17 نوفمبر، 2024 7:26 م
Search
Close this search box.

نظرية وفلسفة ودراسة المذاهب الرمزية في جسم الانسان

نظرية وفلسفة ودراسة المذاهب الرمزية في جسم الانسان

يعتبر جسم الإنسان هو أقدم وأكثر الرموز عمقاً وكونيّة من بين كل الرموز قاطبة. كان كلٌ من الإغريق والفرس والمصريين والهندوس يقدّرون حدّ التبجيل التحليل الفلسفي لطبيعة الإنسان الثالوثية واعتبروا ذلك جزءاً لا يتجزأ من تهذيبهم الديني والأخلاقي. كانت “المدارس السرّية” The Mysteries في كل أمّة تعلّم حقيقة أن كافة قوانين وعناصر وقوى الكون قد تجسّدت في جِبِلّة الإنسان وكينونته؛ وأن كل ما هو موجود خارج كيان الإنسان يوجد ما يماثله في داخله. الكون, كونه يتعذّر قياس ضخامته ولا يمكن تصوّر عمقه, فهو يتجاوز تقديرات وتخمينات العقل البشري. حتى الآلهة أنفسهم لا يدركون سوى جزء يسير من ذلك المصدر الحصين الذي استمدوا منه مجدهم وجبروتهم. عندما تتغلغل نشوة روحية إلى الإنسان للحظات مؤقتة, فإنه يتجاوز لوهلة محدودية وجوده الدنيوي ويبصر ذلك السناء السماوي الذي يغمر كل الخليقة. بل وحتى في أعظم أوقات الإنسان تنوّراً, فإنه لا يزال غير قادر على أن يطبع في جوهر روحه العاقلة صورة مثالية للنشاطات السماوية متعددة الأشكال والأبعاد.

إقراراً منهم بعبثية محاولة التعامل فكرياً مع كل ما يتجاوز استيعاب الملكات العقلية, حوّل الفلاسفة الأوائل انتباههم واهتمامهم من البحث في اللاهوت الغير قابل للتصوّر والإستيعاب إلى البحث في الإنسان ذاته, والذي وجدوا في حدود دائرته الضيّقة تجلياً لكافة الغوامض والأسرار التي تحوزها الدائرة الأكبر اللامحدودة. وكامتداد طبيعي لهذه الممارسة العلمية, تم تشكيل منهج فكري لاهوتي سرّي حيث تم اعتبار الله على أساس أنهالإنسان الأكبر, وبالمقابل تم اعتبار الإنسان بأنه إله صغير. واستناداً على هذا التشبيه, كان ينظر إلى الكون على أنه إنسان, وعلى العكس, والإنسان على أنه كون مصغّر. كان يوصف الكون الكبير بـ”العالم الأكبر” أو “الجسد الأكبر” Macrocosm, والحياة الإلهية أو الكيان الروحي الذي يدير كافة نشاطاته وآلياته يُسمى “التجلّي الأكبر” Macroprosophus. بينما جسد الإنسان, أو كون الإنسان الذاتي, فقد كان يوصف بـ”العالم الأصغر” أو “الجسد الأصغر”Microcosm, والحياة الإلهية أو الكيان الروحي الذي يدير كافة نشاطاته وآلياته يُسمى “التجلّي الأصغر” Microprosophus. كانت المدارس السرية التي ازدهرت في العصور الوثنية (قبل ظهور الأديان الشمولية المنظّمة), تهتم بشكل رئيسي بتعليم المنتسبين الجدد على مدى العلاقة الفعلية بين “العالم الأكبر” و”العالم الأصغر”. أيّ بمعنى آخر: العلاقة بين الله والإنسان. ومن ثم فقد كانت المفاتيح المؤدية للتشبيهات والتناظرات بين أعضاء وآليات “الإنسان الأكبر” (الكون) وأعضاء وآليات “الإنسان الأصغر” (الإنسان) تمثّل الأسرار الأكثر تقديراً وإجلالاً لدى المنتسبين الأوائل للمدارس السرّية.

في كتابها الشهير “سرّ إيزيس المكشوف” Isis Unveiled, لخّصت “هيلينا بتروفنا بلافاتسكي” H. P. Blavatsky (مؤسِسة الجمعية الثيوصوفية) المفهوم الوثني بخصوص الإنسان كما يلي: “الإنسان هو عالم صغير Microcosm داخل الكون العظيم. يشبه الجنين وهو معلّق بأرواحه الثلاثة في رحم فلك كون كبير Macrocosmos, وبينما يكون جسده الأرضي على تناغم مستمرّ مع الأرض, تبقى روحه النجمية في حالة انسجام وتجاوب مع “روح العالم”Anima Mundi النجمية. هو في داخل الكون كما الكون في داخله, حيث أن هذا العنصر المنتشر في الكون يملأ كل الفضاء, إنه الفضاء بعينه, لكنه متناهي وخالي من الحدود. وبالنسبة لروحه الثالثة, السماوية, فهي عبارة عن إشعاع متناهي الصغر, أحد الإشعاعات اللامحدودة المنبعثة مباشرة من “السبب الأول” Highest Cause .. النور الروحي للعالم؟. هذا هو ثالوث الطبيعة العضوية وغير العضوية .. الروحية والجسدية, والتي هي ثلاثة في واحد, والتي قال عنها “بروكلوس” Proclus (فيلسوف أفلاطوني محدث, عُرف في المصادر العربية بـ”برقلس”): ‘بأن الميحاد أو الجوهر الفردي الأول monad هو “الإله السرمدي” Eternal God, والثاني هو “الأبدية” Eternity, والثالث هو “النموذج الأولي” Paradigm أو مخطط الكون.‘ مجموع الثلاثة يشكّل الثالوث المتجلّي Intelligible Triad.”

قبل زمنٍ بعيد من استحداث عبادة الأصنام على هيئة ديانة, قام الحكماء الأوائل بوضع تمثال للإنسان في حرم الهيكل (مركز تعليم الحكمة). هذا التمثال البشري كان يرمز إلى القوة الإلهية بكل مظاهرها وتجسيداتها المعقّدة. لقد اعتبر حكماء العصور القديمة الإنسان بأنه كتاب قائم بذاته, يحتوي أسرار الكون. ومن خلال دراسته بإمعان وتفحّص, تعلّموا كيف يفهموا أسرار وغوامض الخطة الكونية الأعظم التي يمثّلون جزءاً منها. لم يرد عن ذلك التمثال الغامض, الواقف فوق المذبح العتيق, بأنه قد صنع على صورة “تمثال يشبه شكل جسم الإنسان” Manikin كما الرموز التي لا زالت صورها صامدة عبر العصور في حوزة “المدارس السرّية” Mystery Schools, وكان مكسواً بكتابات وشعارات هيروغليفية منقوشة أو مرسومة. ربما كان التمثال مكشوفاً لكي تتبين أجزاءه الداخلية, وبالتالي يُظهر المواضع النسبية للأعضاء والعظام والعضلات والأعصاب وأجزاء أخرى. بعد أجيال متعددة من البحث, أصبح هذا التمثال مكسواً تماماً بعدد كبير ومتشابك من الكتابات الهيروغليفية والنقوش الرمزية. كل جزء كان له معناه السرّي الخاص. وشكّلت القياسات نموذج أساسي بحيث يمكن استخدامه لقياس كافة أجزاء الكون. كان يمثّل رمزاً مركّباً مجيداً يحتوي على كل المعارف التي حازها الحكماء والفلاسفة المبجّلين الأوائل.

