم الله كم كانت قد حققت واخفت في مجال نشاطها النووي ، وخاصة في مراكمة اليورانيوم المخصب .
هذا الى جانب المناورة على الانقسامات بين الدول الكبرى بشأن برنامجها النووي ، حيث تقوم ايران بإطلاق مبادرات لتوثيق العلاقات التجارية والسياسية وغيرها مع كل من الصين وروسيا كلما اشتد الضغط الغربي عليها وقد أفلحت جهودها تلك في اعاقة الكثير من القرارات داخل مجلس الامن بشأن برنامجها النووي من خلال الدولتين المذكورتين ، رغم انهما اضطرا فيما بعد لاتخاذ مواقف اكثر توافقاً مع المواقف الغربية اذ ادركت حكومات البلدين ان ايران تسلك بالفعل مسلكاً خطراً يهدد السلام والاٌمن في الاقليم وفِي العالم ، ولكن ايران كسبت وقتاً طويلاً استثمرته في مزيد من التطوير واكتساب المزيد من الخبرات .
في نوڤمبر عام ٢٠١٣ تمكن المفاوضون الايرانيون وممثلوا مجموعة ٥+١ من التوصل الى اتفاق اطلق عليه خطة العمل الشامل المشتركة ، وقد جاء ذلك اثر وصول الرئيس روحاني الى منصبه حيث اعتبر ذلك نصراً لخط المعتدلين الذين ساد الانطباع لدى الغرب انهم طرف يمكن التوصل معه الى اتفاقات مقبولة بشان البرنامج النووي . لقد عزز من مصداقية هذه القناعة مبادرات قام بها روحاني مثل ايقاف العمل في مفاعل اراك للماء الثقيل ، والتخلص من مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة ٢٠٪ مع مواصلة المباحثات لغرض التوصل الى اتفاق نهائي ، والتهديد بطرح مايتم التوصل اليه من اتفاق على التصويت الشعبي اذا عارضه وأعاقه المتشددون ، وتم ذلك بالفعل في صيغة نهائية في تموز عام ٢٠١٥ وتم اعتماد الاتفاق بين ايران والمجموعة الدولية من قبل مجلس الامن وفقاً للفصل السابع .
يعتقد خبراء نوويون ان الاتفاق النووي بالصيغة التي تم التوصل اليها كان وصفة نموذجية لتشريع التمويه النووي الايراني .
لقد تم تخفيض درجة معظم بنود البرنامج دون إلغاء فقرات جوهرية منها بحيث يتم كسر حلقة دورة الوقود النووي وخاصة التخصيب ، كما أتاح الاتفاق لايران مواصلة البحث ومراكمة الخبرات غير اللازمة في مشروع نووي سلمي ، بل انه شجع دول العالم على التعاون مع ايران في هذا المحال . ان افضل ما حصل عليه المجتمع الدولي هو عملية تأجيل لاستمرار البرنامج في وتيرته التصاعدية ، مواداً وخبرةً ، التي سبقت الاتفاق ، ووضع البرنامج برمته تحت نظام صارم للتحقق والتفتيش ، ولكن ذلك لن يستمر لأكثر من فترة تتراوح بين ١٠-١٥ سنة .
نعرف الان مما تم تسريبه من معلومات وَمِمَّا تم نشره من دراسات ومذكرات لمسؤولين عملوا في ادارة اوباما ان الولايات المتحدة كان عليها اختيار احد طريقين : الاتفاق بصيغته التي تم التوصل اليها ، او خرب لم تكن الولايات المتحدة في موقف يسمح لها وضعها الاقتصادي بخوضها ، وهي حرب ستكون طويلة باهظة التكاليف ستنتهي الى نتائجها المرجوة ولكن بثمن غير مقبول ، ولذلك فضلت ادارةٍ اوباما خيار الاتفاق الذي سيرحل المشكلة الى المستقبل تكون فيه الولايات المتحدة في وضع افضل لمعالجة الموضوع بطريقة مختلفة .
لقد آمن الاتفاق نزع بعض حلقات البرنامج مثل مفاعل اراك للماء الثقيل ، لكن دورة الوقود مازالت قائمة رغم تخفيض مستواها . كل ذلك يؤمن لايران مواصلة اكتساب الخبرة والمعرفة في ميدان التخصيب بل ان الاتفاق يتيح لايران ادخال تطوير وتحسين على اداء اجهزة الطرد المركزي التي سمح لايران بتشغيلها ، وباستثناء مفاعل اراك الذي تم صب الإسمنت في قلبه النووي فان ايران قد احتفظت بكامل معدات وتجهيزات البنية التحتية للبرنامج حتى تلك التي قضى الاتفاق بإخراجها من الخدمة ، وبعضها مثل اجهزة الطرد المركزي بقيت في أماكنها في ذات مواقع العمل مثل أراك وناتانز وفوردو .
كل ذلك يعني من الناحية الفنية ان ايران تحتفظ بمشروع نووي كامل الحلقات مخفض الدرجة لفترة محددة وقابل للرفع لاجتياز العتبة النووية عند اتخاذ قرار بذلك ، ناهيك عن مواصلة النشاط الهادف لاستمرار مراكمة الخبرات والمعرفة ، بما في ذلك في الميادين التي لاصلة لها ببرنامج سلمي . يذهب بعض الخبراء ان مايفصل ايران فعلاً عن بلوغ مرحلة انتاج سلاح نووي لن يتجاوز ستة اشهر الى سنة ، رغم ان البعض يعتقد ان ذلك قد يتم في وقت اقصر .
اذن ماهي الخيارات المتاحة امام دول الاقليم التي تمثل سياسات ايران وبرنامج تصدير الثورة تهديداً مباشراً لها ، وهل سيستمر المجتمع الدولي على انقسامه بشأن البرنامج النووي الذي بدات ايران بتفعيله على خلفية الانسحاب الامريكي من الاتفاق النووي ، وهل يستطيع المجتمع الدولي في المرحلة الراهنة منع ايران من امتلاك سلاح نووي ،، هذا سؤال كبير وهو موضوع دراسة لاحقة ؟!،،
هوامش :
العتبة النووية هي المرحلة التي تتوفر فيه لدى دولة ما التجهيزات والمواد والمعرفة اللازمة لصناعة سلاح نووي .