ذهب التصور ببعض الأصدقاء الذين يتابعون منشوراتنا خلال الايام القليلة الماضية اننا بصدد العودة الى ما سماه احد الأصدقاء ” اناشيد المجد التليد ” وذلك في اطار مناقشاتنا حول التطور الاخير في العلاقات الاماراتية – الاسرائيلية ؛ ولكن الامر ليس كذلك وهذا الفهم في غير محله !! .
لقد علمتنا النكسات المتتالية التي اصابت امتنا وأقطارها المختلفة ان نبتعد عن هذا النمط من الخطاب والتفكير ، وعندما نسجل اعتراضنا على خطوة الامارات الاخيرة بخصوص التطبيع مع الكيان الصهيوني فاننا نفعل ذلك ثمرة لمراجعات نقدية عديدة لأوضاعنا وعلى مختلف الصعد ، بما في ذلك نقد ذاتي موضوعي لجيلي من المتعلمين او المثقفين ( وفق تعبير سائد ) اختصرته في عبارة بسيطة كررتها مراراً قلت فيها ” لقد صمتنا حين كان كان يتحتم علينا الكلام ، وهمسنا في اذان بَعضنا حين توجب علينا اعلاء الصوت ؛ لقد أثرنا السلامة على المجازفة بالموقف الذي يوحي به الضمير . لو لم يفعل ذلك اخرون لكان لنا العذر ” . ذلك لايعفينا الان من مسؤولية قول ما يجب ان يقال . وينبغي هنا الإشارة الى بعض الامور الاساسية في هذا الصدد :
ان رفضنا للخطوة الاماراتية كان ينصب أساساً على قضية التلحّف بالقضية الفلسطينية ، وانا ممن يَرَوْن ان التدخلات العربية بشكل عام قد اساءت لهذه القضية واضافت لها تعقيدات على تعقيداتها . لقد اثار انتباهي وإعجابي كلاماً قاله مرة عجوز فلسطيني ، ومضمونه ان القضية باتت اكبر من قدرات الجيل العربي الحاضر ، والمطلوب من هذا الجيل ان يتركها لاهلها ، واذا عجز الجيل الحالي من اَهلها عن استرداد حقوقه فليتركوا الامر للاجيال القادمة التي تثبت طلائعها من فتيان وفتيات الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة انهم الخصم الند القادر على مواجهة الاحتلال وتحميله العبأ الاخلاقي والقانوني والسياسي لاحتلاله . ان مايقوم به هؤلاء الفتيان والصبايا يكسب يوماً بعد يوم تعاطفاً متزايداً على الساحة الدولية ، ولعله الطرف العربي الوحيد الذي تحظى فعالياته ونشاطاته بصفحات ايجابية طويلة في تقارير المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الانسان ، فضلاً عن الدعم المعنوي الذي تتلقاه من هيئات الامم المتحدة ومجلس حقوق الانسان التابع لها ، وبفضله تتنامى حركة المقاطعة الدولية لاسرائيل BDS وهي تكسب يومياً مساحات اضافية على المستويات الشعبية حتى اصبحت عامل ضغط على الحكومات يقلق العدو الصهيوني .
ان رفض خطوة الامارات لايأتي من خلفيات ايديولوجية او انسياقاً وراء الخطاب الشعبوي الذي تشبعت العقلية العربية بمضامينه حول تحرير فلسطين وكل ارض عربية محتلة ، دون تغيير على ارض الواقع توحي بترجمة هذا الخطاب الى فعل ؛ ان مصدر رفض هذه الخطوة جاء استناداً لمناقشة عقلية هادئة تستند الى معطيات واقعية ، وهذا الموقف يختزله سؤال بسيط لابد من تذكره دائماً عند كل منعطف مماثل وهو : ماهي الفائدة التي جناها من قاموا قبلاً بالتطبيع من علاقاتهم مع الكيان الصهيوني ؟ . لقد وقعت مصر اتفاقية سلام شامل مع العدو واستعادت ( بسيادة منقوصة ) أراضيها المحتلة ، ولكنها ظلت ومازالت هدفاً لسياسات إسرائيلية ممنهجة تستهدف مقومات وجودها ، ولعل قضية سد النهضة واحدة من ابرز الأمثلة والتي تضع مصير مصر وامنها موضع ضرر بالغ ، ناهيك عن القيود التي لاعلاقة لها يالسلام قدر علاقتها بابقاء اسرائيل عاملا يومياً في حياة المصريين مثل اتفاقيات التجارة التي تفرض على مصر ان تكيف صناعاتها وفق متطلبات اسرائيل ، ولايمكن لمصر الان ان تدخل بمنتجاتها الى الاسواق الغربية الا اذا كانت هنالك مكونات إسرائيلية في المنتج المصري المصدر لاتقل عن ١٠٪ ، فضلاً عن عدم تنفيذ اسرائيل اي من التزاماتها المنصوص عليها في اتفاقيات الاطار التي عقدت في كامب ديڤيد بما في ذلك منح الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير، فيما تتم متابعة مصر لتنفيذ التزاماتها وزيادة من قبل حلفاء اسرائيل الدوليين . وبالنسبة للأردن فان اسرائيل قد اكتسبت حقوقاً ماكانت لتحظى بها لولا اتفاقيات وادي عربة مثل استيلاءها على حصة الأسد في مياه نهر الاْردن ولكنها تسلب الفلسطينيين مياههم وتضع مبدأ الوصاية الهاشمية على المقدسات الاسلامية موضع شك بل وتمارس الاعتداء اليومي على هذه الحقوق ، وآخر ماناله الاْردن هو جعل كيانه باكمله موضع تهديد بفعل خطط السلام الامريكية المتتالية التي ترفض الاعتراف بالمرجعيات الدولية كأساس لحل المشكلة الفلسطينية . ولسنا نحتاج الى تفصيل ماترتب عن اتفاقيات أوسلو من كوارث ، وكل ماكسبه الفلسطينيون هو تحمل اعباء الاحتلال ، بل واصبحت هذه الاعباء موضوع تهديد يومي وآخرها قطع التمويل عن الاونروا .. وباختصار فان كل ماكسبه من لجأوا لخيار السلام مع اسرائيل هو تنازلهم عن حقوق أصيلة فيما تواصل اسرائيل سياسات التوسع وضم الاراضي وفق حقوق توراتية تعلنها دون مواربة ، ولعل في مقولة نتنياهو ” السلام ينبع من القوة ” تفسير واضح للامر برمته . العقيدة الصهيونية تقوم على اخضاع الخصوم والاصدقاء على حد سواء ، ومن سوء حظنا ان يحتكر النظام الرسمي العربي المتهاوي حقوق الحرب والسلام ، والنتيجة هي مانراه يومياً من حال شعوبنا .