بعد هذه الفترة المزدهرة جاء عصر الوثنية وعبادة الأصنام. فتلاشت الحكمة الأصيلة وتهاوت “الأسرار” The Mysteries أمام تنامي روح الجشع والإستغلال الذي لم يتجسّد من قبل بهذا المدى البغيض. لقد فُقدت الأسرار إلى الأبد ولم يعد يتعرّف أحد على هوية هذا التمثال الغامض الواقف في محراب الهيكل. كل ما تم تذكره فقط هو أن هذه الشخصية تمثّل رمزاً مقدّساً ومجيداً للقوة الكونية العظيمة, ونظروا إليه أخيراً على أنه ممثّل الله على الأرض .. الإله الأوحد الذي خلق الإنسان على صورته. بعد فقدان المعرفة التي تكشف عن الغاية الحقيقية لصنع هذا التمثال, راح الكهنة يشجّعون الرعايا على عبادته وتبجيله وتقديم القرابين والهبات .. إلى أن جاء الوقت أخيراً, حيث تجرّدت طقوس عبادتهم من أيّ مظهر روحي عميق, فانهار المعبد فوق رؤوسهم ومال التمثال نحو الأرض فتحطّم .. فاندثرت تلك الحضارة الوثنية التي نسي حكماءها المعاني الحقيقية التي يخفيها هذا التمثال.

منطلقين من استنتاجات الحكماء اللاهوتيين الأوائل, والقائلة بأن الإنسان قد خُلق على صورة الله, راح الفلاسفة يؤسسون نظريات لاهوتية هائلة تتمحور أساساً حول جسم الإنسان وأسراره اللامتناهية. إن العالم الديني اليوم لازال في حالة جهل كامل لحقيقة أن علم الأحياء (البيولوجية) المتطوّر هو من بين العلوم الأساسية (إلى جانب علم الفلك والهندسة والخيمياء .. وغيرها) التي تخفيها تعاليمه ونصوصه المقدّسة. إن الكثير من التشريعات والقوانين التي يعتقد علماء الدين في العصر الحديث بأنها مُنزلة من السماء, هي في الحقيقة ثمرة أجيال وأجيال من البحث العلمي المتأنّي والتعمّق في خفايا وتعقيدات البنية الجسدية للإنسان, وتسجيل العجائب اللامتناهية التي كشفت عنها هذه الأبحاث المطوّلة.

في معظم الكتب المقدّسة حول العالم, يمكننا استنباط آثار واضحة لمعلومات مشفّرة تتناول علم الأحياء المتطوّر على هيئة تشبيهات وتناظرات تشريحية. وسيكون الأمر أوضح في النصوص المتناولة لأساطير الخلق. إن أيّ شخص مطّلع على علم الأجنة وعلم التوليد سوف لن يواجه صعوبة في تمييز قواعد الإستعارة في القصص الرمزية التي ترويها النصوص المقدّسة, خاصة بما يتعلّق بقصة آدم وحواء وجنّة عدن, وكذلك قصة الدرجات التسعة لطقوس الأسرار الألوسينية Eleusinian Mysteries (مراسم للإنتساب كانت تقام كل عام لـعبادة “ديميتر” Demeter و”برسفون” Persephone في مدينة إلفسينا في اليونان القديمة), وكذلك الأسطورة البراهمانية التي تروي قصة “فشنو” وتقمّصاته (تجلياته) المتعددة. بالإضافة إلى قصّة البيضة الكونية Universal Egg (أسطورة الخلق في الميثولوجيا الإغريقية), والأسطورة الإسكندنافية التي تروي قصّة الـ”غينونغاغاب” Ginnungagap (الصدع المظلم في الفضاء والذي زُرعت فيه بذرة العالم), وكذلك استخدام السمكة كرمز قوة التوالد الأبوي. جميعها تكشف عن المنشأ الحقيقي للتأمل والتدبّر اللاهوتي. قد أدرك فلاسفة العالم القديم بأن الإنسان ذاته يمثّل مفتاح لغز الحياة, حيث يمثّل الصورة الحية للخطة الإلهية الشاملة, وفي العصور المستقبلية سوف تتوصل الإنسانية إلى إدراك أكثر اكتمالاً للمعنى الجليل المتمثّل بالعبارة القديمة القائلة: “إن الدراسة المناسبة للكائن البشري هي الإنسان”.
إن كلاً من الله والإنسان لهما بنية ثنائية المظهر, حيث القسم الأعظم هو خفي بينما القسم الأصغر هو ظاهر وملموس. في كليهما أيضاً مجال وسطي, يمثّل الحد الذي يلتقي فيه المظهرين الخفي والظاهر. بما أن المظهر الروحي (الخفي) لله يتحكّم بالكون المرئي والملموس, والذي هو في الحقيقة عبارة عن تجسيد متبلور لفكرة, فبالتالي, إن المظهر الروحي للإنسان يمثّل السبب الخفي لشخصيته المتجسّدة مادياً وبالإضافة إلى القوة المتحكمة بها. وهكذا أصبح واضحاً بأن روح الإنسان تحمل نفس العلاقة مع جسده المادي كما علاقة الله مع الكون المرئي والملموس. لقد علّمت المدارس السرية بأن الروح, أو الحياة, هي سابقة للهيئة المتجسّدة, وأن كل ما هو سابق يشمل ما هو لاحق. بما أن الروح سابقة للهيئة المتجسّدة, فبالتالي, تكون الهيئة داخل مجال الروح. إنها مقولة مألوفة, أو اعتقاد شائع, أن روح الإنسان تقبع داخل جسده. لكن حسب الإستنتاجات الفلسفية واللاهوتية القديمة, فإن هذا الإعتقاد غير صحيح إطلاقاً, حيث أن الروح ترسم أولاً حدود منطقة معيّنة ثم تتجسّد داخلها بهيئة مادية. إذا تحدثنا بطريقة فلسفية, يمكن القول بأن الهيئة, كونها جزء من الروح, فهي داخل الروح وليس العكس. لكن, الروح هي أكثر من مجموع الهيئة المتجسّدة, حيث أن المظهر المادي للإنسان هو داخل روحه, وبالتالي فإن المظهر الكوني Universal Nature, بما يشمله من المنظومة النجمية, يقبع داخل الجوهر الرباني المنتشر في كل مكان .. أيّ الروح الكونية Universal Spirit.
الشجرة الإلهية في الإنسان (الوجه):
شجرة لها جذور مغروسة في القلب تنمو صاعدة من مرآة الإله Mirror of the Deity عبر دائرة (عالم) الحكمة Sphere of the Understanding (راجع التعاليم القبلانية) إلى فرع موجود في دائرة الحواس Sphere of the Senses, جذور هذه الشجرة وجذعها تمثّل الطبيعة السماوية للإنسان وبالإمكان تسميتها بـ”روحانيته” spirituality؛ فروع الشجرة عبارة عن أجزاء منفصلة من بنيته السماوية وقد تكون متصلة بشخصيته الفردية؛ بالنسبة للأوراق – وبسبب طبيعتها سريعة الزوال – تناظر “هويته الذاتية” personality, والتي لا تتصف بالديمومة (الخلود) مثل مصدرها السماوي.
الشجرة الإلهية في الإنسان (القفا):
تماماً مثل الرسم البياني الذي يمثّل الواجهة الأمامية للإنسان ويوضّح المبادئ السماوية في حالتها المتجددة, كذلك الواجهة الخلفية لنفس الشكل تُظهر الجانب الأدنى منزلة, أو المظهر المظلم من الشمس. من دائرة العقل النجمي Sphere of the Astral Mind (راجع التعاليم القبلانية) يوجد خط ينزل عبر دائرة السبب Sphere of reason حتى يصل إلى دائرة الحواس. كما أن دائرة العقل النجمي ودائرة الحواس مليئة بالنجوم للدلالة على الحالة الليلية nocturnal أو المظلمة لطبيعتها. في دائرة السبب, يوجد كلٌ من الجانب الأسمى والجانب الأدني متوافقان معاً, حيث العقل عند الإنسان الفاني يناظر الحكمة المنيرة عند الإنسان الروحي.
وفقاً لمفهوم آخر عائد إلى الحكمة القديمة, يقال بأن كلتا الهيئتين, سواءً الروحية أو الجسدية, لهما ثلاثة مراكز, كانت تسمى عند الإغريق بـ”المركز العلوي” و”المركز الأوسط” و”المركز السفلي”. وهنا تجدر الإشارة إلى وجود لبس وغموض واضح في المسألة. لغرض تمثيل أو رسم صورة واضحة ملائمة للثوابت العقلية المجردة فإن ذلك يعتبر مستحيلاً, لأن القيام بعمل تمثيل بياني أو شكلي لمظهر واحد فقط يوضح علاقاته الميتافيزيقية (الغيبية), قد يحدث تناقضاً فعلياً لبعض المظاهر الأخرى. في حين أن ما هو “علوي” يعتبر عموماً أرفع مقاماً وأعلى سلطة, نرى في الواقع أن “المركز” يعتبر أسمى وأسبق لكل ما يقال عنه بأنه “علوي” above أو “سفلي” below. بالتالي, لابد من القول بأن الذي تم اعتباره “علوياً” هو في الواقع يقبع في “المركز”, بينما كلٌ من “العلوي” أو “السفلي” هما في الحقيقة يوجدان أسفل أو أدنى مرتبة منه. قد تصبح الصورة أكثر وضوحاً إذا كان القارئ سوف ينظر إلى “العلوي” above بأنه يشر إلى درجة القرب من المصدر, وأن “السفلي” below يشير إلى درجة البعد عن المصدر, ويكون المصدر موجود فعليّاً في المركز وتوجد مسافة نسبية تتضمن نقاط متعددة على امتداد نصف القطر من المركز باتجاه المحيط (كما الجسم الكرويّ أو الكرة). في المسائل المتعلقة بالفلسفة واللاهوت, يمكن النظر إلى “الأعلى” up بأنه يتجه للمركز, و”الأسفل” down يتجه نحو المحيط. المركز يمثّل الروح, والمحيط يمثّل المادة. وبالتالي, “الأعلى” يتجه نحو الروح على طول مقياس تصاعدي يمثّل “الروحانية” Spirituality, و”الأسفل” يتجه نحو المادة على طول مقياس تنازلي يمثّل “المادية” Materiality. هذا المفهوم القديم يتم التعبير عنه جزئياً من خلال قمة مخروط, عندما يُنظر إليها من فوق, فإنها تظهر على هيئة نقطة, تحديداً في مركز المحيط الذي شكّلته قاعدة المخروط.

