ثريا نص رواية سميحة خريس : (فستق عبيد) فتحت شاشة ً سكوب ملوّن في ذاكرة الفتى الذي كنته : شارع الوطن في البصرة، جوار (سيروان) للقمصان والبنطلونات الرجالية والأربطة : يقف رجل بنحافة ودكنة عود بخور، خلف مبخرة تنطلق من حوض معدني فضي اللون، ملآن فول سوداني من المبخرة : تتهادى متعالية غيمة شهية النكهة فالرجل السوداني يبيع (دك السبال) وهذه تسمية فستق العبيد في مدينتي البصرة، تجاور المبخرة، منارة من مخروطات ورقية، يملأ الرجل السوداني الصموت المخروط ( دك السبال) مقابل عشرة فلوس عراقية ، كان ذلك في أجمل سنوات العراق : بداية سبعينات القرن الماضي. سنجد نسخا من الرجل السوداني الصموت: في شوارع البصرة، وكل هؤلاء السودانيين الطيبين فعلا : لا ينتشرون إلاّ قبيل الغروب
(*)
القراءة المنتجة هي اللقاء الأخير مع النص المقروء قراءة إبداعية : إذن هي مؤلمة كالوداع..
(*)
أجترحُ أجناسية ً جديدة ً لرواية (فستق عبيد) :الرواية المشطورة:
الرواية منضّدة إنشطاريا إلى مكانين : دارفورد والبرتغال.
الرواية مشطورة إلى حكايتين : حكاية كامونقة وحكاية رحمة
الرواية تختض شخوصها بسبب حربين كونيتين
انشطار الحكي بين الجد والسارد النسبي في المكان الأول دارفورد
انشطارات الحكي المتناوب بين الشخوص والسارد النسبي بدءاً
(*)
هل رواية (فستق عبيد) أجابة إبداعية على هذه الأسئلة ؟ :
(هل سيفهمني جدي لو علم أني بت امرأة ناسية ؟/ 95)
(كيف يمكن لرجل أسود أن يجني المال؟)
(كيف لأسود ألا يكون عبداً؟ )
(هاهم، عائلة كبيرة ممتدة من السود ليسوا عبيداً، كيف / 236)
قراءتي لرواياتها تؤكد أن خريس لا تسلك الطريقة المألوفة في الأجابة على الأسئلة
أنها تتوجه روائيا إلى تحليل الأسئلة. وصولا إلى تعديد الهويات القومية والطبقية والثقافية، سميحة خريس تنتمي إلى نفرٌ ضال مشاكس يرى السؤال عن المعنى لا معنى له، وهنا نكون أمام احتمال أن يكون المعنى مرتهنا بمشروطية اللغة وليس الأشياء (اللغة هي المسؤولة بقدر ما يتعلق الأمر بالخلاف الواضح بين المعاني المنسوبة وتلك المتأصلة ../ 107/ تيري إيغلتون/ معنى الحياة )
(*)
مع الصفحة الأولى من الرواية تستقبلنا مفردة أعجمية (كامونقة ) حين نقرأ ص5 وص 6 نعرف أن كامونقه : اسم الجد وهو من الحكائين المهرة (يجود كامونقة بحكايته منذ البدايات: عندما ساقوه إلى زريبة تاجر العبيد وحتى التحق مجاهدا في ثورة المهدية، فتحرر وصار يدعى ،، معتوق،، /6) ما بين القوسين وجيز الوجيز السردي لحياة الجد الذي ستتعدد أسماءه .
(*)
المعتقد الرئيس للجد هو أن ( كل واحد منا مسكون بكائنات خفية تديره وترتب له حياته الوهمية / 6) وما بين القوسين يعني أن الكائن البشري عرضة لكائن غير مرئي يقوم بتدوير سردي للكينونة النصية للإنسان . من جهة ثانية أن الجد لا يكرر سردياته بل يبثها بنسخ دائمة التغيير (يقص معتوق – كامونقة الحكاية مكررة ومزدانة بالزيادات والمتغيرات كأنه يكذب أو يلاعبهم ينسى ويتذكر عامدا..)..هكذا سيكون بحيازة قبيلته أكثر من نسخة لحكايات الجد الذي لا يكتفي بلسانه بل يمسرحها بجسده كله : تنتفخ أوداجه ،يكوّر قبضته، يلتمع وميض الجمر على وجهه.
