رغم إيماني أن النهر للمنبعِ لا يَعود وأنه في غربته يكتسحُ الفيافي والقِفار ويخترق الجبال ويحطم السدود … إلاّ أنني أدرك أن للزمان دورته التي ربما تكون أشدُ وطأةً مِنْ ” فَرَّة الهِندر” والتأريخ خيرُ شاهدٍ ودليل ففي رحلة النزوح عن الموصل الحدباء التي بدأت في فجر العاشر من حزيران (2014م) وأستمرت حتى كتابة هذه الأسطر إستذكرت الأهوال التي عصفت بالعالم أجمع إبان الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين منذ( 1914م – 1918م) وما تلاها من تداعياتٍ وكوارث خاصةً وأنا أقرأ أن حصيلة الخسائر البشرية في اليوم الواحد لأطراف الصراع أربعين وثمانين ومائة ألف إنسان أو أضعافٌ مضاعفةٌ لهذا الرقم المرعب المهول وأنا أتسائل هل ستكون الموصل مثل كرة الثلج التي تجتاح ما يليها ومثل أحجار الدومينو التي تُسقِط ما يليها في تتابع الإنهيارات المتلاطمة دون أن تبقي حجراً على حجر …!!!
لم تَكُ زُمّار بمعزل عن الأمر في بداية القرن العشرين إلاّ أنها كانت أماناً للخائفين وملاذاً للهاربين من بطش الموت والفارّين من بين فَكَّيْ رحاه على شتى مشاربهم وإختلاف أجناسهم وقومياتهم وأديانهم وأعراقهم فلا زُمّارَ ولا أهلها سألوا الوافدَ إليها عن دينه أو معتقده ولا عن طائفته وعِرقه بل كانت كما الأم الرؤوم التي ترقأ الدمعة وتكفكفها وتُربِت على الأكتاف وتمسح الرؤوس وتضَمّدُ الجراح لتستبدل الخوف أماناً والهلعَ طُمأنينة .
في خَضِّم هاتيك الأهوال إمتطى ” محمد الحمود الحويدر” صهوة جواده ودار في خَلَدهِ أن يظفرَ بصبيةٍ أرمنيةٍ خضراء أو زرقاء العينين ذهبية الشعر ذات بشرةٍ تطفح بحُمرة الخدود الربانية عساه أن يتخذها خليلةً أو زوجةً يهيم بسحرِ عينيها يداعب خصلات شعرها يغفو بين أذرعها لعله يُحَسَّن النسل فقد سأمت نفسه من كُلِ ” أجلحٍ وأملح” سال لعابه وهو يتذوق حلاوة أحلام اليقظة التي مَنَّى النفس بها ، تلاشت الأصوات سوى ضربات قلبه الولهان وهي تتناغمُ مع سنابك فرسه التي تضرب الأرض بحوافرها في صولته صوب المثلث العراقي التركي السوري … على حينِ غرة وقف فرسهُ العربي الأصيل على قوائمه الخلفية “أقدامه” وهو يصهل إثر رؤيته لهذه المهرة المُدللة التي تعدو في رهبةٍ بعد غادر أيامها تبختر الغنج الذي لم يُدرك كُنهَهُ محمد الحمود الغارق في أحلامه التي قطعها عليه صهيل جواده … رباه إنها أميرة أحلامه بل هي الأجمل … إنها البدرُ ليلةَ إكتماله … أي إشراقةٍ لهذا الوجه الملائكي النوراني والشعر الأصفر الذهبي يغطي الأكتاف وينسابُ ملامساً ظهر المهرةِ الأصيلة … ماذا عساه أن يفعل لئلا تَفِرَّ من بين يديه تقدم صوبها بخطى وئيدةٍ ليُبصرَ بأمِ عينيه أن هذه الشابة الأرمنية الهاربة من لظى الموت تحمل على ظهر مهرتها طفلين رضيعين “ولدٌ وفتاة” سبحان الله الذي صَوّر فأبدع .