هذه المراكز الكونية الثلاثة, العلوي والسفي والرابط الذي يوحّد بينهما, تمثّل ثلاثة شموس أو ثلاثة مظاهر لشمس واحدة, بمعنى آخر: مراكز السطوع. ولها أيضاً نظائرها في جسم الإنسان وتسمى المراكز الثلاثة العظمى, والتي تعتبر القوى الخلّاقة في الجسم المادي للإنسان, والشيء ذاته في الكون المادي. يقول “توماس تايلور” Thomas Taylor (أفلاطوني محدث ومترجم إنجليزي, يعتبر أول من ترجم أعمال أرسطو وأفلاطون الكاملة): “أول هذه [الشموس], تناظر الضوء وهو ينبع من مصدر الشمس, والثانية تناظر الضوء وهو ينتقل مباشرة من الشمس, والثالثة تناظر الضوء وهو يتلامس مع مظاهر الطبيعة بكل روعة وبهاء.”

وبما أن المركز الأسمى (أو الروحي) يقع في منتصف المركزين الآخرين, فما يناظره في الجسد المادي هو القلب, العضو الأكثر غموضاً وروحية في جسم الإنسان. المركز الثاني (أو الرابط بين العالمين العلوي والسفلي) فقد ارتقى إلى مكانة ذات منزلة مادية عظيمة, وهو الدماغ. المركز الثالث (أو الأدنى) فقد انحدر إلى مكانة ذات منزلة مادية متدنية, ولكنه الأعظم أهمية من بينها من ناحية مادية, وهو جهاز التكاثر. وهكذا فإن القلب يمثّل مصدر الحياة, والدماغ يمثّل الرابط الذي يوحّد بين الإدراك العقلي والحياة والهيئة المتجسّدة, وجهاز التكاثر (أو الصانع الجهنمي) يمثّل مصدر الطاقة التي تنتجها الكائنات المادية. إن طموحات الفرد ومثله العليا تتوقف إلى حد كبير على أكثر المراكز الثلاثة سيادةً؛ من حيث مدى وفاعليّة قدرة هذا المركز على التعبير عن ذاته. فعند الإنسان المادّي materialist (صاحب النزعة المادية) يكون المركز السفلي هو الأقوى, وعند الإنسان المفكّر intellectualist يكون المركز العلوي هو الأقوى, ولكن عند الإنسان المطّلع initiate يكون المركز الأوسط, عبر غمر ذانك الطرفين النقيضين في فيض من السناء الروحي, هو المسيطر كلياً على كلٍ من العقل والجسم.

مثلما يدلّ النور على وجود الحياة, والتي تعتبر مصدره, كذلك العقل يدلّ على وجود الروح, وأيّ ضرب من ضروب النشاط يكون موجوداً حتى ولو في مستوى متدني ساكن فهو يدلّ على وجود إدراك أو تبادل للمعلومات. وبالتالي فإن العقل يدلّ على وجود القلب, بينما جهاز التكاثر, بدوره, يدلّ على وجود العقل. وبناء على ذلك, أصبح يرمز غالباً إلى الطبيعة الروحية من خلال القلب, والمقدرة الفكرية من خلال عين مفتوحة, تمثّل الغدّة الصنوبرية أو العين الصقلوبية Cyclopean eye, كما كان يتم تمثيل المقدرة الفكرية أيضاً من خلال الإله الروماني “يانوس” Janus ذو الوجهين المتقابلين في مدارس الأسرار الوثنية القديمة. وأما بالنسبة لجهاز التكاثر, كان يرمز إليه من خلال زهرة أو عصا أو كأس أو كف.

بينما كانت جميع المدارس السرّية قد أقرّت قديماً بأن القلب هو مركز الوعي الروحي, إلا أنه غالباً ما يتم تجاهل هذا المفهوم عن عمد ويستخدم القلب بالمعنى الظاهري له باعتباره رمزاً للطبيعة العاطفية, وعلى هذا النهج أصبح جهاز التكاثر يمثّل الجسد المادي, والقلب يمثّل الجسم العاطفي, والدماغ يمثّل الجسم العقلي. يعتبر الدماغ تمثيلاً للمنزلة الأسمى أو الأعظم, ولكن بعد أن ينجح المنتسبين (في هذه المدارس السرية) في تجاوز المستويات الأدنى يتم توجيههم وتعليمهم بأن الدماغ يعتبر وكيلاً عن الشعلة الروحية التي تسكن في أوغل خبايا القلب. وعما قريب يكتشف طالب التعاليم الباطنية بأن القدماء كثيراً ما لجأوا إلى مختلف طرق التمويه لإخفاء التفسيرات الحقيقية لأسرارهم. كانت فكرة استبدال القلب بالدماغ واحدة من طرائقهم في حجب وتشفير معرفتهم السرّية.

