من الواضح إن المجتمع الشرقي عامة والشرق الأوسطي خصوصاً باتت غالبية الناس فيه من مدمني عادة مضغ وإجترار ترديد عبارات المبدأ القانوني والدستوري الشهير القائل ب(سيادة القانون او علو سلطان القضاء والقانون وسموه ) الى درجة أصبح هذا المبدأ شعارا من الشعارات المحفوظة لدى الجميع بنفس القدر من الأهمية وبنفس القوة في مسألة إمكانية إشهاره كقميص عثمان تارة او هريسة الحسين تارة أخرى مع إختلاف الغايات والمرامي لدى القائمين بالحمل والرفع والإشهار هذه إلا من إبتغاه لذاته لا لغيره وهؤلاء أضحوا قلة وربما كان صوتهم قد اضحى من الوهن بحيث اصبح مع نقاء سرائرهم مجرد عزف باهت غير مسموع لقوة بقية المعزوفات او أن المستمع له لا يعطيه الأهمية إلا بالقدر الذي يمنحه لإصحاب الغايات السيئة في التمسك بذات المبدأ. .
إن هذا المبدأ الدستوري والقانوني تحمل عباراته من الرونق والإزديان الشكلي واللفظي ومن الفحوى والمحتوى المعنوي الهام بحيث أصبح الشغل الشاغل للألسن التي تنظر الى معترك القضاء كما لو كان سوحاً قابلا للترويض كبقية مجالات الحياة وكبقية سلطات الدولة التي اضحت شبيهة بأداة ووسيلة لتحقيق الغايات الخاصة لبعض النخب السياسية سواءا كانت في الحكومة والإدارة السياسية او في المعارضة على قدر سواء, ,
ومع بقاء عبارات المبدأ مجرد شعار ووسيلة – لدى المغرضين – يُراد بها حقاً بصوت ضعيف وواهن او يُراد بها باطلاً بصوت قوي صداح في إطار الصياغة المحرزة القابلة للحيازة محشورةً في الحناجر وغير قابلة لبلوغ القلوب والعقول – إلا عند من رحم ربك – فإن أي سعي آخر نحو الترقيع الجزئي سيبؤ بالفشل الذريع لا فقط لسبب تباين النيات السيئة فقط بل لإنعدام الإرادة الموجهة بالشكل الصحيح حتى عند من يضطلع اساساً بدوره في تحقيق المبدأ وتطبيقه تطبيقاً بعيداً عن الغايات المقترنة بعوالق ورواسب وآثار تداخل السلطات في بعضها بسبب غياب التطبيق السليم لمبدأ الفصل بين السلطات اساساً,.
إن الملاحظ هو ان عبارة المبدأ وكلماته قد اصبحت ومنذ ما يقارب العقود كما لو أنها عبارات تميمة او تعويذة تؤتي أُكلها كل حين عند من إستساغوا إدمان إجترار لفظها وترديدها بإستمرار خاصة إن تعلق هذا الحين بوقت إنتخابات وإقتراع او مناسبة ما من المناسبات ذات العلاقة او عند حضور النية لتغيير قانون ما لأجل تحميله الغايات الأخرى فضلا عن الغاية المنشودة رسميا منه ,.
من هنا يجب على أهل القضاء عدم الإكتفاء بإستحضار قيم الإعتداد بالنفس والثقة بها بناءا على اليقين المتولد في انفسهم من شعورهم بأداء الوجب بعيدا عن كل المؤثرات الطارئة بل يجب عليهم أن يبينوا للجهات السياسية التي تسعى او تريد الإنسلال عبر سن قوانين غريبة الأطوار تحمل من غايات ساعية لتحقيق اهداف خاصة اكثر بكثير مما هو معلن لذات القانون وحكمة سنه وذلك عبر عدم السماح لتلك الجهات بتعديل القوانين او سن اخرى محل الملغاة منها إلا بعد موافقة اهل القضاء أنفسهم وكشرط اساس قبل الولوج في آليات استبصار اي مشروع قانون للنور لاحقا, .
