كانت قضية الحق والعدالة في السياسة الدولية والعلاقات بين الدول ، موضع نقاش لم ينقطع على مدى التاريخ الانساني المدوّن .
كتب عنها فلاسفة الاغريق والرومان وكتب عنها الفلاسفة والمفكرين الاوربيين ولكن لم يتم الاتفاق على مفهوم ومعيار يأخذ به الجميع .
لكن التطبيق الفعلي كان هو منطق القوة وفرض الارادات بعيداً عن قواعد الاخلاق او الرحمة وحتى بعيداً عن القانون الدولي.
لم يتفق البشر على مرجعية معينة يحتكم اليها الخصوم لتحديد الطرف الذي معه الحق.
وفي كتاب رائع بعنوان : الأخلاقيات والحرب من تأليف ديفيد فيشر ، نجد استعراضاً ممتازاً لتطور مفهوم القوة والعدل والاخلاقيات في الحروب وفي فرض الهيمنة والنفوذ
لعل ماجاء في كتاب المفكر الاغريقي ثيوسيديس عن الحرب البولينيزية ، والذي تضمن عرضاً قوياً لمبدء “الواقعية المطلقة” ، يمثل التأسيس لمبدأ اصبح ثابتاً في العلاقات الدولية.
عندما اراد الاثينيون احتلال جزيرة ميلوس ، وجهوا الدعوة الى اهالي الجزيرة للدخول في حوار وحددوا شروط الحوار بأنهم لن يستخدموا كلمات رقيقة لتبرير عملهم على أسس أخلاقية لأن مايريدونه هو “مناقشة عملية” مع اهل الجزيرة.
واوضحوا لهم ان المناقشة العملية تعني ان مستوى العدالة يتوقف على المساواة في القوة.
بمعنى آخر ، ان يقوم القوي بعمل ماتبيح له القوة ان يفعله. ويتعين على الضعيف ان يتقبل مايجب عليه عمله.
وهكذا فأن المناقشة سوف لن تكون حول الاخلاق بل حول ممارسة السلطة.
وقدم الاثينيون النصيحة لاهل الجزيرة بأن القاعدة الآمنة تقضي :
“بأن يقف المرء امام المماثلين له في القوة وأن يتصرف باحترام تجاه الاعلى منه وان يهدد من هم ادنى منه.”
وعندما رفض اهل الجزيرة ذلك تم تدميرهم وتدمير جزيرتهم وابادتهم.
وبعد الحرب العالمية الثانية ظهر تيار الواقعية الحديثة للرد على ماظهر من توجهات قانونية اخلاقية ( قادها جورج كينان) للتعامل مع المشاكل الدولية، والتي أُعتبرت غير واقعية وتؤدي الى الفوضى لانها سمحت للنازيين باعادة تسليح المانيا وشن الحرب العالمية الثانية.
كان التوجه الجديد يلزم وجود مقاربة اكثر قوة ، وقاده : هانز مورغنتاو.
وكان هناك اعلان واضح بأن رجال الدولة يفكرون ويعملون وفقاً لغاية تُعرف بأنها القوة.
وان الذي يحرك الرجال جميعاً هو ” توق شديد للغاية للقوة”. وان عالم السياسة هو حقل القوة وأن القضايا الاخلاقية تمثل رفاهية لايمكن لرجال السياسة الانغماس فيها “ولايمكن لأي رجل دولة ان يعرض دولته للخطر خدمة للعدالة”.
ومادار من احداث في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية من حروب وغزوات واسقاط نُظم بالقوة ومحاصرة وعقوبات وتدخُّل في شؤون الدول، كل ذلك كان وفق منطق الواقعية الحديثة او منطق الحق يساوي القوة.
وأصبح تعريف السياسة بكونها : فن الممكن ، اي السلوك والتصرف بواقعية.
اليوم تحاورت مع احد الاصدقاء الشباب الواعدين وهو طالب دكتوراه علوم سياسية ، وكان الكلام حول التفكير السياسي السائد في العراق وكيفية فهم سياسيينا لقيود السياسة والعلاقات الدولية.
قلت له ان على الطبقة السياسية العراقية ان تدرك محددات وقيود السياسة الدولية وان تكون واقعية في تقدير مخاطر سلوكها وان تتوقف عن حالة الإنكار والتجاهل لما يدور داخل وخارج البلد.
أن الفهم القبلي والمنعزل سوف لن يقود البلد الى الخير والنماء.
هنالك دول عظمى وتكتلات كبيرة مثل الاتحاد الاوربي والصين وروسيا والهند تخضع للضغوطات وتكيّف سلوكها وفق منطق توازن القوى وحقائق التفوق الاقتصادي والعسكري .
العراق تحدّى امريكا والعالم في العام ١٩٩٠ ، وماذا كانت النتيجة ؟
تدمير العراق تماماً ومن ثم احتلاله.
الآن البعض يحاول اعادة نفس التجربة ويتوقع نتائج مختلفة وهذا هو الغباء بعينه