أيقفز من ظهرِ جواده ليختطف الأم الشابة الأرمنية أم يختطف أحد طفليها الولد الرضيع أم يختطف الطفلة الرضيعة التي كأني بها فِلقة قَمر ؛ أم تُراه يخطف كِلا الطفلين ليُجبر الأم الأرمنية على القدوم معه وأن تَحِلَ في رحاله … عصفت هذه الأفكار برأسه لكنه لم يتسنى له التفكير أن الشابة الأم التي تبدو على محياها الأنفة والوقار هي من سيبادر بالهجوم عليه كما القطة التي تدافع بكل ما أوتيت مِنْ عزمٍ عَنْ أولادها … حاول محمد الحمود مساومتها وهو يهددها إما أن يخطفها وإن عجز عن ذلك سيخطف أطفالها الرُضَّع وقد وضع نُصب عينيه أنه في حال خطفه الأطفال سينفطر قلب الأم وتتبع فلذات كَبِدِها وبهذا سيحصل على المرأة وعيالها … حاول جاهداً أن يأخذ منها أحد أطفالها لكنه أخفق في ذلك إزاء المقاومة التي حَتَّمَتْها غريزة الأمومة المتنمرة والمستأسدة … لكن شِدَة الجوع والإرهاق والخوف من تتبع الأتراك لها كان له القول الفصل في حسم الموقف ، فقالت والدموع تتجارى من عينيها وبصوتٍ تخنقه العبرات وبلغةٍ عربية ركيكة “ضعيفةٍ” قالت :
عرب أخذوا “إشنوف” خلي يعيش أحسن ما يقتلوا عُصْمَلِي “عثمانيين الأتراك” … ؟؟؟ !!!
يقول محمد الحمود ترجلت عن جوادي الذي طأطأ رأسه من هول الموقف فكيف لأم أن تهب إبنتها لرجلٍ عربي لا تعرف عنه أي شيء بل رأته في صورة قاطع طريق ربما لكن لم يكن أمامها أي خيار إما الموت خوفاً وجوعاً وقتلاً أو أن تُسَلِّمْ هذا العربي إبنتها لربما هناك بارقة أمل أبصرتها بحكم أمومتها في عينيه … يقول إبن زُمّار العربي محمد الحمود :
أخذتها أي “الطفلة الأرمنية إشنوف” وفي رقبتها قلادة ” الصليب” وهي تبكي بعينيها الزرقاوين كزرقة السماء الصافية تبكي بلا هوادة رغم طبع القبلات على خدودها البيضاء الطرية لكن دون جدوى فالطفل الجائِعُ لا تسكته القُبَلْ ، إشنوف تبكي جوعاً ووجداً على فراق الأم والأهل والديار … يقول محمد الحمود :
حاولت إرجاعها وإعادتها إلى أمها بعد أن صُعِقتُ لأن الأم أعطتني أبنتها ولم تأتي معي أو تلحقَ بإبنتها لتلحق بي … تساءلت في داخلي عن السبب ربما خشية الأم من أن تصبحَ زوجةً لي هو العائق والمانع من أن تلحقنا أو تتبع إثرنا … يواصل محمد الحمود الحديث بقوله :
قَطَعتُ ” قلادة الصليب ” ووضعتها في جيبي ثم سحبتها من على ظهر الفَرَس “مِن الهجْبَة / الخُرُج” الذي يوضع على ظهر الفرس وفيه ما يشبه الجيبين على جانبي ظهر الفَرَس تستخدم لوضع الزاد والمتاع ، وما أن سحبتها وأنا تحت هَوْل الموقف ذهولاً حتى وقعت “إشنوف” أرضاً وفُتِحَت شِفَتها وسالت دماؤها الطاهرة البريئة لتُغَطيْ وجهها ثم تعانق ثرى الأرض وتترك أثراً يؤرخ لهذا الحدث الجلل …
عاد محمد الحمود وبين يديه “إشنوف” الشاهد على ظُلمِ الإنسان لأخيه الإنسان ، عاد إلى بيته في زُمّار وقد عاهد الله أن يُدللها كما لم يُدلل أبٌ إبنته مِن قَبْل ، عاد ليُبلغُ الناس أجمع أن كٌنيته بعد هذا اليوم هي ” أبو إشنوف” ، عاد إلى زمار بعد أن أقسم بالله أن لا يَمضغ لقمةً في فمه قبلَ أن يطعم إبنته شنوف ، وها هو يبر بِقَسَمِهِ حين دخل بيته منادياً : نائلة … يا نائلة
القمي صدرك لإبنتنا شنوف ودعِ عن صدرك إبننا ياسين البالغ من العمر عامٌ وَنِصف ليكونا أخوين من الرضاع فضلاً عن باقي أخوتها وأخواتها من الرضاع الذين نشأت بينها وبينهم أواصر أخوّةٍ ومحبةٍ لم تنفصم عُراها حتى أخر العمر ، لقد أبرَّ الحويدر بقسمه فما كان يضع لقمةً في فمه حتى تأكل الجميلة الرائعة المُدللة وجه الخير ” شبيهة أمها” شنوف ، جديرٌ بالذكر أن هذه الحادثة دارت أحداثها سنة 1914 وقيل في رواية أخرى سنة 1917م ، تتابعت الأعوام فكانت شنوف الأميرة بين الشابات وكثر الشباب ممن يرومون الوصل بجميلة الجميلات شنوف حتى صار القرار أن يتم تزويجها بأحد رجال ” الجندرمة “الشاب الوسيم الثري إبن زمار “محمود العلي العَميري” ليتكلل هذا الزواج الميمون بثمرة طيبة وذرية صالحة مباركة ( فاطمة ، مريم ، ومحمد ) أبناء محمود العلي العَميري الذي وافته المَنيَّة سنة 1981م ، أما الزوجة الثانية لـــ (محمود العلي) فهي عمتنا (يازي) التي كانت تحب محمد وأخواته حُباً جماً .