“يهوه” في قلب الإنسان:
Tetragrammaton (أو “يهوه” حسب الترجمة الشائعة في أغلب الدراسات الأكاديمية الإنجليزية وهو أحد أسماء الله المذكورة في التوراة وفي العهد القديم في الكتاب المقدس), أو اسم الله الذي يتكون من أربعة حروف, يوجد مرتّب هنا على هيئة عُشار فيثاغوري tetractys (شكل مثلث يحتوي على عشرة نقاط مرتبة في أربعة صفوف: نقطة, ثم نقطتان, ثم ثلاث نقاط, ثم أربعة نقاط. وهو رمز باطني مهم جداً في العقيدة السرّية الفيثاغورية) بداخل رسمة قلب إنسان مقلوب. تحت العُشار الفيثاغوري, يظهر الإسم “جهوفا” Jehovah (استعمال لاتيني, وهو النطق لكلمة يهوه YHWH) وقد تم تحويّله إلى الأسم ” جهوشوا” Jehoshua (وينطق “يشوع”, وهو الإسم اللاتيني للنبي عيسىى في بعض التراجم الإنجليزية) من خلال دسّه في شعاع (نصف قطر) الحرف العبري Shin (شين). هذا الرسم ككل يمثل أو يرمز إلى عرش الله وتدرّجاته الهرمية بداخل قلب الإنسان. في كتابه بعنوان “رسالة اعتذار” Libri Apologetici, وصف “جاكوب بوهم” Jakob Bohme (عالم لاهوتي ألماني مسيحي ومتصوّف عاش بين 1575 – 1624) هذا الرمز بقوله: “.. لأننا نحن البشر نملك كتاب واحد مشترك يشير إلى الله. كل إنسان يمتلك ذلك الكتاب بداخل ذاته, وهو اسم “الله” العزيز الذي لا يقدّر بثمن. حروفه هي لهيب حبه, والتي تأصّلت من قلبه لتشكل اسم “يسوع” Jesus الذي أسفر لنا عنه. إقرأ هذه الحروف في قلبك وروحك وستجد ما يكفيك من الكتب. جميع كتابات عباد الله توجهك إلى ذلك الكتاب الأوحد, الذي تكمن فيه كل كنوز الحكمة .. هذا الكتاب هو “المسيح” Christ بداخلكم
كانت درجات الإنتساب الثلاثة في مدارس الأسرار القديمة, باستثناء بعض المدارس القليلة, تُمنح في حجرات تمثّل المراكز الثلاثة العظمى في جسم الإنسان وبنية الكون. وإن كان ذلك ممكناً, فإنه يتم تشييد المعبد ذاته على هيئة الجسم البشري. حيث يدخل المرشّح للإنتساب من بين القدمين (على أساس أن المعبد بني على هيئة جسم الإنسان) ويتلقى أعلى درجة في النقطة المناظرة للدماغ. وهكذا, كانت الدرجة الأولى تمثّل الحوزة على سرّ التعاليم الماديّة أو الدنيوية وكان رمزها جهاز التكاثر, وهي ترتقي بالمنتسب عبر درجات مختلفة ومتفاوتة من دراسة النظريات والأفكار الماديّة. أما بالنسبة للدرجة الثانية, فقد كانت تُمنح في الحجرة المناظرة للقلب, وهي تمثّل القوة الوسطى التي هي الرابط العقلي. هنا يبدأ المنتسب بتعلّم أسرار التفكير المجرّد ويرتقي أعلى بحسب قدرة عقله على التبصّر والتفكير الثاقب. بعدها يجتاز هذه الدرجة حتى يصل إلى الحجرة الثالثة, التي تناظر الدماغ, ويتقلّد هناك أعلى منصب في المعبد, بينما في الحقيقة تعتبر الحجرة المناظرة للقلب هي الأكثر مهابة وإجلالاً. ففي حجرة الدماغ يُمنح معرفة أسرار القلب. وللمرة الأولى, في تلك الحجرة, يستوعب المنتسب المعنى الحقيقي لتلك الكلمات الخالدة: “الأنسان هو ما ينوي في قلبه”. كما أنه يوجد سبعة قلوب في الدماغ كذلك يوجد سبعة أدمغة في القلب, غير أن هذه مسألة تتبع علم الفيزياء الفائقة superphysics والقليل جداً يمكن أن يقال عنها في الوقت الحاضر.

كتب “بروكلوس” Proclus عن هذا الموضوع في كتابه الأول “عن لاهوت أفلاطون” On the Theology of Plato قائلاً: “في الواقع, ذكر أفلاطون في محاورته “آلسيبايديس” Alcibiades الأولى, بأن سقراط Socrates قد اجتهد في ملاحظة أن الروح عندما تدخل إلى ذاتها فهي تبصر كل الأشياء الأخرى, حتى الطبيعة الإلهية. ولكي تحاذي طبيعتها المتوحّدة, وتدنو من مركز الحياة, تنحّي عنها صفة التكاثر وكافة القوى المتعددة التي تحتويها, ثم تعرج إلى أعلى مناقب الطاعات والقربات. وكما هو الحال في معظم الأسرار المقدّسة, يقال بأن الصوفيين يلتقون أولاً مع الهيئة المتعددة, والأجناس متعددة الأشكال, التي تلقى عليهم أمام حضرة الآلهة, ولكن عند دخولهم المعبد, غير متأثرين, تحميهم الطقوس الصوفية, فهم يتلقون في أحضانهم [قلوبهم] نوراً سماوياً, ثم يتجردون من ثيابهم, وكأنهم بذلك يتشاطرون مع الطبيعة السماوية, وكما يبدو لي أنهم عبر اتباعهم لنفس ذلك الأسلوب فهم يتفكّرون في وحدة الكلّ. الروح عندما تنظر إلى ما خلفها من الأشياء, فهي لا تبصر سوى ظلال الوجود وصوره, ولكنها عندما تحوّل نظرها إلى نفسها فهي بذلك تنمّي جوهرها ومسبّباتها. هذا في الواقع يحصل فقط بمجرد أن تنظر إلى نفسها, ولكنها عندما تخترق بعمق لمحاولة معرفة ذاتها, ستجد بداخل ذاتها البصيرة ومراتب الوجود. غير أنها عندما تواصل سبر أعماقها الباطنية, إلى الجوهر الأكثر قداسة في الروح, سوف تبصر وعينها مغلقة [وبدون مساعدة العقل الأدنى], طبيعة الآلهة ووحدة الوجود. ولأن كل الأشياء تقبع بداخلنا بشكل روحي, فنحن من خلال هذا قادرون على معرفة كل شيء, عبر تحفيز وإيقاظ قوى الكلّ وصوره التي تنطوي فينا.”

لقد نبّه الحكماء المطّلعون في القدم تلاميذهم إلى أن الصورة لا تمثّل الوقع بعينه وإنما تجسيد لفكرة غير موضوعية (ذاتية). لم يكن الهدف من تصوير الآلهة على هيئة تماثيل لغرض العبادة وإنما لكي تُتخذ كمجرد رموز ورسائل تذكيرية تشير إلى القوى والمبادئ الخفية. وبشكل مماثل, وجب ألا يعتبر جسد الإنسان بأنه يمثّل الفرد بذاته بل مجرد بيت للفرد, وبنفس الطريقة التي يُعتبر فيها المعبد على أنه بيت الله. إن الإنسان الذي يتصف بالكِبر والضلال والدنيوية يكون جسده بمثابة قبر أو سجن للمبدأ المقدّس, وأما من يتصف بالتطوّر والتجدّد الروحي يصبح جسده بمثابة بيت أو حرم لله الذي صوّره بفضل قواه الخلّاقة. “إن هوية المرء معلّقة بخيط متدلي من نزعة الوجود”, هذا ما تعلنه الحكمة السرّية. الإنسان هو جوهرياً عبارة عن مبدأ خالد وأبدي, وفقط جسده يمرّ عبر دورة من الولادة والموت. الخلود هو الواقع بعينه, بينما الفناء هو الوهم. خلال كل دورة من الحياة الأرضية, يقبع الواقع في الوهم, إلى أن يتحرر منه مؤقتاً عن طريق الموت, وبصورة دائمة بواسطة التنوّر.

