عند باب المصعد…!
كان يعتقِدُ أن العمل هنا سيختلف عما هو عليه في الشركةِ التي تَركها عُـنْوَةً واضطِراراً، فَلم يكُنِ المكتب كما تصوَّرهُ، مُنَظَّماً يَليقُ بكفاءاتهِ وقُدراتهِ، ولم تكنِ النَّظراتُ والأجْوَاءُ أفضلَ ليفجِّرَ طاقاته ومهاراته…
صار يتجَرَّعُ انكساراته، ويسترجِعُ ثقتهُ بنفسه شيئاً فشيئاً، فقد طمع في أن يرى نفسه وقد نال حقا من الحياة، وأن يرفَعَ البُؤسَ والهوانَ عن نفسه، لوكان له ركيزة لما أتى لهذا المكانِ، ولما طاله شطَطُ الجُورِ اللَّعينِ والظُّلْمِ المسْتَبِدِّ الذي لحقَهُ، فما جدوى أن تُعاند؟ فحين تعُمُّ الفوضى وتحلُّ الظُّلْمَةُ يجدر ألا تتوقَّعَ شيئاً، ولن تتلمَّسَ خَيْطَ الضياء، ولن تنفذ إلى الوجهِ الآخرِ للأشياءِ، فما جَدْوى أن تُعانِد….؟!
كان بإمكانهِ كَتْمَ الأمر، وكأنَّ شيئاً لم يكن، ولن يكون هناك شيء إِنْ أرادَ، لكن إلى مَتَى سيكذب على نفسه؟ إن تصوَّرَ أن حياتَهُ ستستمر! يمكن أن يستأنف مسيرتهُ المعتادةَ وكأنَّ شيئاً لم يكن.. ولكنه إن تكلَّمَ فَلن يَتبَقى شيءٌ كما كان سابقاً، خِيَّارَانِ أَحْلاَهُما مُرُّ! فإلامَ تَرَدُّدُهُ؟ منذُ ستةِ أشهُرٍ وهو يتهيَّأ ويُعِدُّ نَفْسَه، ليطفئ جَمْرَ الرَّفْضِ الَّذِي طَالَهُ، لقد تَمَّ نَقْلُه تَعسُّفيا انتقاماً ليقصم ظهره، بعدما كشفَ ألاعيبَهُم وحساباتهم المُزَوَّرة، سرقُوا مشاريعه، واسْتَولَواْ على تصاميمهِ، ورَمَوْهُ بعيداً، فكان قراراً بدون رحمة، حَوَّلَ حياتَهُ رأساً على عَقِب..، ها هو يفْرِك يدَيْه بعصبيةٍ ويبتسمُ بقَلقٍ قبل أن يهْمِسَ:- رُبَّما أحلامكَ يا حمزة كانت كبيرة، ماذا أفادتك قيَّمُك..؟ ماذا كان سيحصل لَوْ لَمْ تنتبِهْ، وتَرَكْتَ الأمورَ تمضِي، وكأنَّ شيئاً لم يحدث…؟؟!
ملفاتٌ إطَّلَعَ عليها صُدْفَةً فأرَّقَتْهُ لياليَ طويلة، لم يكن ينامُ خلالها إلاَّ بالمُهَدِّئاتِ الَّتِي وصَفَها له الطبيبُ. لوصمَتْتَ ولم تنظر إلى كلِّ ذلكَ نظرة”فشي شكل” لما حصلَ ما حصَل……؟؟
كان حمزةُ يحسُّ بكَمَدٍ، وكان يتوقَّعُ أن يكون السُّقوطُ مُدَوياً. لقد حاولَ نِسْيانَ ذلك التَّكَهُّنَ ولم يُفلِحْ.كان يتمتَّعُ بِبَصيرةٍ فذَّةٍ، ولأولِ مرَّةٍ تخونهُ كما خانَهُ الجميع، ليُعيدَ ترتيبَ أوراقهِ من جديدٍ…
يقفُ الآنَ أمام المرآةِ داخلَ المرحاضِ في الدورالثاني من الشركةِ، منذُ مدَّةٍ طويلةٍ لم يتأمل وجهَهُ بهذا الشَّكْلِ، ينظرُ إليهِ ويبتسمُ، يقول في نفسهِ،لم أكُنْ أَدْرِي،كم أنا أحبُّكَ،كَمْ أنا أحِبُّ الحياةَ، لايُحِبُّ الحياةَ من يَكْرهُ نَفسَهُ، في هذه المرآةِ شيءٌ يشبهُني، فيها شيءٌ من الرِّجَالِ، لاأستطيعُ وَضْعَ أصبعي عليهِ، كم هي قويةٌ هذه المرآة، مجرد أن تكون حيا… يا للعُقوقِ، أنت ذوشأنٍ ولا تَدْرِي…! مُجَرد أن تكون حَيا هو كلُّ الفرحِ، تلك هي النِّعْمَةُ والسَّعادَةُ، وهاهم يحاوِلُونَ وَأْدَهَـا…!
