18 ديسمبر، 2024 9:15 م

وجهاً لوجهٍ مع الكاتب والروائي عبد الله صخي : قاومتُ المنفى بتشيّيد وطنٍ خياليٍّ

وجهاً لوجهٍ مع الكاتب والروائي عبد الله صخي : قاومتُ المنفى بتشيّيد وطنٍ خياليٍّ

هو كاتبٌ عاش الوجع العراقي مبكراً، وعبر عنه أبلغ تعبيرٍ، وكانت المدة الزمنية التي شبَّ فيها مليئةً بالصراعات الآيديولوجية والسياسية والاجتماعية .. كل هذه الصراعات، وغيرها عاشها الكاتب والروائي المبدع عبد الله صخي وهو يشهد الهجرة الجماعية من الريف الى المدينة، وصراع قيم الريف، وقيم المدينة، والتحولات الكبرى في الحياة العراقية التي لم تشهد عنفاً مثلما شهدته السنوات الخمسين الأخيرة .

لعبد الله صخي الفضل في إعادة تشييد حياة الناس المنسيين شرقي بغداد في ثلاثية (خلف السدة) / 2008 و(دروب الفقدان)/ 2013 و(اللاجئ العراقي) / 2017 وقد صدرت عن دار المدى مُعبِّراً أميناً عن معاناة جيلٍ بكل عنفوانه، وتطلعاته وآلامه. الأديب عبد الله صخي
وبرغم عمق تجربته في الكتابة التي تمتد إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي إلا أنَّه برز كأحد فرسان السرد بعد سقوط الدكتاتور سنة 2003.
وهو في منفاه بلندن أجريتُ معه هذا الحوار عبر شبكة التواصل الاجتماعي ضمن مشروع كتابٍ عنوانه ( وجوهٌ في ذاكرة الأرض) يوثِّق أهم الشخصيات العراقية المبدعة في تخصصها، وبها يُعرف العراق بلداً عريقاً برموزه.
أُجري الحوار في شهر شباط سنة 2018 ونُشر في الجريدة المركزية لوزارة الثقافة (الاتجاه الثقافي) العدد 204 الصادر يوم الخميس الموافق 2018/4/12 .

* قلتُ له :أصدرتَ مجموعتك القصصية الأولى (حقول دائمة الخضرة) سنة 1980 فلماذا انتظرت كل هذه المدة لتصدر أول رواية لك هي (خلف السدة) سنة 2008 ؟

ــ قال :غادرتُ العراق أوائل عام 1979، وما أن تجاوزت الحدود حتى دخلت في ضباب المتاهة، وبدأ عالمٌ جديدٌ يتشكل أمامي لم يسمح لي إلا بإصدار تلك القصص العشر تمكنت من حملها معي. كانت روحي أثقل من جميع الحقائب ففيها يقيم وطنٌ حرصت كل الحرص على ألا تتصدع جدرانه أو تنحني أشجاره أو تجف جداوله. وسنةٌ إثر أخرى أخذ الوطن يبتعد ورائي ويغيب ، فيما المنفى يتجدد باستمرار بألوان ولهجات وبلدان مختلفة، وبحث دائم يفقد المرء صوابه بحثاً عن عملٍ واستقرارٍ في بقعة ماء حتى وصلت إلى لندن بشق الأنفس. وذات يوم قادني قدري إلى السكن في بيتٍ مستأجرٍ في إحدى ضواحي المدينة الشاسعة. وفي لحظة حنين نظرت إلى الوراء لأتنبه إلى أنني ضيعتُ أكثر من ربع قرن في طرقات العالم جوّابا منهك القوى من البحث عن استقرارٍ، أو عملٍ أو هوية.
لقد أُدركت أن المنفى سوف يسلبني حياتي وربما إنسانيتي لذا عليّ أن أقاومه، لا أريده أن يقوضني. ورحت أمضي الساعات وحيدا أشيّد وطناً خياليا، وطناً لي وحدي بحجم الكف، بحجم القلب، أرسم منازله وأشجاره وأنهاره وأكواخه ومواطنيه حتى نهض أمامي عالم واقعي أعاد الخيالُ بناءَ تواريخه وشخوصه ومصائرها فكانت روايتي الأولى “خلف السدة” التي وجدت فيها رمزاً لوطني الضائع. حدث ذلك بعد أكثر من ثلاثين عاما على زوال منطقة (خلف السدة) من الوجود تماما للحد الذي لم يبق أيُ شاهد عليها سوى ضريح السيد حمد الله القائم حتى اليوم.
*قلتُ له :ثلاثيتك (خلف السدة) و(دروب الفقدان) و(اللاجئ العراقي) تغطي مساحةً زمنيةً من تاريخ العراق المعاصر تمتد من الخمسينيات الى منتصف الثمانينيات ، فهل في النية إكمال هذا المشروع لما بعد هذا التاريخ؟

ــ قال :لا أعتقد أنّي سوف أضيف جزءاً آخر لتلك التجربة التي أحسب أن الثلاثية أكملت دورتها فيها وحولها.
*قلتُ له :لماذا تفاوت عدد صفحات ثلاثيتك وكانت رواية (دروب الفقدان) ضعف روايتيك الآخريين؟

ـــ قال :لا أظن أنَّ من الضروري ألا يتفاوت عدد الصفحات في أي ثلاثية، ففي ثلاثية محمد ديب “الدار الكبيرة” يختلف عدد الصفحات من جزءٍ إلى آخر. وبصراحة لم أفكر بهذا الأمر ولم أخطط له. هكذا رسمتْ ثلاثيتي طريقها بنفسها تاركةً للأحداث تشكيل حجمها. ربما لأنَّه لم يخطر ببالي منذ البداية أن أجعلها ثلاثية؟ ربما. لكن بخصوص حجم “خلف السدة” أود أن أشير إلى أن إشارات وصلتني من ناقدٍ، ومن أصدقاء تؤكد أنَّ بالإمكان مضاعفة حجم هذه الرواية. نعم، صحيح، هذا ممكن لكنَّه لا يتطابق مع محاولتي تقديم عملٍ أدبيٍّ مكثفٍ لدرجة التخلي عن أي إنشاء أو حشو أو إضافات. وقتها كنت مغرما بـ (جياكوميتي) فحاولت أن أنقل رؤيته للمنحوتة الرشيقة المختصرة الإيحائية إلى الأدب. أشاد بعضهم بالكثافة الأسلوبية للرواية، وأخذ عليّ البعض الآخر الاختصار وعدم التوسع. بالطبع أنا احترم كل ما يردني حول كتاباتي؛ لأنَّي أتطور من خلال آراء الآخرين واجتهاداتهم. أما السعة في رواية “دروب الفقدان” فربما مردها إلى أنَّ الرواية تتناول مرحلةً اجتماعيةً، وسياسيةً مختلفةً عن مرحلة “خلف السدة” التي هي مرحلة تأسيس قطاعٍ مجتمعيٍّ مهاجرٍ يحاول مسرعاً تأثيث حياته وبناءها، بينما عالجت “دروب الفقدان” المجتمع نفسه في لحظة استقراره، وانتشاره، وتعدد واجهاته، واهتماماته.
*قلتُ له :حين أصدرتَ روايتك (اللاجئ العراقي) سنة 2017 كان المتوقع أن تتناول فيها الهجرة الأخرى للعراقي بعد سنة 2003 لكنَّك لم تتجاوز هجرة الثمانينيات فما السر في ذلك؟
– قال :في رواية “اللاجئ العراقي” واصلتُ تدوين سيرة الهجرات التي أعرفها، أو عشتُ أطرافاً منها، أمّا تجربة الهجرة التي حدثت بعد عام 2003 فلا أعرف عنها شيئاً، فأنا بعيدٌ عن العراق كما تعلم. والكاتب يتناول ما يعرفه. الآن لو قُدّر لي أن أكتب عن الهجرة التي تقصدها ربما أفشل في تصويرها فيما ينجح الكاتب الذي عاش أحداثها، أو تخيلها بمساعدة منْ عانى منها. الرواية تتطلب استيعاب مظاهر الحياة التي لا تحصى.
* قلتُ له :لنأتي الى شخصية (علي سلمان) محور أعمالك، فهل فيه شيءٌ من (عبد الله صخي)
لا سيما أنَّه كان يدرس في الجامعة نفسها (المستنصرية) التي درستَ فيها الأدب الإنكليزي ؟
