18 ديسمبر، 2024 11:24 م

الفيلسوف الذي انتقد ماركس بشدة ووصفه بالنبي الكذاب

الفيلسوف الذي انتقد ماركس بشدة ووصفه بالنبي الكذاب

كان قد أنتقد كارل ماركس انتقادا لاذعًا وبشدة، وصب جام غضبه على آرائه، وحاول نقدها علميا، ولم يتوقف عند ذلك فحسب، بل واطلق عليه تسمية “النبي الكذاب”. ووصف مؤلفته بأنها سطحية وليس فيها عمق، واعتبر أن افكاره المستقبلية جوفاء ولم تتصف بالمصداقية، وبُعد نظر، وبعيدة كل البُعد عن الواقع؛ حيث كان ماركس قد تنبأ بسقوط المجتمع الرأسمالي، وهذا لم يحصل ابدًا.
إنه كارل بوبر الفيلسوف وعالم الاجتماع النمساوي، والذي يُعد أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين، وكانت اسهاماته تجاوزت الفلسفة الاجتماعية والسياسية، ونظرية المعرفة، ورفضه الطريقة الاستقرائية في العلوم التجريبية.
وهو مولع بالموسيقى، ويحبها كثيرا، حيث والدته زرعت فيه هذا الحب والشغف منذ نعومة اضفاره، فشب على هذا الحب. واشتغل ردحًا من الزمن في التحليل النفسي.
وارباب الاختصاص عدوا كارل بوبر من أنه من أشهر فلاسفة العلم في القرن العشرين، بل وأكثرهم تأثيرًا في مسيرة فلسفة العلم الحديثة لما له من بُد نظر. واكدوا على إنه قد أحدث ثورة في المنهجية العلمية لا تقل عما أحدثه أينشتين في الفيزياء حين غيّر لنا نظرتنا إلى الزمن، واوضح لنا بعض الغموض في الثقوب السوداء. وعرف عن بوبر أنه ذو نظرية عقلانية، فحظى بمكانة سامية لدى العقلانيين.
ولتوضيح ذلك، فأن منهج الكشف لدى بوبر لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، اذ يرى إنهما وسيلتان مساعدتان في اختبار النظريات والفروض، وتفنيد غير المُجدي منها بل واستبعاده؛ حيث لا بد من فرض يحْدِس به العالم يسبق الملاحظة والتجريب لا العكس. الامر الذي يعكس الجرأة العلمية من وجهة نظره، حتى وأن يعده غيره تعطيلًا واضحًا للحواس، ورفضًا لأن تكون مدخلاتها خطوة اولى في طريق المعرفة.
فكما يقول عادل مصطفى في كتابه (بوبر: مائة عام من التنوير) لقد آمَنَ بوبر بقيمة العقل ودوره وقدرته، وتبنَّى «النَّقد» منهجًا لعمل العقل وتقدُّم المعرفة، وناهضَ كل نزعة «ارتيابية» أو «اصطلاحية» أو «نسبية» في العلم وفي الشئون البشرية بعامة، ورَدَّ إلى الفلسفة مكانتها الرفيعة ومشروعها الطموح، بعد أن انقلبت على نفسها زمنًا وكادت تتحول على يد الوضعيين المناطقة وفلاسفة التحليل اللغوي إلى تابعٍ ذليلٍ للعلم، وضيف ثقيل على مائدة العلماء.
ففي ما يسميه بوبر (المجتمع المفتوح) كم يؤكد صاحب كتاب (بوبر: مائة عام من التنوير) وكذلك أدريين كوخ، في كتابه (آراء فلسفية في ازمة العصر) إن بوبر “يبرهن بالحجة على أنَّ اليقين لا وجودَ له في السياسة مثلما هو لا وجودَ له في العلم، ومِنْ ثَمَّ فإن فرضَ وجهةٍ لواحدةٍ من الرأي هو أمرٌ لا مبرر له، وأسوأ صور المجتمع الحديث جميعًا هي تلك المجتمعات التي تَفرِض تخطيطًا مركزيًّا ولا تسمح بالمعارضة، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يمكن فيه تنقيح السياسات الاجتماعية قبل تنفيذها، وملاحظةُ النتائج غير المرغوبة هي أوجَبُ سببٍ لتعديلِ السياسات أو نبذِها بعد أن يتم تنفيذُها”.