لحمزة عينانِ عسليتانِ واسِعَتانِ تَبلُغانِ النَّاظِرَ إليها فيُخَيَّلُ إليكَ مثلاً أنهُ أطولَ بقليلٍ مما هو عليه بالفعل، ارْتَبَطَ بنجاحِ ذاتهِ. يتصورهُ الآنَ….، كما أن حركةَ جسَدِهِ المُقَنَّنَة لشدَّةِ خَجلهِ المقمُوعِ ربما تُعْطِي شيئاً منَ النُّضْجِ والحكمةِ…يعرفُ الآنَ أنَّ مَنْ يعيشُ وسَطَ الغابةِ لايرى إلاَّعَدداً مَحدوداً من أشجارها فقط، ولايرى الغابةَ كلها، أوكمن يغرقُ في همومهِ اليوميةِ، ها هو يتقَوَّى بمزيدٍ من الإيمانِ بقضاءِ الله وقَدره، ثم الرضى والصبر الذي أخذَ يتسلَّحُ بهما في كل أمورهِ، فما أصابه ما كان ليخطأه، هوالذي كان قبل ذلك يصب جامَّ غضبهِ على ذاتهِ دون هوادةٍ أورحمةٍ، ثم على من حولهِ، ثم تمرُّ بهِ لحظاتٍ يشعرُ فيها بالكُرْهِ والسَّخطِ على الإنسانيةِ، وعلى الفَور يُحسُّ بالذَّنْبِ…كأنه المُذنِبُ في كلِّ شيء، لايعرف ما به، أوما الذي أصابَهُ! حالات من الإحباطِ واليأسِ التي لايجد لها معنىً…في زمن اللامعنى، فقد كان يواجه بتلقائية، لايُجاملُ أحداً، عفويا لأبعدِ الحدودِ، أوقُلْ لايخافُ في اللهِ لومَةَ لائمٍ، ولذلك وفي نهايةِ المطافِ يتحمَّلُ تَبِعاتِ كُلِّ ذلكَ…يتساءلُ كثيراً،كمن يَهدي، ماهذا الحِقْدُ والكُرْهُ الَّذي يَسْكُنُ الإنسانَ؟ وما هذا الخداعُ والقِناعُ الَّذي يتَشَكَّلُ في صورةِ إنسان؟
سداجة أن يغفل أو أن يتغافل الإنسانُ ويعتقد بدوامِ واستمراريةِ الأشياء …؟ والخُلودُ سداجةٌ عظيمةٌ تسِمُ الحياةَ البشريةَ كلها..خداع وأي خداع، تساءل ـ ما العمل، وكيف العيشُ لاحقاً..؟؟
وهل كان ثمةَ معنىً فيمَا عاشَهُ سابقا؟ وهل يمكنُ للإنسانِ أن يَعِيشَ بكرامة؟ هذا هو السُّؤال! الأسئلةُ تفتحُ لهُ أبواباً لاَ يعْرِفُها، من لاَيَسأل لاَيَحْيا…! أحياناً يُحِسُّ بالعَجْزِ عن الفهم، تَغْزوهُ أَيامٌ مختلفة مُسرعةُ، لاَ الفرحُ فرح ولاالحزن حزن، ولا الزمان زمان ولاَ العواطف عواطف، وكأن الثقةَ ضاعت..! فمن هو بَعْدُ؟ وماذا بَعْد؟ لايحس بشيءٍ، يعيشُ الحزنَ ويصبرُ عليهِ، ويحذَرُ الفرحَ ولايأمنُهُ، صار متأقلماً مع أيِّ حال، مردِّداً: ما الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرُور، وفي النِّهايةِ الجَوْهَرُ هو الأصلُ، وها هيَ الأحداثُ تعودُ من جديدٍ تكادُ تتكرَّرُ بالصورة نفسها،كما لو أن التاريخَ يعيدُ نفسَهُ…حالةٌ شبيهةٌ…كما الامتحاناتُ الدراسيةُ حيث نتجاوز عثراتنا، حقيقة يدرس الإنسان ثم يمتحن، لكن في الحياةِ فإنه يمتحَنُ ثم يصلُ إلى استخلاصِ الدُّروسِ والعِبر…