هنالك خطأ يبدو أنه يمكن إدراجه ضمن خانة الخطأ التاريخي الفادح سارت عليه العقول لدى العوام وحتى لدى بعض النخب من أهل الإختصاص في القضاء يتمثل قبل كل شيء في ذلك التصور الخاطيء المبني على الوهم وقوامه التهم الجاهزة التي توزع جزافاً على الإدارة السياسية او السلطة التنفيذية والمتمثلة خاصة بتحميل تلك السلطة جريرة التهمة المخرجة ضمن إطار إفتراض غياب القضاء المستقل بناءاً على فرضية واحدة متحققة تتجسد في أن الجهاز الحكومي الإداري والسياسي هو الذي يتولى تعيين القضاة حتى لو كانت الآلية مناطة ومحكومة بشروط قانونية ودستورية وتتولاها الجهات القضائية العليا حصرا ومع تناس صارخ ومتعمد من أولئك القائمين بتوزيع التهم لتلك الآليات من جهة وتناسيهم آليات تعيين القضاة في بقية دول ومجتمعات العالم , إذ يغيب عن بال المنتقدين هؤلاء كيفية تعيين القضاة في الولايات المتحدة التي يُعد قضاتها وجهازها القضائي كأحد أمتن وأفضل وأرقى الأنظمة القضائية في العالم ولا يمكن التشكيك في مدى إحترام الغالبية هناك سواءا من النخبة او شعبا او الحكومة او معارضةً وحكاما ومحكومين في إستقلال القضاء فيها على الرغم من إن القاضي هناك يتم تعيينه من قبل حاكم الولاية وفق آليات وشروط محددة قانونا هناك .
إن كان المثال المورد عن النموذج القضائي الأمريكي غير مستساغ لدى البعض فليأتوا لنا بمثال واحد عن نظام قضائي واحد في العالم لا يتم تعينه وفق آليات ترتبط بكيان الدولة وقوانينها وأعرافها وقيمها القائمة ؟.
إن مسألة تنفيذ المبدأ أعلاه تعني في وجهها الآخر حسن سير تطبيق القانون بإنسابية هادئة بعيدة عن التشنج والإرباك والتأثر بالمحيط والبيئة وهذه بدورها مرتبطة بمدى إحترام القانون من الجميع على حد سواء بإعتباره لا فقط وسيلة لحفظ الأمان في المجتمع بل لكون هذا الإحترام عبارة عن قيمة معنوية مرتبطة ببقية القيم المقدسة إرتباط الروح بالجسد , والإحترام الذي يتحقق قدرٌ متيقن جيدٍ منه في مجتمع ما فإنه بدوره سينتج الإرادة السليمة والواعية المتجهة نحو تحقيق المستويات الدنيا من العدل في المجتمع بإعتباره ضمانا من ضمانات ديمومة الدولة حكومة وشعبا وكيانا حتى في حالة وجود التباين في مستويات القدر المتوفر من تلك الإرادة في نفوس الأفراد بإعتبار أن قلوب الناس شتى ولا يمكن تصور وجود ذات المستوى من الرغبة في إحترام القانون وتوجيه الإرادة الى تحقيق العدل والسعي من أجله كل في موقعه لدى الجميع وفق قاعدة الأواني المستطرقة .
ويبقى صمت وسكون أهل القضاء أنفسهم في هكذا مجتمعات على حاله إزاء من يسمحون لأنفسهم إتخاذ هذه الشعارات حصان طروادة غاياتهم البعيدة عن تحقيق الهدف المنشود لا لأنهم غير قادرين على الوقوف في وجههم وإنما لقناعتهم بأنهم يؤدون ما عليهم من واجب ترتبه النصوص القانونية التي تحثهم على ضرورة النأي عن الثرثرة مع هكذا نماذج على أختلاف نياتهم محل استغراب ,خاصة في ظل تطور وسائل نقل المعلومة ,, ,
إذ إن المؤسف في الأمر هنا هو أن هذا الصمت والسكون غير مقترن بتوضيح أسبابه على النحو المشار اليه أعلاه للرأي العام ولهذا تتولد حالة من الإنفصام بين من يعانون فقرا في الثقافة القانونية وبين أهل الإختصاص في القانون وفي المحصلة ستتولد عند عوام الخلق فكرة غير مختلفة عن فكرتهم ونظرتهم الى اي مسؤول آخر في الجهاز الحكومي ,ورغم أن الجهاز القضائي في الدولة غير مطالب بتقديم ما يثبت سلامة النوايا مثلما أنه غير مسؤول عن جهالة العوام بخصوصيات الجهاز القضائي من حيث آليات عمله في تطبيق القانون إلا أنه مطالب على الأقل بالإلتزام بالقانون نفسه إذ لا يُعقل أن يسعى