ـــ قال :شخصية (علي سلمان) تمثل جيلي. ربما أخذ مني القليل لكنَّه أخذ الكثير من الجيل الذي نشأ مع تأسيس الحكم الجمهوري، وعاش تجربة الخذلان السياسي التي يعرفها الجميع ، والتي تركت جروحاً عميقةً في جسد المجتمع لا يزال يعاني منها حتى اليوم.
أعتقد أنَّ كل رواية فيها شيءٌ من سيرة الكاتب كما قلتُ قبل قليل فالكاتب يتناول ما يعرفه.
*قلتُ له :القارىء لرواياتك يجد جواً من القتامة يخيِّم على مجرياتها فلماذا لم تجعل هناك نافذةً للأمل؟
ـــ قال : أنظر إلى تاريخ العراق السياسي، وأعطني أملاً كي أكتب عنه، أعطني فرحاً كي أعالجه وأنتصر له. لا يوجد. العراق غارقٌ في المأساة والمتاهة منذ الاحتلال العثماني حتى الآن. لقد فطنت قبل نحو خمسين عاما على الأقل، ولم أر العراق خلالها إلا وهو يمضي من تجربةٍ تراجيديةٍ إلى أخرى :احتلالات، سجون، صراعات دموية حزبية. أول شيءٍ يفكر به من يمسك السلطة هو تهيئة سكاكينه لذبح الآخر بدلاً من التفكير باحترام الرأي المعارض، يختار الهدم بدلا من التفكير بالبناء. تلك هي سيرة العراق كما عرفتها قراءةً وتجربةً. كيف إذن نكتب عن حياة بلا قتامةٍ، بلا موت؟ هنا أستعيد قول (ستيفان زفايغ) : “ما أن بدأنا نشعر بالحرية كعادةٍ يوميةٍ حتى انطلقت من ظلمات الغرائز إرادةٌ غامضةٌ تريد اغتصابها”. هذا ما واجهه جيلي بالضبط، ويواجهه الجيل الحالي.
*قلتُ له :اعتمدتَ في سردك على راوٍ واحدٍ هو الراوي العليم، وكنتَ تقتفي مصير كل شخصيةٍ فلماذا لم تختر تقنية تعدد الرواة؟
ـــ قال : لم أشعر بالحاجة الى تعدد الرواة، أو تعدد الأصوات كي أنتج روايةً بولوفونيةً، فالموضوع فرض أسلوبه عليَّ من دون التفكير باختيار هذا الأسلوب، أو ذاك. هكذا وجدتني أروي سيرة الناس الذين أعرفهم ببساطةٍ. والحق كنتُ مغرماً بالسرد أكثر من أي شيءٍ آخر؛ لذلك ترى قلة الحوار أو غيابه في الرواية التي اختارت شكلها، وبنيتها بنفسها.
*قلتُ له : بعد ترجمتك لمجموعة (هرمان هيسه) (أنباءٌ غريبةٌ من كوكبٍ آخر) سنة 1984، ورواية (النهر الفاضل) لـ (نغوجي واثيونغو) سنة 1988 لماذا لم تستمر في هذا المنحى؟
ـــ قال :الترجمة عملٌ شاقٌ، يتطلب جهداً استثنائياً. أحياناً يستغرق البحث عن مقابل لجملةٍ واحدةٍ نهاراً كاملاً . إنها تحتاج الفكر، والوقت، والموهبة والمعرفة. لاحظ كم هي صعبة هذه الشروط. أعترف أنَّي لست مترجماً محترفاً لكنّي غامرت بمجموعة قصص هيرمان هيسه، ثمَّ بروايةٍ أفريقيةٍ يومها كنت أعتقد أنَّ رحلة الترجمة ستكون ممتعةً وسهلةً، غير أنَّ الممارسة العملية أثبتت عكس ذلك تماماً . شعرت بحجم المسؤولية الكبير الذي يقع على عاتق المترجم فتوقفت خاصة بعد أن أقمت في بريطانيا عام 1990، وإدراكي أنني كلما ازددت معرفةً باللغة الإنكليزية اكتشفت جهلي بها. لكنَّ هذا لا يمنعني من العودة إلى الترجمة فهي مغامرةٌ مثل أيّ حقلٍ من حقول المعرفة.