لذلك ففي هذه المرة سيكون التحكم بشكل أفضل، فليس له ما يخسره، إجتماعات تِـلْوَ أخرى بلا طائلٍ، ولقد ألِفَ ذلك، ولم يَعُدْ يهم، في هذا الإجتماع، قرَّرَ أن يضعَ قطنا في أذنيه، لَيْتَهُ يحظى ببعضِ الهُدوءِ والسُّكُونِ، لكن كأن الصدى يخترقهُما، أصواتٌ تنسابُ، تملأ الجنباتِ تتسلَّلُ إلى سمعهِ،كحُلْمٍ يَسْري كالخَدَرِ في أَوْصَالِه يستوقِفُها فتَنْفَلِتُ، فهل سيكون آخرَ إجتماعٍ يحضُرُه؟ هو الَّذي أعَدَّ استقالتَهُ منذُ شهرينِ، حتى يقدمها في الوقتِ المناسِبِ.
أقبل مع الذين توجَّهُوا نحو القاعةِ واحداً واحداً، فلا يرى إلا معالمَ الحزْنِ والألمِ والإعياءِ، ففي الداخلِ تجمَّعَت وفودٌ من النساءِ والرجالِ وكأنهم مستعدُّونَ منْذُ أيامٍ لهذا الحفلِ أو الإجتماع،كانت القاعةُ تغرقُ في شُعاعِ الأضواءِ والضَّجيجِ، قبل أن تضُجَّ بالتَّصْفيقِ، الروائحُ الزكيةُ والضَّحِكُ، والملابسُ والألوانُ، أما هو فيبدو أنَّهُ لم يتصالحْ مـع ذاتهِ، ولم يتكَيَّفْ مع واقعهِ الجديدِ، خيالاتهُ السُّودُ تَدورُ في رأسِهِ مثل الطَّواحينِ والتي لاترحم، الروتين هو الروتين، والمللُ يتسَلَّلُ مثل السُّمِّ الزُّعافِ….
فقد مَلَّ من الأحاديثِ التَّافِهَةِ، أصبحت سخيفة جداً ومُبتذلة منذُ أمدٍ، والمراوغةُ تُخَبّئ ما لم يَكُنْ في الحسْبَان.
هاهُمْ يُقْبِلُونَ نحو القاعةِ واحداً واحداً، فلا يرى إلاَّ معالمَ الحزن والألم والإعياء، يكاد لا يصدق هذا الذي يرى، هذا هو”نائب المدير”أين مرحه وضحكته المجلجلة التي رآها في أول لقاء؟ هوذا منكَّس الرأس في استكانةٍ مُريعَةٍ…هو الَّذي كان حضورهُ يُضْفي على المكانِ حيويةً وهَيْبةً، يبدو الآن مُنْكَسِراً مُنْهَزماً…كما تَلُوحُ نُتفٌ من وجوهٍ عتيقةٍ عاريةٍ من شُخوصِها…ثُم يلوحُ وجه”خالد”الجريء، وتذكَّرَ أن ليسَ ثمَّةَ علاقة البَتَة، الصراعُ سيِّدُ الموقفِ، شأنهُ شأنَ الآخرينَ…كان مُشاكساً جيداً فحسب…يدورُ في حلقةٍ مُفْرَغةٍ، سَخِرَ منهُم، تدخَّلَ بصلابةٍ،كما لو أنَّهُ في حلبةِ مُصارَعةٍ، غرسَ في حُلوقهم وحَناجِرهِم أشواكاً، فانتفضُوا في وجههِ، واستمَرَّ في مُواجَهَتهِم قائلا:”سيأتي اليوم الَّذي تَزولُ الغِشاوَةُ”، في هذه الأثناء تدخل رئيس المصلحة”عصام”الذي لم يحَرِّكْ قسمة واحدة من قسماتِ وجهه الفَظِّ، وراحَ يُنَقِّبُ بأصابعهِ المتينةِ شاربَهُ، وأخذَ يتكلَّمُ بنَبْرةٍ مُنْخَفضَةٍ…، وكان البعضُ يُصيخُ السَّمْعَ مُتَظاهراً بالإستماعِ لما يقولُ، أما البعضُ الآخرُ فكان يُلْقي بنظراتٍ ساخِرةٍ، مُردِّدِينَ ومُعلِّقينَ بأصواتٍ مختلفةٍ مُتبايِنَهٍ قُوة وضعفاً، عُلوّاً وخفوتاً، ثم تنحنَحَ”مصطفى”محرِّكاً يَديْهِ في انفعالٍ، قطفَ ورقةً صغيرةً وجعلها كَوَرْدَةٍ ثم راحَ ينزعُ عنها وُرَيْقاتها، كما كان يفعَلُ في ماضياتِ أيامهِ كَكَشْفٍ للحَظِّ، حتى أنْهَى آخِرَ وُرَيْقَةٍ من الوردةِ وتكشَّفَ عن حسنِ الطَّالعِ، وأردفَ قائلاً:- هذه الوردةُ بمسارِ إيحائها، أجابَتْ بنعم لهذا اللِّقاء.
فجأةً تدخَّلَ المدير العامُّ مبتسماً بسخريةٍ، محاولاً تهدئةَ الوضعِ الذي خرج عن السيطرةِ واللياقَةِ، رفعَ عيْنَيهِ، تكلَّم كثيراً بلا معنى، يُزبِدُ ويُرعِدُ ويَغْلي كغابةٍ مليئةٍ بالزَّرازيرِ، وكأنَّهُ يتتبَّعُ بصعوبةٍ فكرةً ملحاحة تريدُ أَنْ تنزلِقَ من ذهنهِ العصِيِّ، ثم تكلَّمَ بلسانٍ مُنعقدٍ ثقيلٍ وهو يلهثُ كما لوأنه قطعَ مسافةً طويلةً عَدْواً، وكما لو أمهلوهُ حتى استيقنوا تماماً من فشلهِ فعيَّنوهُ مديراً، يحضرُ ببدلةٍ جديدةٍ وبربطةِ عُنقٍ مخَطَّطَةٍ ومنقَّطَةٍ مُدلاة أسفل الطَّاولةِ أمامهُ مثلَ لسانِهِ، مشيراً إلى أن الإحصاءَ الذي وردَ في التَّقريرَ الماليَ يُغري بالدقَّةِ والعِلميةِ ولاعلميةَ له، وأنَّ الفائضَ من الأموالِ يجبُ الإحتفاظُ به حتى يجدَ طريقاً، بدلَ توزيعهِ على الموظفين لتشجيعهم والرَّفْعِ من معنوياتهم…، مُعقِّباً كذلك على مندوب الماليةِ، هذا الأخير سردَ تقريرهُ بشرودٍ عابسٍ قبلَ قليل، وقد ألقاهُ بجدِّيةٍ مُصْطَنَعَةٍ مُرهفةٍ مثلما استماعُهم إليْهِ، وكأنَّ الجميعَ يَهذي هَذيانَ المختلِّينَ، بدَا المُديرُ العامُّ كذلك مُقتنعاً بجنوحهِ الرَّاسخِ، وهو على ما يبدو متَّفقٍ وغير مُتفقٍ مع استنتاجاتِ ذهنهِ المحمُومِ، أمامَ اندهاشِ واستغرابِ بعضِ المنْدُوبينَ والممثلينَ وأعضاء المجلسِ لشركاتٍ تابعـةٍ، سمعت كلماتهم المتناثرة،كما لو أنهم ينثُرونَ الأشواكَ على تدخلاتِ المدير العام،”هذا غيرمعقول، هه! الرويبضة، المسخوط، الزنديق…إنه يتفوه بأشياء مبتذلة..