(*)
كم نسخة من حكي الجد : ستستقر في ذواكر القبيلة، وأي نسخة ستثوي في الذاكرة الجمعية؟ معتوق شفاهياته من شطرين : حكايات حريته وحكايات عبوديته، الحفيدة رحمة: أفضل من يستوعب نظرية الظل وكينونات الجد المخفية، وستكون رحمة جهوية سردية في هذا السياق (تكون الحفيدة فكرتها الخاصة عن الحياة الوهمية في الظل واثقة بتصورها الخفي،فليست أقل من جدها لها عقل وجسد وأفكار وأحلام بوسع الكون/ 7)
(*)
حين يحكي السارد المشارك، الجد كامونقة / معتوق لرجال القبيلة ونسائها، يندس القارىء مصغيا، وحين يتوقف لرشف الشاي سينوب عن الجد في السرد، ذلك السارد النسبي، معلنا
(يقطع كامو نقة حكايته حين يصل إلى الذكرى الأعذب، يتلمظ بشفتيه الغليظتين مرتشفاً الشاي ، كأن الشعور الماتع يعاوده فيرده شاباً ويكمل / 16) نلاحظ أن السارد يومض ويختفي، هنا وظيفته تخليص فعل القراءة من الاسترخاء .لكن في ص21 يرّكز السارد النسبي على الحالة النفسية للجد، حين يقع نظره على الصبية الواقفة على منصة البيع (لا يجد كامونقة تفسيرا ً للوثة التي حبست أنفاسه وأطارت لبه، سوى أنها بنظرة واحدة وبلا كلمات كشفت له إنها نصفه الضائع، وضلعه المكسور الناقص في صدره، توأم نفسه وشقيقة روحه ..) بلاغة العين أصدق من ثقافة اللسان اللغة هي أكثر ما تكون صمتاً، واللغة هي انقطاع في استمرارية الصمت../ 38/ ماكس بيكارد )..
(*)
يتجاوز السارد النسبي حالة الظهور والغياب، ليعمل مؤرخا بإيجاز للثورة المهدية المغدورة في السودان والتي تحدت بريطانيا العظمى في 1882، تتداعى قراءتي نحو ثورة أحمد عرابي التي اشتعلت في السنة نفسها* ونفذّت بريطانيا تمدنها في الثورتين !! قصف المدنيين وشنق أبطال الثورتين ونفي مَن تبقى منهم إلى جزيرة سرنديب .. ومن جراء الحربين الكونيتين، يتنامى الوعي التحرري لدى الفلاحين الفقراء وتتقهقر البرجوازية الريفية في البرتغال وبشهادة ابنها سانشو سليل الاقطاع : إلى بقايا برجوازية متقهقرة في ظلال الأخطاء الكبيرة/ 256
(*)
عنوان الرواية (فستق عبيد) مكتنز بشحنات محتدمة،تغوي القارىء النوعي وفي صفحة معينة من الرواية، تصنع المؤلفة سميحة خريس مفتاحا وتهبه للجد الذي وصل في 1900 إلى قبيلته مكسورا مهزوما مثل الثورة المهدية، وحتى يثأر لنفسه ولعائلته سيقوم بزراعة الفول السوداني فقط ؟ ويجيبنا الجد عن هذه الفقط قائلا( كان الجلابة وقطاع الطرق يقتنصون الصغار الجوعى عارضين عليهم ملء أكفهم حفنات من الفول، مستغلين جوعهم وهم يختبؤن وراء الاشجار، مادين أكفهم لطفل جائع.. هكذا اختطفوا السذج في الماضي، وأنا أردت تحصين أولادي من غواية الفول الذي يسمونه في أماكن كثيرة فستق عبيد،إنه الفستق الذي يمكن أن يوقعك في العبودية،قلت لنفسي أزرعه،فيشبع الاولاد ولا يذهبون إلى العبودية بأقدامهم..) من هذه المنصة المفتاحية تتكشف الشحنة الأيديولوجية المضادة للعنونة. بعد ثلاث صفحات ينتهي دور الجد وحكايته، وتنقلنا المؤلفة سميحة خريس إلى بداية جديدة وحكاية جديدة هي حكاية رفمة أو رحمة أو ما تشاء من الاسماء بدءاً من ص72 حتى ص277 وكأن السبعين الصفحة من الرواية بمثابة عتبة نصية روائية موجوعة وفكهة للرواية التي تنسجها رحمة بحضورها المشع حتى الصفحة الأخيرة
(*)
مع ص 274ستقوم ابنة رحمة بتجميع سرود الرواية من عطن الحياة إلى قسوة الأمل، وتحتمي بصوت أمها القادم من كهف بعيد، وتمعس السرود بقدميها كما تمعس النسوة العنب ليصير نبيذا.. وهي في طريقها من منافي الذل إلى حرية الفقر في دار فور .
(*)
ما أن تنشرُ هذه المقالة، تأخذني قدماي نحو أشجارٍ سمتهّا ابنة رحمة بأسماء من تحبهم..
ستكون معي شجيرة بمبر أغرسها بين الأشجار، ويكون سقياها من قسيب ٍ لي،وأجلس ُ فوق ظلي ، مصغيا لكائنات تحصن عزلتي المؤتلفة من مخالب وعيون وأظلاف الآخرين
*سميحة خريس / فستق عبيد / الآن – ناشرون وموزعون / عمان – الأردن / ط2/ 2018
*تيري إيغلتون/ معنى الحياة / ترجمة عهد علي حبيب/ دار الفرقد/ ط1/ 2010
*ما كس بيكارد/ الصمت/ ترجمة قحطان جاسم / دار التنوير/ بيروت/ ط1/ 2018
*بخصوص ثورة أحمد عرابي : ممكن العودة إلى كتابنا (بساطيل عراقية) دار ضفاف/ بغداد – دولة الإمارات العربية / ط1/ 2016