رجل القضاء الى الإلتفاف على النصوص القانونية بغية تطويع القانون مع الرغبة الخاصة للإنظمة السياسية والجهاز التنفيذي في الدولة او أن يسعى لإعادة ترويض النصوص بغية مواكبة الرغبات العامة للناس فالنص القانوني لم يُشرع ولم يُسن لأجل الألتفاف عليه وإنما سُن لأجل تنظيم حالة معينة لا اكثر ولا أقل وإلا فإننا نجد أنفسنا في النهاية أمام قضاء مستقل عن نفسه لا عن الأجهزة والسلطات الأخرى في الدولة وهو الإستقلال الغير المنشود من غاية النصوص الدستورية والقانونية التي سنت لأجل المحافظة على هيبة القضاء أساسا فالقضاء المنفصم عن ذاته هو القضاء المنحصر دائما ضمن دائرة الإتهام من قبل العامة والمنظور اليه بعين الهوان من الجهاز الحكومي والسلطة التنفيذية في الدولة وجميع محاولات إثبات العكس إنما تبقى ضمن دائرة النوايا الطيبة والحسنة التي يضطلع بها القضاة ممن يسعون لتحري العدل في خطواتهم و حافظوا ويحافظون على نزاهتهم ونقاءهم وتجردهم وإستقلاليتهم وهي إستقلالية فردية وتبقى ضمن دائرة المبادرة الشخصية الفردية الغير القادرة على مجابهة الحالة العامة من الإنفصام عن الذات التي تصيب القضاء المترهل في المجتمعات الموبوءة لا بل إن سعي القضاة المستقلين في الذود عن القانون بغية المحافظة على هيبة القضاء ومنعة القانون وحصانته ربما تتعرض الى النيل من أقرانهم ممن يرتضون حالة الواقع التي تنبيء بعدم وجود قضاء مستقل فعلي وإنما قضاء مستقل محرز ضمن عناوين معينة وربما تؤدي عملية النيل الى غلبة الجانب المنحاز الى الجهاز التنفيذي للدولة على حساب القاضي المستقل النزيه الذي يجد نفسه في النهاية محاطا بسلسلة طويلة من عمليات الكيد به والتنكيل والتنغيص عليه حتى في معيشته ومعيشة عياله الخاصة وفي المحصلة يصبح سعيه كسعي من رام حراثة البحر ونثر البذور فيه وقد تؤدي نتائج حالته تلك الى ترويع بقية من تبقى من القضاة المستقلين ممن سيصابون بالحذر ويحاولون النأي بأنفسهم عن مصير زميلهم الذي لم يُصب بالخذلان فحسب وإنما أصبح في موضع لا يُحسد عليه وصار يستجدي الحلول الترقيعية التي تضمن حقوقه الشخصية حتى بعد أن كان قبل ذلك يُنادي بحقوق كل القضاة عبر عمله الدؤوب من اجل المحافظة على استقلال القضاء وهذه الحالة تؤكد في المحصلة بأن هناك إنحرافا و حَيداً عن مبدأ إستقلال القضاء بسبب وجود حالة إستقلال القضاء عن ذاته أولا وإستقلال وإنفصام المبدأ عن حالة إستقلال القضاء فرديا وفي نتيجة الخلط بين هكذا حالات سيكون المجتمع إزاء قضاء مستقل عن ذاته ومنفصل عن بيئته وقضاء لا يؤمن جانبه لأن الجانب المرهوب فيه يؤدي الى نفور الأفراد منه ويكفي المجتمع رعبا أن يتيقن من تعرض قاض مستقل حقيقي الى عقوبات غريبة الأطوار لكي يخمن ويقدر مديات إنحدار مستوى أداءه .
إذاً نلخص الى القول بأن القاضي غير مطالب سوى بتطبيق القانون كما هو لا أكثر ولا أقل وهو غير مطالب بأكثر من ذلك وعلى الجميع أن لا ينسى بأن مسألة وجود القانون ككل وكوحدة غير قابلة للتجزئة هي مسألة غير قابلة للتفاوض او الإلتفاف بغية تجزئتها لكن يجب أن يكون للقضاة رأيهم ودورهم في القوانين التي تُسن خاصة تلك التي يُتخوف وتُتوجس منها خيفة وجود غايات أخرى بعيدة عن الغاية الحقيقية ,
وفي النتيجة يجب أن يكون الجميع سواءا من العوام او من أهل الأختصاص القضائي على يقين تام بأن القانون هو عماد المجتمع والدولة ومضماره هو غير بقية المضامير الاخرى في الحياة وهو عبارة عن مسألة لا تقبل بحلول رمادية فهي مسألة أن تكون او أن لا تكون ,أن يكون القانون سيداً مسوداً ككل غير قابل للتجزئة او أن لا يكون وهذا موضوع آخر .