وفي السياق نفسه تذكر الباحثة الاسرائيلية [أوفرا بنجيو- كبيرة الباحثين في مركزموشي ديان للشرق الاوسط وشمال افريقيا التابعة لجامعة تل أبيب] أن المجلس الثوري (= مجلس قيادة الثورة) بقيادة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني الذي هو برلمان أمر واقع، بدأ يعمل في عام1964م، وفي عام 1966م بلغ عدد أعضائه 62 عضواً، وكانت له أي للحركة منظمة استخبارية أيضاً،” وقيل إن الموساد الاسرائيلي قد ساعد في إنشاء جهاز الباراستن ( والاسم يعني – حماية – بالكردية) في عام1966م، كان مسعود البارزاني يتزعم الباراستن (= جهاز مخابرات الحزب الديمقراطي الكردستاني)، وقد تلقى تدريباً مكثفاً في كردستان وإسرائيل”. ينظر: كرد العراق بناء دولة داخل دولة، دار الساقي- دار ئاراس، بيروت – أربيل، 2014م، ص46، ص63، الهامش(9) نقلاً عن جوناثان راندل، بعد هذا الاطلاع، أي مسامحة؟ مواجهاتي في كردستان، بولدر، مطبعة ويست فيو، 1999، ص190-1؛ ويضيف الصحفي الامريكي بالقول:”… ووفقاً لأحد الاكاديميين الاسرائيليين (= البروفسورأماتزيا برعام [أماتزيا بارام: أستاذ متمرس في تاريخ الشرق الأوسط، ومؤرخ مختص بشؤون العراق والشيعة في العالم العربي، وهو مدير مركز الدراسات الخاصة بالعراق في جامعة حيفا]، ممن يتمتعون بعلاقات ممتازة مع الاستخبارات الاسرائيلية، قدم الموساد المشورة الى (باراستين) في مختلف الميادين”. ينظر: جوناثان راندل، أمة في شقاق دروب كردستان كما سلكتها، دار النهار للنشر، بيروت، 1999م، ص253، مقابلة هاتفية معه بتاريخ 15 تشرين الاول عام1991م. ويضيف أحد الباحثين الامريكيين بالقول:” كما ساعدت اسرائيل الكورد في التدريب وجمع المعلومات الاستخبارية؛ وهناك اعتقاد شائع بأن الاسرائيليين ساعدوا في تأسيس ( باراستن) وهي أول منظمة استخبارية تابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني. وعلى نحو مماثل تدفق الجنود الكورد على حيفا في اسرائيل للتدريب على السلاح وتطور التكتيكات الحربية…”. ينظر: بيتر جى. لامبرت، الولايات المتحدة والكورد – دراسة حالات عن تعهدات الولايات المتحدة، ترجمه عن الانكليزية مركز الدراسات الكوردية وحفظ الوثائق/ جامعة دهوك، 2008م، ص59.
يبدو أن غالبية المصادرالاسرائيلية تحاول التدليس على هذا الموضوع بالاشارة الى مصادر أخرى، وهي أدرى بالموضوع، فعلى سبيل المثال، ينقل شلومو نكديمون عن الباحث الامريكي اللبناني الاصل (أدمون غريب) في كتابه (القضية الكردية في العراق) بالقول:” شكل الموساد والسافاك جهاز مخابرات كردياً ذكياً للغاية، لجمع المعلومات عن الحكومة العراقية، والاوضاع العراقية، وقوات العراق، ومن البديهي القول أن هذا الجهاز لم يكن يخفي المعلومات التي يحصل عليها عن الجهازين الإسرائيلي والإيراني. وبالامكان الاستدلال على هذه الحقيقة من التصريحات والاقوال التي أدلت بها أوساط عراقية نصف رسمية”. ينظر: الموساد في العراق ودول الجوار، ص104.