بالرغم من أنه يُنظر إليهم عادة باعتبارهم مشركين Polytheists, لم يكتسب الوثنيون هذه السمعة لأنهم عبدوا مع الله آلهة أخرى بل لأنهم كانوا يجسّدون صفات الله على صورة أوثان, ونتيجة لذلك أنشأوا مجمعاً لتلك الآلهة اللاحقة, حيث كان كل واحد منها يمثّل صفة من صفات الإله الأوحد الذي يتجلّى ككل. وبالتالي, كانت مختلف مجامع الآلهة في الديانات القديمة تمثّل فِهْرِساً وتجسيداً لصفات الله. وبهذا الخصوص نجد تناظر لهذا المفهوم في التسلسل الهرمي لدى الكهنة القبلانيين Qabbalists في عقيدة “القبالة” العبرية. وبناء على ذلك, جميع الآلهة والإلهات في العصور القديمة لها تشبيهاتها وتناظراتها في جسم الإنسان, وكذلك أيضاً عناصر وكواكب وأبراج تم تخصيصها كأدوات مناسبة لتلك الآلهة السماوية. حيث تم إنساب مراكز الجسد الأربعة إلى العناصر الأربعة, الأعضاء الحيوية السبعة نُسبت إلى الكواكب, الأطراف والأجزاء الرئيسية الإثني عشرة مُثّلت بدائرة البروج Zodiac, والأجزاء الخفية لطبيعة الإنسان السماوية نُسبت إلى آلهة علوية متعددة ومتنوّعة, بينما تم الإفصاح عن المبدأ المقدس الخفي بأنه متجسّد من خلال النخاع الموجود في العظام.

يصعب على الكثيرين إدراك أنهم بالفعل عبارة عن أكوان في حقيقة الأمر, وأن أجسادهم المادية ذات طبيعة مرئية تركيبتها تتألف من أفواج مستمرة لا تحصى من أنواع الحياة المتطورة تكشف لهم عن إمكانياتهم الكامنة. ورغم ذلك لا يختبر الإنسان عبر جسده المادي مراحل تطور الجماد والنبات والحيوان فحسب, بل أيضاً تطور أصناف وأقسام كثيرة غير معروفة من الجانب الروحاني الخفي لديه. تماماً كما تعتبر الخلايا وحدات متناهية الصغر في بنية الإنسان, كذلك الإنسان يعتبر وحدة متناهية الصغر في بنية الكون. متى ما وجد علم لاهوتي يستند على معرفة وتقدير تلك العلاقات فهو يتصف بعمق الفكر والإدراك كما هو حال تلك العلاقات التي تعتبر عميقة وراسخة في حقيقة الوجود.

وبما أن جسد الإنسان يحتوي على خمسة أطراف بارزة وهامة, القدمان واليدان والرأس (وهو الذي يتحكم بالأربعة الآخرين), فلقد تم اعتبار الرقم “5” ليكون رمزاً للإنسان. حيث كان الهرم من خلال زواياه الأربعة يرمز إلى القدمين واليدين, وقمته تمثّل الرأس, مما يشير إلى أن قوة عاقلة واحدة تتحكم بأربعة زوايا غير عاقلة. كانت تستخدم اليدين والقدمين لتمثيل العناصر الأربعة, حيث القدمان ترمزان إلى عنصري الأرض والماء, واليدان ترمزان إلى عنصري النار والهواء. وأما الدماغ فقد كان يرمز إلى العنصر الخامس المقدّس, وهو الإيثر Aether, الذي يتحكم بتلك العناصر الأخرى ويوحّد بينها. إذا ضُمّت القدمين معاً, وفُردت اليدين, عندها يشبه جسد الإنسان الصليب وبذلك يرمز إلى التقاطع مع العقل الذي يمثّله الرأس أو الطرف العلوي.

أيضاً أصابع اليدين والقدمين تحوز على مغزى أو مدلول استثنائي. أصابع القدمين تمثّل الوصايا العشر للقوانين المادية وأصابع اليدين تمثّل الوصايا العشر للقوانين الروحية. الأصابع الأربعة (السبابة, الوسطى, الخنصر, البنصر) من كل يد ترمز إلى العناصر الأربعة والسُلاميات الثلاثة من كل أصبع ترمز إلى أقسام تلك العناصر, بحيث أنه في كل يد يوجد اثني عشر جزءاً ضمن تلك الأصابع, والتي تناظر علامات دائرة البروج, في حين أن السُلاميتين في كل إبهام مع قاعدته تشير إلى الثالوث الإلهي. السُلامى الأولى تناظر الجانب الخلّاق أو الإبداعي, السُلامى الثانية تناظر الجانب الحافظ أو الصائن, والقاعدة تناظر الجانب التكاثري أو المدمّر. عندما تجمع اليدين معاً, يصبح لدينا ما يناظر مجموع الشيوخ الأربعة والعشرون Twenty-Four Elders (كما ورد ذكرهم في الإصحاح الخامس من سفر رؤيا يوحنا) وأيام الخلق الستة The Six Days of Creation [مجموع كافة السُلاميات وقاعدتي الإبهامين].
د مزيّنة بنقوش لدمى على هيئة “يسوع المسيح” و”مريم العذراء” و”الحواريين الاثني عشر”:
على كافة السلاميات الإثني عشرة لأصابع (السبابة والوسطى والخنصر والبنصر), يظهر ما يشبه الحواريين الإثني عشر, يحمل كل واحد منهم رمزه المناسب الخاص به. في حالة أولئك الذين عانوا مع العذاب أو الإستشهاد في سبيل الدين فهم يحملون رمزاً يدل على أداة موتهم. وهكذا, رمز القديس “آندور” St. Andrew هو صليب, ورمز القديس “توماس” St. Thomas هو رمح أو مربّع البناء, ورمز القديس “جيمس” St. James الأصغر هو هراوة, ورمز القديس “فيليب” St Philip هو صليب, ورمز القديس “بارثولوميو” St. Bartholomew هو سكين كبيرة أو سيف معقوف, ورمز القديس “ماثيو” St. Matthew هو سيف أو رمح (أحياناً صرّة نقود), ورمز القديس “سايمون” St. Simon هو هراوة أو منشار, ورمز القديس “ماثياس” St. Matthias هو فأس, ورمز القديس “يهوذا” St. Judas هو مِطرَد halbert (سلاح أبيض يتركب من رمح وفأس الحرب). أما بالنسبة للحواريين الذين لا تشير رموزهم إلى استشهادهم هم: القديس “بطرس” St. Peter, الذي يحمل مفتاحين متقاطعين, أحدهما مصنوع من الذهب والآخر من الفضة, والقديس “جيمس” St. James الأكبر, الذي يحمل عصى حاج وقوقعة محار, والقديس “يوحنا” St. John, يحمل كأس من السمّ والذي عندما تجرّعه مات بأعجوبة متحولاً على هيئة ثعبان (See Handbook of Christian Symbolism). بالنسبة للنقش الشبيه بـ”المسيح” على السلامى الثانية من الإبهام فهو لا يتبع النظام الوثني الذي يعيّن الأقنوم الأول من الثالوث الخلّاق لهذه المكانة. يجب أن يتم تعيين السلامى الثانية (التي تكون في الأعلى) لتظهر مكانة الله, والسلامى الأولى تكون لـ”ابن الله”, بينما “روح القدس” يتم إظهار مكانته من خلال قاعدة الإبهام, وأيضاً, وفقاً للترتيب الفلسفي, يجب أن تكون “مريم العذراء” مصوّرة على قاعدة الإبهام, والتي تعتبر مكرّسه لعبادة القمر في التقاليد الوثنية القديمة
غالباً في رمزية جسم الإنسان ينقسم الجسد إلى نصفين بشكل رأسي (عمودي), حيث النصف الأيمن يمثّل النور والنصف الأيسر يمثّل الظلمة. وبالنسبة لغير الملمّين بالمعاني الحقيقية للنور والظلمة, فإن النصف الممثّل للنور يدلّ على الروحانية والنصف الأيسر الآخر يدلّ على المادية. النور يرمز إلى الموضوعية (تجرّد), والظلمة ترمز إلى عدم الموضوعية (ذاتيّة). يعتبر النور مظهر من مظاهر الحياة وتجلياتها, وبالتالي هو لاحق بالنسبة للحياة. وأما الظلمة فهي سابقة للنور, فوجود النور مؤقت ولكن الظلمة وجودها دائم. وبما أن الحياة تسبق وجود النور, فرمزها الوحيد هو الظلمة, والظلمة تمثّل الحجاب الذي يجب أن يخفي للأبد الطبيعة الحقيقية للكينونة المجرّدة وغير المتمايزة.

