شكلت الجغرافية السياسية لكوردستان احدى المشاكل الرئيسة التي منعت حرية الحركة السياسية والاقتصادية لاقليم كوردستان , فالجغرافيا المنغلقة للاقليم وعدم امتلاكه منفذا بحريا كان له اثر كبير في ابقاءه مقيدا وسط كماشة مواقف الدول المحيطة به سياسيا واقتصاديا .
كان واضحا تاثير هذا العامل على الاقليم من الناحية الاقتصادية , فقد نجحت دول الجوار الكوردستاني من تحجيم محاولات الاقليم في التطور والازدهار وتحقيق نمو اقتصادي في القطاعات الثلاث الصناعية والزراعية والسياحية , ومنع المنتوج الكوردستاني من دخول اسواقها الا ما ندر , فبقي المنتج الصناعي والزراعي معتمدا على السوق المحلية للاقليم , والتي لا يلبي حجمه احتياجات تطور اقتصادي طموح .
اذا كيف يمكن لكوردستان بواقعه الجيوسياسي تحقيق نمو اقتصادي في هذه القطاعات ؟
قبل الحديث عن اي نمو اقتصادي في الاقليم يجب البحث عن كيفية ايجاد قنوات لتصدير منتجاته , فبدون ايجاد حلول تصديريه لن يتجرأ اي مستثمر من الدخول بقوة للسوق الكوردستانية , سواء كان اجنبيا او محليا , وسيبقى الاقليم معتمدا على الريع النفطي بكل ما يعانيه من مشاكل .
ان افضل الحلول التصديرية للمنتج المحلي الكوردستاني هو بجعل كوردستان حلقة وصل بين الخليج العربي والبحر المتوسط , من خلال انشاء خطوط سكك حديد تبدا من الخليج العربي الى كوردستان ومن ثم الى البحر المتوسط (سواء عن طريق الاراضي التركية او السورية) .
سيمثل هذا الخط شريان حياة حقيقي لكوردستان يفتح امامها اسواق الشرق والغرب ويساعدها في تحقيق انتعاش اقتصادي ( صناعي وزراعي) وسياحي , ويحولها الى منطقة جذب حقيقية لرؤوس الاموال .
قد يتصور البعض ان هذا المشروع صعب التحقيق حاليا في محيط اقليمي مرتبك سياسيا واقتصاديا ,خاصة وان تركيا وايران تعتبران كوردستان والعراق سوقا مفتوحة لمنتجاتهما , ومحاولة من هذا القبيل ستجابه بالرفض من قبل كليهما لانه سيغلق امامها سوقين يعتبرانها حكرا عليهما . لكن ما هو موجود على ارض الواقع يعطي مؤشرات بان المشروع قابل للتنفيذ .
فهل تعتبر الظروف الحالية استثنائية لتحقيق هكذا مشروع ؟
الوصول الى البحر المتوسط .
الخيار الاول …هو مرور الخط عبر الاراضي التركية …لا يمكن مقارنة تركيا الحالية بتركيا قبل خمس سنوات , فالمشاكل السياسية التي تعاني منها داخليا ودوليا وهبوط قيمة عملتها تدفعها للاستفادة من اية خطوة تدر عليها رؤوس اموال , وان كان انشاء سكك حديد تربط كوردستان والعراق باوروبا سيقلل من صادرات تركيا الى السوق العراقية والكوردستانية , فانه من جهة اخرى سيقلل ايضا من تكاليف النقل البري لصادراتها تلك , ويفتح امامها سوقا اكبر في دول الخليج بما فيها من اغراءات مالية يسيل لها لعاب اكثر الدول , ايضا فان هكذا خط سيقلل تكاليف وصول منتجاتها الى الخليج العربي ومنه الى جنوب اسيا , وستستفاد تركيا ايضا من رسوم ترانزيت الخط عبر اراضيها , اضافة الى استفادتها من الرسومات الكمركية وان كانت رمزية . اضافة الى ما سبق فان تركيا لن ترفض هذا المشروع خاصة اذا ما خيرت بين ان يمرر هذا الخط عبر اراضيها , او عبر الاراضي التي تسيطر عليها الادارة الذاتية الكوردية في سوريا الى البحر المتوسط , لان ذلك يعني تقاربا كورديا كورديا في العراق وسوريا يتجنبه تركيا بشكل كبير .