*قلتُ له :ما النسبة بين الواقع، والمتخيل في شخصيات ثلاثيتك، وهل أنَّ الواقع فرض عليك تحديد مصائرهم؟
ـــ قال : أغلب الشخصيات واقعيةٌ موجودةٌ في الجوار، أو أصدقاء عرفتهم، أو سمعت عنهم.
أغلبهم لهم وجودٌ حقيقيٌّ أو ما يشبهه. لكنَّها دخلت في المختبر الروائي الذي أعاد بناءها وفق مقتضيات السرد، والهدف منه.
قبل أن أكتب الجزء الثاني “دروب الفقدان” كنتُ في زيارةٍ إلى بغداد. وصادف أن جاءت نسوةٌ لتحية الغريب القادم من أرضٍ أجنبيةٍ. وبعد فترة انصرفن عنّي تماماً، وانشغلن بحياتهنَّ. فتحت كمبيوتري لتفقد الرسائل الشخصية، فسمعت إحداهنَّ تحكي عن فتاة طُلقت لأنَّها رفضت أن تسرق مثلما تريد حماتها. كتبت ما سمعتُ ثمَّ أعدتُ بناءه فظهرت شخصية (مديحة) امرأةً ناضجةً، وليست الطفلة التي كانت في “خلف السدة”. للخيال نصيبٌ كبيرٌ في رسم الشخصية وأبعادها.
*قلتُ له :ما أثر الهجرة، والغربة على عموم نتاجك الأدبي؟
ـــ قال : في البداية أحسستُ بالضياع، لا أعرف أيَّ الطرق أسلك. الأرض التي أقف عليها أخذت تغيب وتكاد تتلاشى ، فأبدو كمن يمشي في الفراغ. توارت مادتي القصصية (الجيران، المنطقة، الشارع، المدرسة، الطريق) خلف الحدود. هذا الأمر أيضاً يتصل بتوقفي عن الكتابة. وقد خشيت على نفسي من ذلك فانغمرت بتأمل التجربة كلها، وبالقراءة الكثيفة المتواصلة، وبالاطلاع على تجارب كتابٍ من مختلف بقاع العالم يومها حتى أخذت أشيّد وطني الخاص، لأعيش فيه، وأحلم فيه، وأكتب عن مواطنيه. ساعدني في ذلك اتصالي بالكتاب العرب ومتابعة نتاجهم، وانشغالاتهم، ثم تركيزي على الأدب الأجنبي، وأبرز منتجيه.
*قلتُ له :هل تعتقد بسيادة الرواية العراقية مع انحسار الأجناس الأدبية الأخرى كالقصة القصيرة والشعر ، وهل هو اتجاهٌ عالميٌّ، أم هو خاصٌ بالمشهد الأدبي العراقي فقط؟
ــ قال :من حيث الكم نعم، أمّا من حيث الكيف فلا أعرف تماماً؛ لقلة اطلاعي.
من الواضح أنَّ الرواية ناهضةٌ بقوةٍ كحقلٍ للتجارب الأدبية. لكن هل انحسر الشعر؟ لا أعرف بالضبط. لكنّي ألاحظ انتشار الشعر الشعبي بقوةٍ لا تضاهيها الرواية. الأمر بحاجة إلى وقفةٍ نقديةٍ، ودراسته من الناحية السوسيولوجية، والسياسية.
*فصلٌ من كتابٍ مُعدٍ للنشر عنوانه ( وجوهٌ في ذاكرة الأرض) للكاتب.