ثم تقدم أحد الأعوانِ بصينية الشايِ والقهوةِ والمشروبات وبعض الحلوى، فسحبَ كل واحد ماشاء، وراح حمزةُ يتجرَّعُ من الفنجانِ جرعة جرعة حيث لاَسُكَّر، فقد إستأنسَ مُتْعَةَ قهوتهِ السَّوداءَ”قطرانه” الذي يَشي بمرارةِ هذا اللقاء، في حين فإن الأعضاء: سامح الشريف ونادية”كانا يتبادلان النظرات ويرتشفان في صمتٍ كؤوسَ الغَزلِ، وكأنهما يحنُوانِ على بُرْعُمٍ غَضٍّ يتكوَّنُ في صمتِ الأعماقِ، وعلى رعشاتٍ بِكْرٍ ذات غُموض لذيذٍ، فجأةً تعالتِ الأصواتُ مرَّةً أُخْرى لكن كانت أكثر حدة من السابقِ، واشتعلَ الغيظُ واللَّغَطُ والسّخطُ والفراغُ، أصواتٌ جوفاءَ تطيرُ مثْلَ الدُّخَّانِ في الهواءِ وبلامعنى، شقشقاتٌ وجعجعاتٌ ولا طَحين…! تقوقعَ كل شيء إلى هذه اللحظة، في القاعةِ كما المِنَصَّة،كما تَقوقعَ حمزةُ هو الآخرُ على ذاتهِ، وبمزيدٍ من اللَّعناتِ! لم يكن يلتفتُ إلى الوراءِ كثيراً،كان بعضُ أصدقائهِ في غير ما مرَّةٍ ينصَحونَهُ أنِ ارحَمْ نَفْسَك….!
تدخَّلَ مسؤولٌ آخر عن هيأةِ المجلسِ مُعقِّباً وهو يخلَعُ سترتَه بعنفٍ، وبعد أن فَكَّ أزرارها، ومسحَ بالمنديلِ المضْمُومِ بيدهِ على جبهتهِ العريضةِ،لم يَرد أحدٌ عليهِ، ثم حلَّ عُقدةَ ربطةِ عُنُقهِ متأففاً، ليسألَ أسئلة غبية!وعقَّب ـ عَملُكُم عملَ سُلحفاةٍ وليس عملَ آلات، والأمْرُ يتطلَّبُ السُّرعةَ لإنجاز المهام، لأن الوقت من ذهب، وأطنبَ طويلاً ولم يصمت، حتى تدخل رجلٌ مُسِنٌّ بشَيْطَنةٍ ومَكْرٍ يمدُّ لسانَهُ شامتاً وبابتسامتهِ الذئبيةِ، وبتوَدُّدٍ عريضٍ،كمن يدعو إلى السلامِ…التي بذَّلَتْ مظهرَهُ قبلَ قليلٍ، وفكر:أين حقيقته؟
وإذا به يقول:ـ رُوَيْدَكُم! إنها مهزلةٌ تبعثُ في النفسِ أشدَّ حالاتِ الغيظِ والقهرِ، ثم حدَّقَتْ إليهِ أخرى مقطِّبَةً وهمَّتْ بأنْ تتكلَّمَ، لكن داهمتها نوبةُ سُعالٍ حادٍّ لم تتخَلَّصْ منها، حتى أخذتِ الكلمةُ أُخْرَى بيضاء بشعرٍ أشقرَ تقرأُ من خلالِ ورقةٍ تمسِكُها بيدِها اليُمنى ضاغِطَةً على الحروفِ بنبرةٍ لثغاءَ مُترَدِّدةٍ، بوجهٍ خمريٍّ وابتسامةٍ خاليةٍ من الحياةٍ، تعبير العينين الغائرتين، والسُّحْنةِ المنْقَبضَةِ، الصوتُ الخافتُ المتَقَطِّعُ، والأصابعُ على النظارةِ لتمنَعَها منَ السُّقوطِ…، كانتِ الكلماتُ تتكرَّرُ أوتَرِّنُّ كقطراتِ ماءٍ على آنيةِ نحاسيةٍ، تحذلِقُ وتبحلقُ في الجميع، ثم تدخَّلَ أحدُ المتملِّقينَ برأسٍ كبيرٍ وأنْفٍ مُتَوَّرِّمٍ، يبدو كمهرج، يتصنَّعُ الحياءَ والحرَجَ ويفتقِدُ اللياقةَ والأدبَ…، محاولاً العبثَ بالجميع، يتلفِتُ إلى كل الإتجاهات، معجباً بنفسهِ، وكأنه يلقي نُكتةً ساخرةً، يريدُ إسعادَ الجميع، في هذا الصباح المشمس، والهواءُ المائلُ للبرودة، ثم بدأ الكُلُّ يقهقهُ كالخنازيرِ أوالنِّعَاجِ الجَرْبَاء أوكالكلابِ الضَّالَّةِ….