ماهي مكاسب الامارات ؟! ليست لدى الامارات أراضٍ محتلة حتى تعيدها اسرائيل ، وليست لديها حاجة الى ماتزعمه اسرائيل من خطر إيراني يهدد الامارات ، الا اذا كانت تنوي مساعدة الامارات لاستعادة جزرها ، وذلك في نطاق قدرتها ؛ فهل ستفعل ؟!! ؛ لكن الامارات هي الاكثر تعاملاً مع ايران على المستوى التجاري ، وقد شكلت خلال تاريخها القصير ثغرة كبيرة في الموقف العربي لصالح ايران . لقد كانت دبي محطة التوريد الاولى لاحتياجات ايران خلال الحرب العدوانية الايرانية على العراق في ثمانينات القرن الماضي ، وتقوم منذ عام تقريباً بانشاء وتثبيت قنوات اتصال وتنسيق أمني مع ايران رغم اشتباك حليفتها الكبرى السعودية في حرب ضروس بالنيابة مع الاخيرة في اليمن . لقد مولت الامارات حركات الثورة المضادة والانقلابات العسكرية التي شكلت رد قوى الرجعية العربية ضد انتفاضات الربيع العربي بزعم كونها تقع في اطار حركات الاسلام السياسي ، فيما تحتضن هي واحداً من اكثر حركات السلفية تخلفاً وعنفاً ( عند الضرورة ) وهو التيار المدخلي ، كما نظمت مؤتمرات سلفية مشبوهة هدفها تشويه وجه الاسلام الحقيقي وتوظيفه سياسياً كما فعلت في مؤتمر كروزني لتيارات اهل السنة والجماعة ( آب ٢٠١٦ ) ، وقبل ذلك ذهبت دون طلب من احد لتدفع للاسرائيليين أثمان ليست مستحقة عن منشأت احتلالية تم إبقاؤها في قطاع غزة عندما انسحب الاسرائيليون منها تحت ضغط الكلفة المادية والبشرية التي كانت المقاومة الفلسطينية قد كبدتهم إياها ،، وتطول القائمة ..
نحن اذن لأننشد للمجد التليد ، ولا نعيد تلاوة قصائد الامجاد بل نبني موقفاً لابد منه كمتعلمين ومتابعين من منطلق وطني قومي عروبي يستند الى وقائع محددة وليس اخرها او أقلها أهمية مانراه من بصيص امِل ينبعث من ارض فلسطين وتحديداً من داخل الارض المحتلة حيث يتصدى شباب لم تفسده مداهنة نظام او حاكم ، بل ينطلق في بذل تضحياته بدمائه سخية تحت ضرورة انسانية بسيطة وهي الرغبة في العيش كما تعيش شعوب الارض ومنها يهود اسرائيل وفق معايير انسانية أساسية ليست اكثر ولا اقل من شروط عيش بقية البشر ،، مبدأ بسيط بعيداً عن امجاد الماضي الغابر ومفاخر الاجداد البائدة .. مافعلته الامارات ليس خيانة للتطلعات القومية للأمة التي لاتقنع البعض في زمن السوء هذا ، ولكنها خيانة لابسط الاعتبارات الانسانية التي يبذل في سبيلها شباب الارض المحتلة دمائه . ليس مطلوباً ان نحارب الى جانبهم لأننا لانمتلك القدرة او الإرادة ، وليس مطلوباً نصرتهم بخطاب او تظاهرة او مقالة ، بل يكفيهم صمتنا ؛ لان افعالنا وكلامنا الذي من جنس افعال وخطاب شيوخ الامارات والامّعات التي يوظفونها هي خناجر مسمومة في خاصرة كل طفل وطفلة او شاب وشابة يقاتلون الاحتلال بالحجارة متدرّعين بصدور عارية وايمان بالحياة ولو كان الطريق اليها مرصوف بدماء الشهداء ،،الله ، الله .. ما أكبرهم ، وما اصغر المطبّعين ، والسلام على من اتبع الهدى !!