في العصور القديمة كان الرجال يقاتلون بواسطة ذراعهم اليمنى ويدافعون عن المراكز الحيوية في أجسادهم بواسطة ذراعهم اليسرى, التي كانت تحمل الدرع المخصصة للحماية. وبالتالي كان النصف الأيمين يعتبر هجومي والنصف الأيسر دفاعي. ولهذا السبب أيضاً كان الجانب الأيمين من الجسم يعتبر ذكوري والجانب الأيسر أنثوي. العديد من الجهات تدعم الرأي القائل بأن الإستعمال السائد لليد اليمنى من قبل السواد الأعظم من الناس في الوقت الحاضر, ما هو إلا حصيلة انتشار التقاليد التي تحضّ على ضبط وكبح اليد اليسرى لأغراض دفاعية. علاوة على ذلك, بما أن مصدر الوجود يقبع في الظلمة البدائية (الأولية) التي سبقت النور, إذن تكون طبيعة الإنسان الروحية قابعة في الجزء المظلم من كيانه, ولهذا نجد القلب في الجانب الأيسر من جسد الإنسان.

من بين التصورات الخاطئة الغريبة الناجمة عن العادات الباطلة التي ربطت الظلمة مع الشر, هو استعمال العديد من الشعوب القديمة اليد اليمنى لجميع الأعمال البناءة, واستعمال اليد اليسرى فقط لتلك الأغراض أو المقاصد التي توصف بالنجاسة وعدم الطهارة وغير اللائقة في نظر الآلهة. ولنفس السبب غالباً ما كان يشار إلى السحر الأسود بـ”درب الأعْسر”, وقيل بأن الجنة موجودة على اليمين والجحيم على اليسار. كما أقرّ بعض الفلاسفة بوجود طريقتين للكتابة: الأولى هي الكتابة التي تبدأ من اليسار إلى اليمين, وكانت تعتبر الطريقة الظاهرية exoteric (مفهومة ومستخدمة لدى عامة الناس), والثانية هي الكتابة التي تبدأ من اليمين إلى اليسار, والتي كانت تعتبر الطريقة الباطنية esoteric (سريّة ومفهومة لفئة معينة فقط). كانت الكتابة الظاهرية تكتب بعيداً عن القلب, بينما الكتابة الباطنية, مثل اللغة العبرية القديمة (والعربية أيضاً), تكتب باتجاه القلب. [باعتبار أن القلب موجود في الجهة اليسرى من جسد الإنسان, أيّ في الجانب المظلم الذي يخفي الطبيعة الحقيقية لكينونته].

تصرّح التعاليم السرّية بأن كل جزء وعضو في جسد الإنسان يوجد متجسّد (بصورة مصغّرة) في الدماغ, وبالتالي, كل ما هو في الدماغ يوجد متجسّد في القلب. كثيراً ما يستخدم رأس الإنسان في الرمزية ليمثّل الإدراك ومعرفة الذات. وبما أن جسم الإنسان في مجمله يعتبر المخلوق المعروف الأكثر مثالية ضمن كل مراحل التطور والنشوء التي حصلت على سطح الأرض, فلقد تم تسخيره لتمثيل الصفات الإلهية Divinity, أيّ أعلى منزلة أو حالة يمكن إدراكها. لقد حاول الكثير من الفنانين تصوير الصفات الإلهية في لوحاتهم, والتي كانت غالباً ما تُظهر فقط صورة يد تنبثق من سحابة غامضة منيعة. تعبّر السحابة عن الألوهية المجهولة والمحجوبة عن الإنسان بسبب حدود إدراكه الآدمي. وتعبّر اليد عن الأفعال الإلهية, الجزء الوحيد من الله الذي يمكن إدراكه من خلال الحواس الأدنى.

يتألف وجه الإنسان من ثالوث طبيعي: تمثّل العينان القوة الروحية التي تميّز الأشياء, ويمثّل المنِخْرَان (فتحتي الأنف) القوة الصائنة والمنشّطة (التي تمنح الحيوية والنشاط), وأما بالنسبة للفم والأذنان فهي تمثّل قوى التجسيد المادي Demiurgic في العالم الدنيوي. تعتبر الدائرة الأولى أزلية الوجود وهي ذات قدرة خلّاقة, والدائرة الثانية لها علاقة بسرّ الإختراق الخلّاق (الخرق هو ضد الخلق؛ الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق, والخرق يكون بغير تقدير, أيّ بغير نظام ولا هندسة), وبالنسبة للدائرة الثالثة فلها علاقة بالكلمة الخلّاقة (أعتقد أنها تماثل الكلمة المذكورة غالباً في النصوص الدينية). فبواسطة “كلمة الله” Word of God خُلق الكون المادي, والقوى الخلّاقة السبعة, أو الصوائت (الأصوات التي تنبثق من مصدرها وتنتقل دون وجود أيّ حوائل تعترضها كما حروف العلّة) والتي جُلبت إلى حيز الوجود من خلال نطق “الكلمة” Word, وأصبحت فيما بعد “الإلوهيم” Elohim أو الآلهة السبعة (إلوهيم كلمة عبرية لوصف الإله أو الآلهة, وهي متعلّقة بكلمة إل (إله) السامية. تشير عادة إلى إله إسرائيل الواحد وتتصرف كجمع أحيان أخرى لتشير لآلهة متعددة. وتترجم أحياناً بمعنى “القادمون من الجنة” أو “القادمون من السماء”) الذين بواسطة قواهم وعونهم تم تنظيم العالم الدنيوي. في بعض الأحيان يرمز إلى الإله من خلال عين أو أذن أو أنف أو فم. حيث تشير العين إلى الوعي الإلهي, وتشير الأذن إلى العناية الإلهية, ويشير الأنف إلى الحيوية الإلهية, ويشير الفم إلى الأمر الإلهي.
الحياة الثالوثية للإنسان الباطني:
“يوهان جورج غيتل” Johann Georg Gichtel, فيلسوف متبحّر ومتصوّف, أحد أكثر التلاميذ تنوّراً لـلعالم اللاهوتي “جاكوب بوهم” Jakob Bohme, وزّع سرّاً الرسومات البيانية الموجودة بالأعلى بين مجموعة من الأصدقاء والتلاميذ المخلصين. عمل “غيتل” على إعادة نشر كتابات “بوهم”, موضّحاً إياها عبر عدد كبير من الرسومات البيانية. وفقاً لـ “غيتل”, الرسومات البيانية أعلاه, تمثّل تشريح الإنسان السماوي (أو الباطني), وتوضحّ بطريقة رسومية حالته خلال طوره الإنساني, طوره الجهنّمي, وطوره السماوي. على ما يبدو أن اللوحات الموجودة في طبعة “وليام لاو” William Law (كان كاهناً في كنسية إنجلترا في القرن السادس عشر, ويعتبر متصوّفاً وعالماً لاهوتياً, لازالت كتاباته الروحية تطبع حتى اليوم) لأعمال “بوهم” تعتمد على الرسوم البيانية لـ “غيتل”, والتي تشابهها في كافة مبادئها. لم يعطِ “غيتل” صراحة أيّة تفاصيل متعلّقة برسومه البيانية, والحروف الظاهرة هنا على رسوماته الأصلية تُرجمت من الألمانية, وتعتبر الدليل الوحيد الذي يقود لتفسير هذه الرسومات التوضيحية.