ومن آخر القاعةِ جاء صوتٌ بعيدٌ ليتدخل دون إذنٍ سابقٍ، صوتٌ جَهْوَريٌّ ضخمٌ مُجلجلٌ، حانقٌ على الأفكارِ السَّابقَةِ، ولم يُضِفْ شيئاً، وإذا بسيدةٍ طاعنةٍ في السن بخصلات شعرٍ أبيضَ تتدخَّلُ بصرامةٍ، حالةٌ شبيهةٌ من القلقِ واليأسِ تستأنفُ مسيرتها وكأنَّ شيئاً لم يكن، منذُ أسبوعٍ وهي تهيئ، وتعد نفسَها لهذا اللقاء، خطَّطتْ لكلِّ شيءٍ، حفظت عن ظهرِ قلبٍ كل كلمة ستجودُ بها، وطريقة لفظِها، وردود أفعالها، وكيف تُواجهُ، ومتى تصمُتُ، كانت أمامها فتاة في عقدها الثالثِ تدخل هي الأخرى مباشرةً بغُنْجٍ ودلالٍ، تدَلَّلتْ طويلاً، وهي تلتفِتُ في كلِّ الإتجاهات هِيَ الأُخْرَى وتقولُ:ـ كيف يمكن تفسير هذا الدَّوَرَان الملح الساكن إن صح التعبير؟ ها كلُّ شيءٍ أصبح مبرراً الآنَ…! وإذا بتدَخُّلٍ آخر تدخَّلَ بنبرةٍ مُجامَلَةٍ جارحةٍ…أخذَ الكلامَ طويلاً بلا معنى على نحوٍ غَيرِ واضحٍ، ولم يُضفْ شيئاً، جعل البعضَ يضعُ رأسَهُ بينَ يديهِ، وكانت ثرثرتُهُ سمجةٌ ثقيلةٌ، ينبسِطُ وينقَبِضُ، وكأنَّهُ سيغيِّرُ الكَوْنَ والإنسانيةَ، فجأةً قاطعَهُ وجهٌ ضخمٌ بشاربٍ كثيفٍ شديدِ السَّوادِ وبنظارةٍ فوقَ الرأسِ، ناسِجاً ومطرِّزاً تدخُّلَهُ متصنِّعاً حالةً منَ الغَضَبِ وعدمِ الرِّضَى، وكأنَّه يضعُ أُصْبُعَهُ أخيراً على مكامنِ الخللِ، وكان على حق، ذلك أنَّ المرء عندما يفكر، يصبح كل شيء غاية في الوضوحِ والبساطةِ، ثم وكأنَّهُ يهمِسُ بكلماتٍ عَلِقَتْ في حُنْجُرَتِهِ…ولم تَدَعْهُ يتكلَّم، ومرَّةً أخرى يرجح ويفيضُ ثرثرةً فارغةً…وكأنَّه يمتلك العلمَ والمعرفةَ من ألفِها إلى يائها…أوكأنَّه سَيُغَيِّرُ العالمَ هو الآخر…!