تزوجت إبنة إشنوف الكبرى السيدة فاطمة من علي الحسن العميري ورزقهم الله بالذرية ” حسين ، حسن ، إبراهيم ، منى وصباح ” وتزوجت السيدة مريم من صلبي الطالب الشويخي ورزقهم الله تعالى بالذرية ” عبدالله ، محمد ، فيصل ، أمينة ، عائشة وسارة وترفة و…. ” تزوج السيد محمد من السيدة ضحية ثم فاطمة ولكونه لم يُرزق بالذرية من زيجاته الإثنتين وهو الولد الوحيد والمدلل فقد تزوج من السيدة شاهة وهي من السادة آل بو سلامة وأعقب منها كلٌ من ” يونس وعلي وبشرى التي شغلت منصب مديرة ثانوية زُمّار للبنات تزوجها الأستاذ خالد ياسر نجيب العبيدي ، يسرى التي تزوجها طه بن الملا محمد الحمّام الشخصية المحورية في تأريخ زمار ، ذكرى التي إقترن بها أحمد المحمود العيسى المحترش ، أماني ، تهاني ومآب ” حفظهم ربي جميعاً ، جديرٌ بالذكر أن العمة خديجة ” شقيقة العم محمد لأبيه” كانت تُسَمي الجدة “شنوف ” بـــ” تشينوفا” وتقول لها بما أن أرمينيا إحدى جمهوريات الإتحاد السوفيتي فإن إسمك هو ” تشينوفا ” أما عمتنا ” أمينة” شقيقة العم “محمد لأبيه” والتي غلب عليها إسم زوجها عمنا “عيّان الضيف وهو شقيق الشيخ سليمان الضيف السبعاوي” حتى شاع إسمها مقترنا بزوجها ” أمينة العيّان” فكانت أختها الصغيرة صبحة وهي طفلةٌ صغيرة بعمر عشرِ سنين تقريباً بِقَصّةِ شعرها “الكلوش” ترافقها في زياراتها لنا تأتي لتوصلها إلينا وأنا مَنْ يبتلي بإيصال عمتي أمينة إلى بيتها الذي يقع في أقصى غرب زُمّار .
مما يُثلج الصدر ويسر الخاطر أن جدتنا شنوف كانت تصوم الأشهر الأربع الحرم ، كثيرة التصَدُق على الفقراء والمساكين بما كانت تملكه من مالٍ خاصةً وأن زوجها “رحمه الله” ترك لها راتباً تقاعدياً تجود به فضلاً عن صدقاتها على مَن تقطعت بهم الأسباب باللبن والدهن الحُر وقد عُرف عنها التعفف وشِدةُ الجَمال ، شديدة البَّر بوالديها وبأخوتها وأخواتها من الرضاع حتى وافاها الأجل عام 1989م “رحمها الله تعالى ومن تبناها ورزقهم الفردوس الأعلى من الجنة” وحفظ ربي ذرياتهم وجعلهم نعم الخلف لذاك السلف .
حفظ الله زُمّار وأهلها
حفظ الله العراق وأهله