تمثّل الرسمتين الأخيرتين (الموجودة على الطرفين الأيمن والأيسر) الوجه والقفا لنفس الرسمة البيانية, ويطلق عليها مسمى “اللّوح الثالث” Table Three. لقد صُممتا لكي تظهران حالة الإنسان ككل, مقارنة بجميع أجزائه الأساسية الثلاثة: النفس والروح والجسد, في هيئته المتجددة Regenerated State. بالنسبة للرسمة الثالثة من اليسار تسمى “اللّوح الثاني” Second Table, وهي تحدد حالة الإنسان في طوره القديم, المنقضي, والتالف؛ دون النظر أو الإخذ بالإعتبار قدرته على التجدد من خلال البعث أو تجدد الجسد. ومع ذلك, لا تتوافق الرسمة الثالثة مع “اللوح الأول” First Table في طبعة “وليام لاو” William Law. يُفترض بأن “اللّوح الأول” يمثل حالة الإنسانية قبل السقوط Fall (ربما يقصد النزول من الحالة الأولية, كما في قصة نزول آدم من جنة عدن), ولكن رسمة “غيتل” تتعلق بالطور الثالث لإنسانية, أو قدرتها على التجدد. وهكذا, يصف “وليام لاو” الغرض من الرسوم البيانية, والرموز التي تشير إليها, على النحو التالي: “هذه الألواح الثلاثة صُممت لكي تُظهر الإنسان في “أطواره الثالوثية” Threefold State المختلفة: اللّوح الأول يظهره قبل السقوط, في نقاء, وسيادة, ومجد. اللّوح الثاني يظهره بعد السقوط, مدنّس, وخاسر, وخرِب. واللّوح الثالث يُظهر عروجه بعد السقوط, أو مسيرة بعثه من جديد, في تكريسٍ ونزعة نحو بلوغ كماله الأخير.” إن الطالب المهتم بدراسة العلوم الشرقية Orientalism سيتعرّف فوراً على “الشاكرات” الهندوسية Hindu chakras الموجودة في الرموز الظاهرة على الرسومات, أو ما يسمى بمراكز القوة الروحية, وهي تمثّل تلميحات وجوانب مختلفة تكشف عن مظهر الطبيعة السماوية الباطنية للمريد الباحث
لم يعتقد القدماء بأن الروحانية تجعل من الإنسان صالحاً أو عقلانياً, بل على الأحرى الصلاح والعقلانية هما ما يجعلان الإنسان روحانياً. كانت المدارس السرّية القديمة تعلّم بأن التنوّر الروحي لا يتحقق إلا من خلال تنشئة الطبيعة الدنيوية إلى مستوى معين من الإستحقاق والنقاء. ولذلك تأسست المدارس السرية لغرض الكشف عن طبيعة الإنسان وفقاً لقواعد ثابتة معينة, والتي عندما يتم اتباعها بإخلاص, فإنها ترفع الوعي البشري إلى مستوى يصبح عنده قادر على إدراك تركيبتها الأولية والغرض الحقيقي من وجودها. هذا النوع من الإدراك بخلقة الإنسان وتركيبته المتنوعة والمختلفة, وكيفية تجددها كلياً وبسرعة شديدة للغاية, حتى الوصول إلى درجة التنوّر الروحي, يشكّل التعاليم والمبادئ السرّية أو الباطنية التي كانت بحوزة الحكماء في العصور القديمة.

بعض الأعضاء والمراكز المادية الظاهرية في جسد الإنسان تعتبر في الواقع بمثابة حُجب وأغماد لمراكز روحية. لم يتم الكشف أبداً عن أسرار طبيعة هذه المراكز للجاهل الذي لا فائدة ترجى منه, لأن الفلاسفة أدركوا أنه بمجرد فهمه طريقة عمل أيّ منظومة بالكامل, ربما يصبح قادر على إنجاز الغاية المفروضة ولكن دون أن يكون مؤهلاً للتعامل والتحكم بالآثار التي تنتج عنه. ولهذا السبب تم فرض فترات طويلة من التهذيب والتأهيل على المنتسبين, لكي تبقى تلك المعرفة التي توصل الإنسان إلى مراتب الآلهة في حوزة الوحيدين الذين يستحقونها.

وخشية أن تضيع تلك المعرفة في غياهب النسيان, تم إخفاءها على هيئة استعارات مجازية أو تمثيلات بين ثنايا القصص الرمزية والأساطير التي كانت تبدو بلا معنى للدنيويين المدنَّسين, ولكنها بنفس الوقت تعتبر من البديهيات الواضحة لأولئك المطّلعين على نظرية الخلاص الذاتي التي كانت تمثّل أساس علم اللاهوت الفلسفي. يمكن الإستشهاد بالديانة المسيحية كمثال على ذلك. حيث في الواقع يعتبر “العهد الجديد” New Testament (الجزء الثاني من الكتاب المقدّس لدى المسيحيين) بأسره عبارة عن تأويلات وتفسيرات باطنية مخفية ببراعة تشرح الإجراءات السرّية لعملية التجدد الروحي والجسدي للإنسان. إن أولئك الرجال والنساء المذكورين في تلك النصوص المقدّسة والذين طالما تم اعتبارهم مجرد شخصيات تاريخية, هم في الواقع عبارة عن تجسيد وتمثيل لبعض العمليات المحددة التي تحدث في جسد الإنسان عندما يبدأ مهمته في تحرير نفسه بوعي من عبودية الجهل والموت.

إن تلك السرابيل والحليّ المزخرفة التي زعم بأن الآلهة ترتديها, هي عبارة عن مفاتيح تقود لمعاني باطنية أخرى أيضاً, حيث في المدارس السرية كانت تستخدم مرادف لتلك المعاني من خلال الألبسة التي يلبسونها. إن درجة الروحانية أو المادية لدى أيّ كائن حي يمكن الدلالة عليها من خلال نوعية وجمال وقيمة الألبسة التي يرتديها. لقد كان يُنظر إلى جسد الإنسان المادي على أنه رداء لطبيعته الروحية, وبالتالي, كلما كانت قواه الجوهرية العظمى متطورة أكثر, كلما كانت حُلّته (جسده) أكثر بهاء وجلالة. بطبيعة الحال, تلك الملابس كانت تلبس لغرض التزيّن وليس بهدف الحماية, وهذه العادة لا زالت سائدة بين العديد من الشعوب البدائية. لقد علّمت المدارس السرّية أتباعها بأن زينة الإنسان الوحيدة والباقية, هي فضائله وأخلاقه الشريفة؛ عندما يكسو نفسه بمؤهلاته ويتزين بإنجازاته. وهكذا, كان الرداء الأبيض يرمز إلى النقاء والطهارة, والرداء الأحمر يرمز إلى التضحية والحب, والرداء الأزرق يرمز إلى الإيثار والنزاهة. وحيث أن الجسد تم اعتباره ليكون رداء للروح, كانت التشوهات الفكرية أو الأخلاقية تصوّر في الرسومات والمنحوتات على هيئة تشوهات في الجسد.