بوبر أسس مبدأ التكذيب، ومفاده إن الشيء حتى يكون علميًا يجب أن يكون بالإمكان تكذيبه. فاذا كانت الاشياء قابلة للتكذيب او ممكن اثباتها كاذبة عندئذ يمكن استخدامها في التحقيقات والدراسات العلمية. مثال على البيانات القابلة للتكذيب القول بان جميع السيارات صفراء. هذا القول يمكن تكذيبه بسهولة عبر ملاحظة سيارة واحدة ليست بصفراء. وإذن كل شيء لا يمكن اثباته كاذبا هو غير صالح للتحقيق العلمي. مثالا: الذي لا يمكن تكذيبه هو وجود كائنات خرافية غير مرئية تسكن الكهوف والجبال وتسرق الاطفال لا يمكن اكتشافها من قبل الانسان. هذا القول لا يمكن اثباته صحيحًا او كاذبًا، وعليه لا يمكن تكذيبه، وبالتالي لا يمكن استخدامه في التحقيق العلمي.
فاز بوبر بالعديد من الجوائز والتكريمات، وقد نشأة كارل في بيئة مترفة ومهتمة بالحفلات الموسيقية والمعارض الفنية، وبدأت أسئلته الفلسفية والعلمية منذ صغره، لعب كارل بوبر دوراً مهماً في جعل فلسفة العلوم كقسم قوي ومستقل في فلسفة التحليل وشمل ذلك أعماله الغزيرة الإنتاج. تم منحه وسام زميل شرف، وقد كان أيضاً عضواً في الأكاديمية الإنسانية. فقد أعلن نفسه محايداً دينياً حيث أظهر الاحترام للتعاليم الأخلاقية اليهودية والمسيحية.
وفي بداية امره درس بوبر الرياضيات، والتاريخ، وعلم النفس، والفيزياء، والموسيقى، والفلسفة، وعلوم التربية. عام 1928 حصل على درجة الدكتوراه في مجال مناهج علم النفس الإدراكي.
وتزوج عام 1930. وبدأ كتابة أول أعماله، الذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان «منطق البحث» 1934 وفي طبعة كاملة عام 1979 بعنوان «المشكلتان الرئيسيتان في النظرية المعرفية». وحيث كان بوبر يُنظر إلى الاستقراء على أنه الأداة الرئيسية لبناء العلم.
بوبر في عام 1937 هاجر إلى نيوزيلندا فقام بالتدريس في عدة جامعات هناك، وألف كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» 1945، والذي اكتسب من خلاله شهرة عالمية ككاتب سياسي. أهم سمة تميز أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقلانية العلمية. بين عامي 1949 و1969 عمل أستاذا للمنطق والمناهج العلمية بجامعة لندن.
وهو مولود في العاصمة النمساوية في فيينا في 28 يوليو 1902، وتوفي عام 1994. وكان والده سيمون سيغموند كارل بوبر، وهو محامي ثري وناجح ومعروف على مستوى. واما الدته فهي جيني شيف من أصل سيليزي هنغاري. كانت هاوية وموهوبة بالعزف على البيانو. وكلا والديه تحولا من اليهودية إلى اللوثرية، لكنهما لم يكونا متدينين، فقد تحولا حتى ينسجما ثقافيًا في المجتمع النمساوي.
وارل هو أصغر إخوته؛ اذ كان لديه شقيقتين أكبر سنًا دورة وآني. اعتمد والديه في تربيته على درجة عالية من الثقافة. كان لدى منزل بوبر مكتبة عامرة بمختلف الكتب القيمة، فضلا عن أنهم عائلة تقدر الموسيقى الكلاسيكية والاستماع لها جزءً هاما وممتعًا في حياتهم اليومية، كما نوهنا.
وعلى الرغم من نشأة كارل في بيئة مترفة ومهتمة بالحفلات الموسيقية والمعارض الفنية، إلا أن كارل كان اهتمامه الرئيسي هو الفقر الذي رآه في المدينة، فقد أصبح مصدر قلق دائم له، وعمل والد كارل في منظمتين لتأمين المأوى والغذاء للمشردين، ولم يعلم كارل عن ذلك إلا بعد عدة سنوات.
بدأت أسئلة بوبر الفلسفية والعلمية منذ صغره، لتأثره في الكتب التي اطلع عليها، وبتنوعها، حيث وجد كارل الدروس في المدرسة الثانوية بطيئة ومملة وشعر أنه يضيع وقته، اذ كان فكره ثاقب من نعومة اضفاره، وشغفه المتزايد للعلم والمعرفة.
ولما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ترك منزل والديه كي يستقل بنفسه، فعمل في عيادة الطبيب النفساني ألفريد آدلر، وكان يأكل قليلاً ويرتدي رث الثياب، وكانت متعته الوحيدة هي التردد إلى حفلات الموسيقى، وبخلاف ذلك كان مهتماً بالفلسفة السياسية. وكان يحضر محاضرات في الفيزياء وعلم النفس والأدب والتاريخ، لكن سرعان ما ترك هذا، وقصر حضوره على محاضرات الفيزياء النظرية والرياضة البحتة.