فيما تطرق أحد الباحثين العراقيين الى المسألة بطريقة أخرى :” في عام 1965 ازداد التعاون واتسع وأخذ أبعاداً عسكرية واستراتيجية، حيث كلفت جهات عسكرية بالقيام بهذه المهمة ونجحت في إقامة شبكة من العلاقات الوثيقة مع الملا مصطفى وأهم قادة البيشمركه وجهازه الاستخباري (الباراستن( في الحقيقة تؤكد المعلومات أن هذا الجهاز الأخير قد تأسس على يد الضباط الصهاينة”. ينظر: سعد ناجي جواد، العراق والمسألة الكردية 1958 – 1970، دار اللام،1990م، ص187، نقلاً عن صحيفة يديعوت أحرونوت في 30/9/1980. ويظهر للباحث أن التحليل الاخير حول تأسيس جهاز الباراستن على يد الضباط الصهاينة لم يستند على أية معلومة؛ بقدر استنادها على التحليل والاستنتاج النابع من الموقف الايديولوجي المسبق.
وذكر باحث كردي:” وأسهم الموساد بالتعاون مع الـسافاك (المخابرات الإيرانيَّة زمن الشاه)، في تأسيس جهاز المخابرات الكرديَّة (الـباراستن) برئاسة مسعود بارزاني، والذي ساعد الموساد في تهريب الطيَّار العراقي منير روفا [ مسيحي كلداني ينتمي الى مدينة تلكيف الواقعة شمال مدينة الموصل] إلى إسرائيل على متن طائرة ميغ 21″. ينظر: هوشنك أوسى، العلاقات الكردية الاسرائيلية بين النفي الكردي والاعتراف الاسرائيلي، موقع إيلاف، في 28/7/2008م.
في الحقيقة لم يساعد الباراستن في تهريب النقيب الطيار العراقي منير روفا(1934-1989م) في 16/8/1966م الى إسرائيل، لأن شركة نفط العراق البريطانية بدعم من المخابرات البريطانية والامريكية ربما سهلت مهمة الموساد، فضلاً عن ذلك أن الباحث الكردي المذكور يعترف بالقول بأن كان أحد نشطاء حزب العمال الكردستاني:” كنت ناشطاً ضمن تنظيمات (حزب العمال) الجماهيريّة التي تعتبر الجبهة الخلفيّة للحرب والكفاح المسلّح. وبقيت ضمن هذا النشاط متفرّغاً، طيلة خمس سنوات 1993 – 1998. ثم اتجهت نحو العمل الإعلامي والثقافي ضمن المؤسسات التابعة للحزب. دافعت عن الأخير، حين كان صاحب قضيّة، أو كنت أعتبره صاحب قضيّة، يتعرّض للقمع والظلم والجور من النظام التركي والسوري على حدّ سواء”.. ينظر: هوشنك أوسي، PKK غدر بالثورة السورية، وابتعادي عنه بسبب سياساته الاستبدادية. موقع بوست في 14/7/2020. ومما لا شك فيه أن أفكار حزب العمال تتقاطع في كثير من الابجديات السياسية مع وجهة نظر الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة السيد مسعود البارزاني في العديد من القضايا بما فيها العلاقات مع إسرائيل.
في اعتقاد الباحث أن ماذكرته الباحثة الاسرائيلية والباحث الامريكي وغيرهم لا يخرج من كونه ما يمكن أن نطلق عليه الدعم والمشورة والتدريب الذي تقدمه الاجهزة المخابراتية لبعض الدول المتقدمة: CIA، KGB، M16 وغيرها لمخابرات دول العالم الثالث وللاحزاب ولحركات المقاومة والتحرر كالحركة الكردية وغيرها التي تدافع عن شعوبها بوجه خصومها.
