19 ديسمبر، 2024 12:45 ص

تسفيتايفا و ماياكوفسكي

تسفيتايفا و ماياكوفسكي

مارينا تسفيتايفا وفلاديمر ماياكوفسكي دخلا – وبكل جدارة واستحقاق – تاريخ الادب الروسي في القرن العشرين بشكل عام , و اصبحا بالذات فصلا متميّزا ( بنكّهة واضحة المعالم )في تاريخ الشعر الروسي ومسيرته بشكل خاص . كلاهما ولدا بالامبراطورية الروسية في تسعينيات القرن التاسع عشر, وكلاهما انهيا حياتهما انتحارا بالقرن العشرين في الاتحاد السوفيتي , ماياكوفسكي انتحر عام 1930 باطلاق النار على نفسه وكان عمره 37 سنة , وتسفيتايفا انتحرت بشنق نفسها عام 1941 بعد عودتها من الغرب وكان عمرها 49 سنة ( هاجرت تسفيتايفا الى اوربا الغربية عام 1922 مع الموجة الكبرى للمثقفين الروس الذين هاجروا من روسيا السوفيتية احتجاجا على ثورة اكتوبر الاشتراكية , وبقيت هناك طوال ذلك الوقت , ولكنها – بالتدريج – اقتنعت بضرورة العودة الى الاتحاد السوفيتي , وعادت فعلا عام 1939 , ولكنها انتحرت بعد سنتين من عودتها).
ماياكوفسكي – كما هو معروف – كان شاعر الثورة الاشتراكية, اما تسفيتايفا فقد رفضت الثورة اصلا, والمقارنة بينهما – للوهلة الاولى – تبيّن طبعا التباين الجوهري لموقفهما من أهم واكبر حدث في تاريخ روسيا آنذاك , فماياكوفسكي يمجّد الثورة البلشفية , و تسفيتايفا ترفضها بشكل واضح وصريح وتهاجر من بلد الثورة احتجاجا , ولكن – مع هذا التناقض الواضح بالموقف من ثورة اكتوبر1917 ونتائجها – توجد بين ماياكوفسكي وتسفيتايفا مع ذلك روابط وعلاقات تستحق التأمّل والدراسة والتحليل, وهي وقائع تناولها الباحثون في تاريخ الادب الروسي الحديث, ونود ان نتحدث عن اهم ملامح هذه الوقائع للقارئ العربي في مقالتنا هذه , اذ اننا نظنّ ان هذه الوقائع غير معروفة بشكل متكامل لهذا القارئ , وربما تساعدنا للوصول الى بعض الاستنتاجات المفيدة بشأن معرفتنا لتاريخ الفكر الروسي الذي غالبا ما نتحدّث عنه – نحن العرب – ونستشهد بوقائعه دون معرفته بعمق , وفي كل الاحوال , فان هذه المعلومات يمكن ان توضّح لنا بعض الجوانب الفكرية في مسيرة حياتنا المتشابكة.
من الوقائع الثابتة والموثّقة ( و الطريفة ايضا ) في تاريخ العلاقات بين تسفيتايفا وماياكوفسكي ما كتبته الشاعرة نفسها عام 1928 , اي بعد ست سنوات من هجرتها الى الغرب . لقد وصل ماياكوفسكي الى باريس في تلك السنة , وكانت تسفيتايفا هناك , ونشرت في جريدة روسية كانت تصدر في باريس وهي ( يفرآسيا ) ( اوروآسيا ) بتاريخ تشرين الثاني / نوفمبر كلمة قصيرة بمثابة تحية موجهة لماياكوفسكي , وقد جاء فيها , ان تسفيتايفا التقت ماياكوفسكي في الشارع بموسكو صدفة قبيل رحيلها من روسيا عام 1922 وسألته – ( ماذا تريد يا ماياكوفسكي ان ابلّغ اوربا عنك ؟ ), فقال لها بلّغيها ( ان الحقيقة – هنا ) , وتكتب تسفيتايفا في مقالتها القصيرة تلك لاحقا , انها عندما كانت في مقهى فولتير بباريس عام 1928 , حيث ألقى ماياكوفسكي قصائده , وخرجت لتوّها من المقهى , طرح أحدهم عليها سؤالا , وهو – ( ماذا تقولين عن روسيا بعد قراءآت ماياكوفسكي ؟ ) فأجابت تسفيتايفا رأسا , دون ان تتمعن بالتفكير قائلة – ( ان القوة – هناك ) , اي انها استخدمت – واقعيا – نفس شكل و مضمون جملة ماياكوفسكي, التي ذكرها لها عند اللقاء معها في موسكو .
لم يتقبّل اللاجئون الروس في باريس هذه الكلمة – التحية لماياكوفسكي , التي نشرتها تسفيتايفا , واعتبروها انحيازا للنظام السوفيتي ومواقفه الفكرية , واتخذت الصحيفة قرارا بمنع تسفيتايفا من النشر لاحقا في تلك الصحيفة , وقد كتبت تسفيتايفا رسالة الى ماياكوفسكي بتاريخ 3 / 12 / 1928 حول ذلك , ولازالت هذه الرسالة موجودة في روسيا , وقد تم نشرها . وطلبت تسفيتايفا من ماياكوفسكي في رسالتها تلك , ان يحكي هذه الحوادث لباسترناك وللآخرين عند عودته الى روسيا السوفيتية , وتختتم تسفيتايفا رسالتها الى ماياكوفسكي بالقول – (اني احبكم) . هذه الرسالة تبيّن بوضوح ودقّة , ان تسفيتايفا لم تكن بعلاقة جيدة مع اللاجئين الروس المحيطين بها , وربما يمكن القول , انها البداية لفكرة العودة الى روسيا , هذه الفكرة التي ستتبلور بالتدريج لديها , وستنفذها فعلا عام 1939 , وهي الخطوة التي ادّت الى نهايتها التراجيدية والانتحار شنقا .
هناك وقائع اخرى في تاريخ العلاقات بين تسفيتايفا وماياكوفسكي , منها مثلا , انها كتبت قصيدتين حوله , الاولى اهدتها له في روسيا عام 1921 , والثانية بعد انتحاره عام 1930 , بل توجد جملة لديها , وجدوها في مسوّدات احدى رسائلها عندما كانت في الغرب , تقول فيها , ان ماياكوفسكي أقرب اليها روحيا من كل الذين يمجّدون العالم القديم , اي روسيا القيصرية .
لا يمكن الاستطراد اكثر في اطار مقالتنا هذه , ولكننا نقول ختاما , ان تمثال ماياكوفسكي و تمثال تسفيتايفا يقفان الان شامخين في موسكو , وتحولت بيوتهما الى متحفين . صحيح , ان تسفيتايفا عادت الى مكانتها متأخرة عن ماياكوفسكي كثيرا , لان الحكّام لم يرغبوا بذلك , ولكن الشعراء أقوى من الحكّام , وهذه هي الحقيقة الخالدة , التي يحاول الحكّام تجاهلها دائما , ويفشلون دائما …