اما بالنسبة للخيار الثاني وهو مرور الخط عبر سوريا … فهو خيار ممكن ايضا , وسوف يكون له اثر كبير في ازدهار مناطق الادارة الذاتية الكوردية في سوريا , والتقارب بين المنطقتين الكورديتين سياسيا , وستدخل الادارة الذاتية في سوريا الى جو سياسي جديد يخرجها من الضغوطات التي تمارس عليه من قبل منظمات مسلحة خارج سوريا , ويمكن تنفيذ هذا الخيار باستخدام التاثير الامريكي والخليجي لتحقيق هذا الهدف . اما بالنسبة للنظام السوري فانه لن يعارض الفكرة خاصة وانه ورغم المشاكل السياسية بين الادارة الذاتية ونظام بشار الاسد فان هناك تفاهمات تجارية بين الطرفين , ومثلما نعرف فان الاقتصاد هو الذي يوجه السياسة وليس العكس .
خيارات الخليج العربي
هناك اليوم رفض عراقي كبير لفكرة مشروع تقدمت به الكويت يربط البصرة معها عبر خط سكة حديد , ويعزو الرافضون سبب رفضهم الى ان هذا الخط سينعش ميناء مبارك الكويتي على حساب ميناء الفاو العراقي , وقد يبدو للوهلة الاولى ان ابعاد رفضهم للمشروع هي ابعاد وطنية تدفع باصحابها لحد اطلاق التهديدات في ان دمائهم دون هذا المشروع . وبالطبع فان هذه المبررات غير واقعية وضعيفة جدا ,فالمشروع الكويتي لا يمكن ان يؤثر على ميناء الفاو طالما ان الحكومة العراقية تستطيع فرض اي رسوم كمركية ترتأيها على الخط لعدم تاثيره على ميناء الفاو . ان الاسباب الحقيقية للرفض العراقي هي حماية للمشروع الايراني المقترح بربط جنوب اسيا مع شمال اوروبا عبر بحيرة قزوين . فربط البصرة بالخليج عبر خط سكة حديد سوف يؤثر على المشروع الايراني خاصة اذا تم تنفيذ المشروع الذي نتكلم عنه في هذا المقال . وبما ان المشروع الايراني سيضر بقناة السويس ويكون بديلا عنها , وكذلك سيجعل من روسيا بوابة اسيا على اوروبا , فيمكن استخدام العامل الامريكي والكويتي وكذلك المصري كعوامل ضغط لتنفيذ هذا المشروع العراقي الكوردستاني , ليس هذا فحسب بل يمكن ان تدفع المصالح المتبادلة لبعض هذه الاطراف الى تمويل قسم كبير من هذا المشروع .
تاثير هذا المشروع على العلاقات العراقية الكوردستانية
يمكن اعتبار هذا المشروع بديلا متطورا عن مشروع قطار الشرق السريع الذي كان مطروحا لغاية سبعينات القرن الماضي . وفي الحقيقة فان الحكومة العراقية قادرة على تنفيذ هذا المشروع بعيدا عن كوردستان , وذلك من خلال الاراضي السورية الى البحر المتوسط , غير ان هناك اسباب كثيرة حالية تمنعها من هذا التوجه , بعضها يتعلق بالظروف السياسية الغير مستقرة في سوريا , واخرى لاسباب سياسية تتعلق بارادة امريكية بقطع اي امكانية تواصل ايراني سوري لبناني , وبالتاكيد فان محاولة العراق لمد هكذا خط عبر سوريا سيواجه برفض امريكي تركي كوردي مركب .
لذلك فان سرعة طرح المشروع وتنفيذه يصب في صالح كوردستان اكثر من العراق الذي يستطيع تنفيذ هذا المشروع في اي وقت يشاء وبخيارات يمكن ان تكون بعيدة عن كوردستان فيما بعد .
ان كانت السياسة طوال العقود الماضية قد تسببت بمشاكل لا حصر لها للعراق ومكوناته , فيمكن ان يكون الاقتصاد بوابة مناسبة لحل تلك المشاكل والازمات , خاصة اذا اجتمعت المصلحة الاقتصادية في اجبار الفرقاء على التكتل وتهدئة الامور , ويمكن ان يكون هذا المشروع مناسبة جيدة لاستقرار موازين المصالح الاقتصادية لمكونات العراق وكذلك لجيرانه .