وهناك خلاف في توقيت إنشاء هذا الجهاز ما بين المصادر الإسرائيلية وبين مصادر الحركة الكردية، ما بين عامي 1966- 1967م، حيث يقول السيد مسعود البارزاني بهذا الصدد:” في أيار1966 أنشىء مقر البارزاني، وكان أخي ادريس مسؤولاً عنه، ورتب أن أكون معاوناً له ودام هذا الوضع حتى عام1967 عندما أدركت الحاجة الى إستحداث جهاز أمن واستخبارات للثورة أنيط بي أمر تشكيله. كانت استعانتي الأولى بكل من شكيب عقراوي ومحمد عزيز قادر وفرنسو حريري وفاخر ميركه سوري وغيرهم من الاخوان. ويضيق بي المجال عن وصف ما واجهنا من مصاعب وعراقيل في إقامة هذا الجهاز الحساس والذي لم يعد بالامكان الاستغناء عن مثله. وكانت مرحلة الاعداد عسيرة شاقة، وربما كان أهون ما فيها هو إنتقاء الوكلاء العاملين فيه، إذ كان هناك إستعداد غير محدود من الشباب الوطني للتضحية والإقدام على زج النفس في أصعب المواقف لجمع المعلومات المفيدة للثورة ولاسيّما لاستباق أيّ خطوة مدنية أو عسكرية تقدم عليها الحكومة لغرض الإستعداد لها ومواجهتها عند الإقدام عليها وبالاخص حركة القطعات العسكرية”. ينظر: البارزاني والحركة التحررية الكردية، أربيل، 2002م، ج3، ص188 – 189.
ويضيف السيد مسعود البارزاني بالقول:” وإقتضى منا زهاء سنتين لتنظيم هذا الجهاز بفروعه وملاكاته. وفي العام 1969 صرتُ مسؤولاً رسمياً عنه، كما أنيط بي الإشراف على قسمي الهندسة والمخابرة في الثورة لتعلقهما بجهاز الاستخبارات وبقيت كذلك حتى النكسة”. البارزاني والحركة التحررية الكردية، المرجع السابق، ج3، ص189.
أما السيد علي السنجاري القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني، فيقول بهذا الصدد:” كانت الثورة الكردية تتعرض الى الاختراق الأمني من قبل الأجهزة الأمنية الحكومية، والثورة كانت بحاجة ماسة الى جهاز أمني واستخباراتي لحماية الثورة من محاولات الاعداء لجمع المعلومات عن قيادة الحزب والثورة وتحركات قوات البيشمركه والخ. وكان للعدو شبكات تجسس منتشرة في المناطق المحررة داخل الثورة سيما بعد إنشقاق الحزب سنة1964 حيث انضم بعض المنشقين الى الأجهزة الأمنية الحكومية”. ينظر: علي سنجاري، حقيقة مسيرة ثورة (11) أيلول 1961، مطبعة خاني، دهوك، 2013، ص91.
وحول بدايات تخمر فكرة إنشاء جهاز مخابرات لدى قيادة الثورة الكردية، يذكر ما نصه:” في بداية سنة1966 تبلورت فكرة لدى قيادة الثورة حول ضرورة إيجاد جهاز إستخباراتي (باراستن) للحزب والثورة، وكان السيد مسعود بارزاني مشجعاً للفكرة ودعمها وفي البداية تم اختيار المناضل شكيب سعيد عقراوي لتكوين مكتب صغير داخل مقر المكتب السياسي بإسم جمع المعلومات عن قوات العدو. وكان شكيب آنذاك معاون المسؤول المالي في المكتب السياسي وكان سابقاً مدير ناحية في إحدى محافظات الجنوب، وفي بداية عام1963 إالتحق بالثورة وجلب معه مبلغ أربعة آلاف دينار عراقي وسلمه الى قائد الثورة وكان هذا مبلغاً كبيراً للثورة في أوقات الشدة والعوز المالي. وفي بداية شهر آذار 1966 تم ترشيح كل من:
الشيخ محمد هرسين عضو اللجنة المركزية للحزب
شكيب عقراوي
محمد صالح قره داغي
وتقرر ارسالهم الى بلد ( أجنبي) للتدريب على الامور الإستخباراتية، وبعد مضي ثلاثة أشهر عادوا الى كوردستان وأصبح شكيب عقراوي متفرغا لشؤون إستخبارات الحزب والثورة (باراستن) وإنضم إليه كل من: حمه (= محمد) عزيز وفرنسو حريري وفاخر ميركه سوري وآخرين. أما الشيخ محمد هرسين فقد أصبح مسؤولاً للفرع الرابع للحزب في السليمانية، وتم تعيين محمد صالح قره داغي بصفة حاكم (= قاضي) في محمكمة كه لاله. ثم انضم البعض من الوصوليين فيما بعد الى الباراستن. ينظر: علي سنجاري، حقيقة مسيرة ثورة 11 أيلول 1961، ص 91 – 92.