على اعتبار أن جسد الإنسان يمثّل قاعدة قياس للكون أجمع, صرّح الفلاسفة بأن جميع الأشياء لها ما يماثلها في بنية جسم الإنسان, إن لم يكن في تكوين مظهره الخارجي. الإغريق, على سبيل المثال, أعلنوا بأن “دلفي” Delphi (مدينة الآلهة والحضارة اليونانية القديمة) هي سرّة الأرض, ونظروا للكوكب المادي باعتباره كائناً بشرياً عملاقاً ملتوياً على شكل كرة. وخلافاً للإعتقاد المسيحي بأن الأرض عبارة عن شيء جامد لا حياة فيه, كان الوثنيون يعتبرون ليس الأرض فحسب, بل أيضاً كافة الأجسام الفلكية كمخلوقات مستقلّة تمتلك إدراك قائم بذاته. حتى أنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك, عندما درسوا ممالك الطبيعة المختلفة باعتبارها كيانات مستقلّة بذاتها. المملكة الحيوانية, على سبيل المثال, كان ينظر إليها على أنها كائن واحد؛ مركّب من جميع المخلوقات التي تؤلف تلك المملكة. كانت تلك البهيمة النموذجية الكليّة تشبه لوحة فسيفسائية تجسّد كل النزعات الحيوانية وبداخل طبيعتها يكمن عالم الحيوان بأسره, مثلما تكمن جميع الأجناس البشرية بداخل خِلقة (بنية جسم) “آدم” Adam النموذجي.

وعلى نفس المنوال, كان ينظر إلى الأعراق والأمم والقبائل والأديان والدول والمجتمعات والمدن ككيانات مركّبة, يتكون كل منها من عدد متفاوت من الوحدات الفردية. كل مجتمع له خصوصية فردية تشمل مجموع التوجّهات الفردية لأفراد ذلك المجتمع. كل دين أيضاً له خصوصية فردية, تتكون بنيته من تراتبيّة هرمية كهنوتية منظّمة (نظام هرمي متدرّج تحكمه رئاسة روحية تشرف على تسلسل المستويات في المؤسسة الدينية) وحشد كبير من المتعبّدين المنفردين. يعتبر الهيكل التنظيمي لأي دين بمثابة جسده المادي, وأفراده يمثّلون الخلايا الحية التي تشّكل هذا الكائن الحي. وبناء على ذلك, الأديان والأعراق والمجتمعات, مثل الأفراد, يمرّون عبر “مراحل العمر السبعة” Seven Ages كما نسجها الشاعر “شكسبير” Shakespeare في قصيدته (عنوان القصيدة هو The Seven Ages of Man قسّم فيها الشاعر وليام شكسبير حياة الإنسان الى سبع مراحل أو محطات رئيسية, حيث ركّز فيها على التغيرات السلوكية للإنسان خلال تنقله في وصف مراحل عمره), حيث حياة الإنسان تمثّل المعيار الذي من خلاله يتم تقدير ديمومة كل الأشياء.

وفقاً للعقيدة السريّة, الإنسان, وعبر تهذيبه التدريجي من قبل وسيطه الجسدي والحساسية المتنامية نتيجة هذا التهذيب, يكون بذلك قد تغلّب على محدوديات المادة واعتق نفسه من دوامة الفناء. بعد أن تكمل الإنسانية رحلة التطور الجسدي, ستخلّف وراءها القشرة المادية الفارغة لتستخدمها أفواج أخرى من الحياة كحجر عبور لتحررها. إن نزعة تطوّر الإنسان تنمو دائماً نحو جوهر كينونته الشخصية. عند أقصى حالات المادية (الدنيوية), يكون الإنسان في أبعد نقطة عن نفسه. حسب التعاليم السريّة, ليست كامل الطبيعة الروحانية للإنسان تتقمّص في المادة. فروح الإنسان تُصوّر على شكل مثلّث متساوي الأضلاع مع أحد رؤوسه موجّهة نحو الأسفل. هذه النقطة السفلية من المثلّث, والتي تمثّل مجموع ثلت الطبيعة الروحانية لكن بالمقارنة مع جلالة الرأسين الآخرين للمثلّث فهي تمثّل أقل من قيمة الثلث بكثير, تهبط إلى وهم الوجود المادي لفترة وجيزة. بينما تلك التي لا تلوّث نفسها بالغمار المادي تعتبر “الأنثروبوس” Anthropos (الكيان الكلّي Overman) كما أشار إليه الهرامسة, وهو نظير “الصقلوب” Cyclops أو “العفريت”Daemon الحارس لدى الإغريق, أو “الملاك” Angel كما اعتبره “جاكوب بوهم” Jakob Bohme, أو “النفس الكليّة” Oversoul كما أشار إليها “إمرسون” Emerson حينما قال: “هذه الوحدة المتناغمة Unity, “النفس الكليّة”, التي تشمل كينونة الإنسان, هي في حالة اتحاد أو اندماج مع النفوس الكليّة الأخرى لباقي البشر.”

عند الولادة, فقط ثلث الطبيعة السماوية للإنسان تنفصل عن نفسها الخالدة وتنغمس في وهم الوجود المتمثّل بالولادة الجسدية (التجسّد المادي), وبواسطة حماسها السماوي تعمل على إحياء وسيط جسدي مؤلّف من عناصر مادية تشكّل جزءاً من العالم المادي الملموس مما يلزمها بالتقيّد به. عند الموت, يصحو هذا الجزء المتجلّي من حلم الوجود المادي ثم يعود للاتحاد مرة أخرى مع كينونته الخالدة. هذا النزول الدوري والمؤقّت للروح إلى العالم المادي يُسمى بـ”عجلة الحياة والموت” wheel of life and death, والمبادئ الداخلة في العملية تم تناولها مطولاً وبإسهاب من قبل الفلاسفة خلال اهتمامهم بموضوع “تناسخ الأرواح” Metempsychosis.

من خلال الإنتساب إلى المدارس السرية, ومن ثم الخوض في عملية تسمى “اللاهوت العملي الفعّال” operative theology, يتم تجاوز هذا القانون المُسمى بـ”دورة الحياة والموت”, أي حتى لو كان الشخص لا يزال في حالة الوجود المادي, يمكن لذلك الجزء من روحه النائمة, والتي تتخذ لنفسها هيئة مادية, أن تصحو دون حاجة لتدخّل الموت (المحرّض الذي يتعذّر اجتنابه) في العملية. وبالتالي تعود للإتحاد بشكل واعي مع “الأنثروبوس” (الكيان الكلّي), أو “النفس الكليّة”. هذا هو الهدف الرئيسي والإنجاز النهائي للمدارس السريّة, والذي يختم مسيرة تدريب المنتسبين إليها. إذاً, فالغاية النهائية لتعاليم المدارس السريّة هي: أن يصبح الإنسان مدركاً للمصدر السماوي لكينونته, ويعود للاتحاد معه بشكل واعي ودون حاجة لخوض مرحلة التلاشي المادي (الموت
من كان ليتساءل أو يفكر بأن هناك مغزى من اليد اليسرى أو اليمنى؟
أو أن هناك فرق بين الكتابة من اليسار إلى اليمين أو العكس؟ واضح أن بالمر لا يريد الغوص أكثر، إكتفى فقط بقوله انها مغالطة بوصفها شيطانية او ظلامية. لكنه فتح باب للبحث. العجيب أن هؤلاء الفلاسفة العظام لم يتركوا شيء إلا تحدثوا فيه.

لفت إنتباه تفسيره للأساطير، هذا العلم الذي أصبح قائما بذاته، و الذي تكلم أصحاب الفلسفة والدين والفن والفلكلور الشعبي و العلم والمؤرخون والعلماء النفسيون وكل وضع نظرية لتفسير الأسطورة مما زاد من غموضها ليأتي بالمر هول بجمل بسيطة و يخبرنا بلب الأسطورة…شيء عجيب جدا …أنا درست الأسطورة وفهمت قصده في هذا الموضع.

هناك معلومات جديدة وكثيرة، هذا الفصل يمكن أن يكون موسوعة بحد ذاته إذا ما تم تنقيب و درس كل مصطلح جديد كل على حدا حتى يمكن فهم هؤلاء الفلاسفة العظام الذين لم يتركوا شيء إلا و بحثوا فيه

أحدث المقالات