إلى شوارش ماردوسيان : أشهر طبيب عيون في البصرة
1-2
في 10/ 9/ 2014 نشرتُ في المواقع الثقافية (سيرة فراشات ماكنة الخياطة/ كتابة داخل الكتابة) عن رواية الروائية العراقية هدية حسين (ريام وكفى) وفي تلك الأيام السعيدة، وأنا طالب في مرحلة الاعدادية كررتُ قراءتي لرواية حنا مينه (الشمس في يوم غائم) وقد تماهيتُ لأسباب عائلية مع شخصية الخياط المناضل في الرواية ..ثم فقدتُ نسختي من الرواية بسبب تداول خياطيّ البصرة لها.. قبل أيام تأملتُ عميقا عنوان رواية جمانة حدّاد (بنت الخياطة)..
(*)
الكتابة عن الألم، تختلف عن كتابة الألم فالثانية يتفجر فيها المقموع نفسيا/ نصيا ويتدفق كالسيل من محبسة الذات إلى المجتمع من هذا التفكر سألتني مع انتهائي من الصفحة الأخيرة من الرواية : كيف تمكنت الروائية جمانة حدّاد أن تكثف تاريخا من الألم الأرمني المدود من 1915 إلى 2015..ألم يبدأ من المذبحة / تهجير الأرمن وينتهي بعملية انتحارية تنفذها الشابة جميلة: كيف استطاعت بلورت الألم إبداعياً بحيز هذا الفضاء الروائي (بنت الخياطة)؟! : ربما الروائية :لجمت السرد بتقنينه / تنضيده/ عقلنته روائيا، ضمن البنية الاجتماعية السردية
من خلال تقطيره في هذه الآواني المستطرقة :
*السارد النسبي
*اليوميات
* تبوبيب الرواية من خلال أربع أوراق من ورق القمار تحمل كل ورقة صورة أنثوية.
*ما بعد الرواية وينقسم إلى قسمين وفيها يتجسد رأس المال الروائي لدى الروائية جمانة حداد :
(1) روزنامة أرمنية : تحت عنوان الأحداث الرئيسة (2015- 1915) وتتكون من ثلاث صفحات
(2)استطراد غير ضروري
في الاستطراد تتكشف لنا حجب ما قبل النص التي منها يتخلق رأس المال الروائي.(بنت الخياطة ) : سيرة روائية لعائلة الروائية جمانة حداد (كانت جدتي لأمي في عداد الناجين من المجزرة الأرمنية).. من جهة ثانية أن (بنت الخياطة):هي رواية المتعدد وليس الواحد. فقد أجبر الجنود العثمانيون أهل جدتها وكانت لا تتجاوز الثالثة من العمر(ومئات من الألوف من الأرمن،على هجر منازلهم بين ليلة وضحاها. هام هؤلاء في الصحراء السورية بلا طعام ولا مياه، وتعرض كُثر منهم للتعذيب والاغتصاب والضرب والاعتداء والقتل. مات أكثر من مليون شخص آنذاك.) تثبّت المؤلفة حدّاد سنوات ولادات عائلتها وتخبرنا عن نفسها(أنا جنوبية لبنانية لناحية أبي، أرمنية وشركسية لناحية أمي، علما أن للأثنين أيضا جذورا فلسطينية من جهة، وسورية من جهة ثانية).. لكن الروائية ليست مؤرخة والسبب لأن التاريخ عقل بِلا قلب (لطالما وجدتُ في التاريخ – بوصفه دراسة لأحداث الماضي الكثير من العيوب والنواقص،على رغم من تقديري لأهميته.)ربما السبب أن المؤرخ يرى التاريخ : ذاكرة ً مجففة. فيكتب المؤرخ بالمشرط وهكذا:( يصير الضحايا إحصائيات، والسفاكون فاتحين،والاستغلاليون رابحين. تصير المنازل محض حجارة ومساقط الرأس مواقع وأهدافاً ويقاس البؤس كانتصار أو هزيمة. يغض التاريخ طرفه عن الأيتام والمحرومين والأرامل والمغتصبين.. يتجاهل الذين ذبحوا وجرحوا وماتوا. لا يذكر الأبرياء الذين عانوا. وتنتقل عدسة الكاميرا الواسعة إلى مشهد آخر..) لذا ستقوم الروائية جمانة حدّاد بتعليق مدونات المؤرخين الرسميين وتناصر المحذوفين والمحذوفات من مدوناتهم وبشهادة حداد (هؤلاء بالنسبة إليّ،هم أبطال الحرب.. هؤلاء الذين لا نستطيع رؤيتهم إلا بواسطة مجهر القلب .) إذن هي تسعيد المحذوف وتستعين