استمر اللقاء حتى تجاوزَ الوقتَ المحدَّدَ بساعة وأكثر، واتَّسَعَتْ دائرةُ الخِلافِ وَالأسئلةِ التي تشابكتْ وبدونِ طائلٍ، وحتما ستعقُبُها لقاءات لامتناهية…بل حتى التوصياتُ السَّابِقةُ لم تتحقَّق ولم تُفعَّلْ كعادَتها، وستُوكَلُ المهمات للجانٍ فرعيةٍ جديدةٍ، ستتمخَّضُ في المستقبلِ القريبِ والبعيدِ، وها نحنُ مِنَ المنْتَظِرينَ، المصادَفاتُ نفسُها، ولعَلَّها هيَ نفسُها المفارَقاتُ أيضاً، وها كلُّ شيءٍ يسقطُ مجدَّداً في مَتاهَةٍ بلاَحدود، لاَمخرجَ منها، فلا نعرفُ مَن نُصدِّق ولا بِمَنْ نَثِق؟ وحقيقة ما نحن نجتمعُ عليهِ هنا…؟ بل وماذا نفعلُ أصلاً الآن؟ عَقَّبَ أحدُهم في هذا الوقتِ بالذَّات…
وسرعان ما وقفَ صاحِبُنا مغادراً، وكأنه يريدُ أن يَنْسَلَّ بهدوءٍ كالحكيمِ،كما لو أن خطابه الداخلي طافح بالسخط والحنق، أوكمن سلبوه كل ما يملك وبقيت له كرامته، أوكمن أبْحَرَ وغَاصَ في أعماقِ الأعماقِ، وخاطره سائحٌ جائلٌ بالمعاني العظام، كمن حلَّ لُغْزاً أوامتلك كَنْزاً، وها هو يصفق في داخله على نفسه، وبابتسامةٍ عريضةٍ حزينةٍ،لم يُحيِّينا، إلى أن غادرَ نحوَ البابِ الخَشَبيِّ الضَّخْمِ للقاعةِ، والحارسانِ الأمْنِيَّانِ يَنْظُرانِ إليه بازدراء، وهو ينظرُ إلى الأرضِ، إلى أن وصلَ إلى الباب ثم استدارَ، ورُبما هَمْهَمَ وقال إلى اللقاء، “فريد” الذي كان جالساً إلى جواره،كأنَّهُ الشخصُ الوحيدُ الذي استمعَ إلى خطابِه السريِّ، الَّذي كان قد انتزعَ كلماتهِ من فمهِ بطريقةٍ ما، فقد رأى بعض حركات يديه ترتعشُ في انفعالٍ لا إرادي أثناء اللقاء، وقد كان يريدُ الإمساكَ بيدهِ ليقول له:إجلس، فما زال الوقتُ مُبَكِّراً، رُوَيْدَكَ، ماهذا؟ إنَّكَ تبعَثُ في النَّفْسِ أشدَّ حالاتِ الغيْظِ والكُرْه والقَهْرِ، هذه هي المأساة المتربِّصَةُ بنا، وما علينا إلا أن نتسلَّحَ بالصَّبرِ والمجامَلةِ وشيءٍ من النِّفاقِ الإجتماعيِّ…!
أولئك الذين يرجفون بأنهم سوف يضمنون لأنفسهم النجاة إذا ما خرجوا اليوم ليعودوا غداً، هاهُم حتى في وقْتٍ متأَخِّرٍ، حين وقَفُوا، وبدأوا يُبْعِدُونَ الكراسي ويَنْهَضُونَ من وراء، صَوْبَ المدْخَلِ للخروجِ، لم يوقف أحَدُهُم التعليقات والإيماءات والتحايا والنِّفاق والمجاملات والسَّلام…!
في يومٍ آخرَ، وقبل أيِّ اجتماعٍ جديدٍ، بدَا عازماً من غيرِ صمتٍ أوسخط أوتدمر أوغمغمات أوسخط، وبقلبٍ مضيء مليءٍ بالرِّضَى غـير متخلِّفٍ عن موعِدِهِ، غير مبالٍ، يجرؤُ مثلما عصفورٍ على بناءِ عُشِّهِ، وبشكلٍ مختلفٍ من خلالٍ مشروعٍ ذاتيٍّ، وسرعانَ ما غمرته صلابةٌ رُوحِيةٌ إيمانيةٌ قـويةٌ، وبدونِ أن يتزَحْزَحَ عن قرارهِ، وبلا تمهُّلٍ في الحسمِ، وبلا تردُّدٍ أوتأخُّرٍ، يُقَدِّمُ رِجْلاً وبلاَ تَأخيرِ الأُخْرى، عازماً كلَّ العزمِ، ولم يتسَنَّى له، ليصدِّقَ نفسهُ حينَ انغلقَ بابُ المصعَدِ، فوجدَ أمامَهُ المدير العام الذي بادرهُ برعونةٍ، وبلا رحْمَةٍ بقوله: لقد تأخرتَ كثيراً، بَيْدَ أنَّ خسارَتَكَ لا تثيرُ حُزْني، “فْهَمْتَكْ، الآن فْهَمْتَكْ…”
هو الآخرُ وَدُونَ أن يتمالكَ نفسَهُ، إذا بهِ يُقاطِعُهُ وبلا أيةِ كلمةٍ…يلَوِّحُ لَه الآنَ باستقالته..!