وفي عام 1946 رحل إلى إنجلترا واستقر في إحدى ضواحي لندن. وفي عام 1965 منح رتبة شرف في المجتمع الإنجليزي لقب «سير» حتى بلغ سن التقاعد في عام 1969.
وقد لخص، احد المختصين بفلسفة بوبر نظرية الاستقراء، بما يلي:
1ـ انه يسلم بالشبهة الهيومية في معارضة الدليل الاستقرائي.
2ـ انه يعوّل على الفرض الاستنباطي، وقد كان أينشتاين يذهب إلى ذلك في معارضة الطريقة الاستقرائية كمنهج.
3ـ يعتبر بوبر ان حالات التأييد الاستقرائي لا تحسم نتائج القضايا العلمية، خلافاً لحالات التكذيب. رغم أنه يعتبر القضايا العلمية هي احتمالية على الدوام.
4ـ تعتمد نظريته على الاختبارات التي يمكن أن تكذب النظرية، دون البحث عما يؤيدها. فالنظريات العلمية لا تقبل التبرير والتحقيق، بل تقبل الاختبار من حيث صمودها أمام الاختبارات الشاقة والتفصيلية.
5ـ يقوم العلم على مبدأ القابلية على التكذيب. فالقضية العلمية هي من لها هذه القابلية، خلافاً للقضية غير العلمية، فقد تكون ميتافيزيقية كالسببية مثلاً.
وعن أعماله ذكرت استاذة الفلسفة يمنى طريف الخوري في كتابها (فلسفة كارل بوبر): إن بوبر بدأت بكتاب «منطق البحث العلمي»، وقد صدر بالألمانية عام ١٩٣٣م وهو من أكثر كتب بوبر إيغالًا في منطق العلم وفلسفته بالمعنى الفني الدقيق، وقد صدرت له ترجمة إنجليزية عام ١٩٥٩م، بعنوان «منطق الكشف العلمي» وهي مصحوبة بملحق مطنب تحت عنوان «بعد عشرين عامًا»، ولو كانت قد ظهرت هذه الترجمة قبل ذلك بربع قرن، لكان وجه الفلسفة الإنجليزية على صورة مغايرة تمامًا. مع ملاحظة أن بوبر يتقن اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليونانية فإن كتبه بعد ذلك كلها بالإنجليزية؛ لأنه اتخذ من إنجلترا موطنًا، وهي «المجتمع المفتوح وخصومه» في جزأين عام ١٩٤٦م، حيث ينادي بالديمقراطية الليبرالية، المفتوحة للمناقشة النقدية لكافة أنواع حلول المشاكل، ويحارب فيه الديكتاتورية وكافة الفلسفات المغلقة التي تحاول أن تحدِّد النظام السياسي الاجتماعي بأيديولوجية محددة، وأبرز الأمثلة: أفلاطون وهيجل وماركس، الذين ينقدهم بوبر نقدًا لا يُبْقِي منهم ولا يذر، ثم أعقبه «بعقم النزعة التاريخية» وهو أصلًا مجموعة مقالات رفضت مجلة مايند Mind نشرها، وهو يكاد يكون ملحقًا للمجتمع المفتوح؛ لأن بوبر ينقد فيه الاتجاه الفلسفي المعتقد في مسار محتوم للتاريخ، الذي يرى أن وظيفة العلوم الاجتماعية هي التنبؤ بهذا المسار، وواضح أن المجتمع المغلق يستند على الدعوى بمسار محتوم للتاريخ، ويريد أن يغلق المجتمع على أساس حدود هذا المسار.
مصادر المقال:
1: يمنى طريف الخولي: فلسفة كارل بوبر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٩.
2: ماهر عبد القادر محمد: «فلسفة العلوم: المشكلات المعرفية»، الجزء الثاني، دار النهضة العربية، بيروت، ١٩٨٤.
3: أدريين كوخ، آراء فلسفية في ازمة العصر، ترجمة محمود محمود، المكتبة المصرية بالقاهرة، لسنة 1963.
4: عادل مصطفى، كارل بوبر: مائة عام من التنوير، منشورات هنداوي، لسنة 2020.
5: الدكتور احسان محمد الحسن، موسوعة علم الاجتماع، منشورات الدار العربي للموسوعات، الطبعة الاولى لسنة 1999، بيروت- لبنان.