بالمخيال وبكل الوسائل الانتاج الروائي التي توائم فعلها السردي..(أحيانا ً يحلو لي أن أتخيلنا جميعا – أناساً من أجيال وأعراق مختلفة،يعبدون آلهة مختلفين، يتكلمون لغات أو لكنات مختلفة – عالقين معا في نفق طويل من النزاعات المتتالية. نفق ملعون اسمه الشرق الأوسط شهد ولا يزال يشهد، من العنف والحروب والكراهية أكثر مما يمكن وصفه).. تسلط المؤلفة ضوءا عن سرد مقموع في ذاكرة جدتها (لم تخبر جدتي أحدا منا عما أختبرته وعاشته أثناء المجزرة) شخصيا أرى في الحديث عن آلامنا للآخرين : انتاجية عاطلة لأشاعة التعاطف التي ربما تلوث ذاكرة بكر.. ثم تحدثنا الروائية عن تاريخية ما قبل النص/ الانتاج الروائي :(لطالما حلمتُ بكتابة هذا العمل ) اخذ هذا الحلم السردي يتنامى / يتوّقد فقد اكتملت دورة تركيم النص في الذاكرة ولا بد ينتقل من المخبوء إلى المعلن وبشهادتها :(أشعر أخيراً بالإلحاح الذي عادة ما نشعر به قبل فوات الأوان, فقفزت.) في الرواية / السيرة: تكون الأولوية للوثيقة الرسمية والفوتو وغيرهما والروائية ثبتت لنا روزنامة العائلة، لكن هذه الروزنامة محض منصة لتخصيب مخيلة روائية العائلة: (هذا النص،على رغم استلهامه تاريخ عائلتي وجغرافيتها، يحفل بأحداث وتواريخ وتفاصيل تنتمي في معظمها إلى الخيال..) في هذا النوع من الكتابة هل يمكن توفير مسافة بين الكاتب والمكتوب؟ كما يفعلها بعض الروائيين الكبار ويرون في هذا البرزخ عافية النص !!
في هذا الصدد اقترضُ من جاك رانسيير وأقول(إذا ً الخاص ليس فقط التحقق من قانونٍ عام مجّرد. إنّه مرآة المجتمع وعلاقته مع ذاته ومع ما يؤسسه / 246 )…لنستمع لجمانة حدّاد وهي تخبرنا (أملك ما يكفي من النزاهة الفكرية كي لا أدعي أن وجهة نظري موضوعية في الصراعات المروية في هذا العمل. في جميع الأحوال أنا لا أؤمن بالموضوعية كقدرة بشرية، كما أني لا أكن قدراً كبيراً من الإعجاب لمفهوم الحياد. لقد كتبتُ هذا الكتاب بلحمي ودمي، لقد حفرتُ الماضي والحاضر بأظفاري القلقة..وأعتبر نفسي معنية مباشرة بالحروب الاربع وبنتائجها المدمرة.. وأنا أكتب: جل تركيزي كان على البعد الإنساني والشخصي.. الضحايا جميعهم يتشابهون: من المستحيل أن ينتصروا، حتى وإن أنتموا إلى الفريق المنتصر. هم يرون عيون ضحايا الخصم في مراياهم..) وهكذا تتساقط نياشين الانتصارات وتنفتح شاشة تحاول أن تكون بيضاء مثل لافتة مكتوب فيها
(أرفض قتل الإنسان ) فالمتحاربون بمؤثرية الزمن يتصالحون حفاظاً على الصالح العام!!
وتصبح التضحيات محض ذكرى لبطولات مجففة !! أين الخلية الموقوته التي انبجست منها مياه الرواية؟ ترى الروائية أن الخلية هي تلك الأثنية المتضادة (شخص دفع ويدفع ثمن ولادته في أرض، وانتسابه إلى دين وعرق لم يخترها..) وما جراء ذلك (سوف نظل ندفع هذه الأثمان إلى أن يسدد المستقبل جميع ديونه للماضي،في لعبة البوكر هذه التي تسمى الحياة..).. وهكذا يتم تركيم رأس المال الروائي لدى الروائية جمانة حدّاد وبالتالي يتدفق التركيم إلى كيف إبداعي روائي مختلف..
*جمانة حداد / بنت الخياطة / نقلتها من الإنكليزية نور الأسعد/ نوفل. دمغة الناشر هاشيت أنطوان/ 2019
*جاك رانسيير/ سياسة الأدب / ترجمة د. رضوان ظاظا/ المنظمة العربية للترجمة/ ط1/ بيروت/ 2010