ويبدو أن للسيد علي سنجاري رأيه الخاص بهذا الجهاز الحساس:”هكذا أخذ جهاز (الباراستن) يمارس نشاطه ويجد له الوكلاء والمخبرين، وكان السيد ادريس بارزاني يشرف على الجهاز لغاية سنة 1969، ثم أصبح السيد مسعود بارزاني المسؤول المباشر عن جهاز (الباراستن). وبعد اتفاقية الحادي عشر من آذار 1970، توسع جهاز الباراستن بشكل كبير، وفي سنة 1972 أصبح مركزياً وتم تقسيمه الى قسمين القسم الداخلي والقسم الخارجي وأخذ يتطور بإستمرار حتى أصبح بمثابة حزباً سرياً داخل الحزب مما أدى الى فجوة كبيرة بين جهاز الباراستن ومعظم الكوادر الحزبية… لقد كان تأسيس جهاز الباراستن ضرورياً لحماية أمن الثورة وكنت من المساندين له ولم أكن عضواً فيه. علي سنجاري، حقيقة مسيرة ثورة 11 أيلول 1961، ص 92.
ويختتم السيد سنجاري كلامه حول الباراستن، بقوله:” إن جهاز الباراستن الآن من أوسع أجهزة الحزب وأنشطها ولها ميزانية مالية كبيرة وصلاحيات غير محدودة… والباراستن يشرف على جميع مرافق الحزب الديمقراطي الكردستاني من وراء الستار، وهو في الحقيقة حزباً داخل الحزب والكثير من الكوادر الحديثة في الحزب يتسابقون للإنضمام إلى الباراستن وصولاً الى المراكز الحزبية والإدارية. وبعد تشكيل القيادة المؤقتة في 10/12/1975 أصبح معظم الكوادر المتقدمة في جهاز(الباراستن) أعضاء في قيادة القيادة المؤقتة. وقد أصبحوا وزراء ونواب في البرلمان فيما بعد والى يومنا هذا”. حقيقة مسيرة ثورة 11 أيلول 1961، المرجع السابق، ص92.
مما مر ذكره من كلام السيد علي السنجاري، فهذا هو المتبع في الاحزاب والحركات السياسية الحديثة التي تريد أن تبني كيانها من جديد، وأن يكون بنيانها العضوي مستنداً على دعامات قوية لا يمكن اختراقها، وقد أثبت الاحداث ذلك لا سيما وأن هذا الجهاز من الاجهزة الفاعلة واليقظة في المِنطقة، ليس على صعيد أجهزة مخابرات الحركات والاحزاب فحسب، بل على صعيد مخابرات دول لها تاريخها وامكانياتها. ومن جهة أخرى فإن ما ورد في كلام السيد مسعود البارزاني الآنف الذكر، هوالقول الفصل في هذا المضمار لأنه هو مؤسس الجهاز وهو المسؤول الرسمي له، وأهل مكة أدرى بشعابها، وبخصوص وجهة نظر السيد علي السنجاري حول الجهاز فهذا هو رأيه وتوجهه، باعتباره قيادياً سابقاً في الحزب الديمقراطي الكردستاني، عندما كان عضواً في اللجنة المركزية أوالمكتب السياسي للحزب.