قنينة العطر .. المكسورة

قنينة العطر .. المكسورة

خاص : رواية – محمد البسفي :

لم أفقه منذ لهوي مع أترابي في روض الطفولة هذا النعت الذي خلعه عليَ أبي منذ رآني أنسلخ من رحم أمي .. كانت كلمة “قنينة العطر” بالنسبة لي مجرد لفظ يقرنه أبي باسمي عندما يريد إغرائي على القدوم إلى أحضانه وأكف عن الركد مع صاحباتي في حديقة الميدان.

وعندما فارق سهم الطفولة قوسه فارقني صوت أبي، وأرداني فتاة كسيرة تكفكف الأم دمعها وهي تسعى في طريق السادسة عشرة من مشوار عمرها.

ولكن لم يفارقني نعت “قنينة العطر” .. فسرعان ما ألتقيت به بين سطور خطابات المراهقة التي تحكي الحب الطاهر الجامح كالريح العاصفة بكل ما تلقاه حتى تأتي ساجدة فوق شفاه من تحب لتنديها وتقدم لها الحياة شهيقًا وزفيرًا .. فتفتحت زهرة مشاعري على وجه وسيم لشاب يلقبني بأعز كلمات أبي لي التي أفتقدتها منذ زرعتها في قبرًا بجواره أبكيه وأبكيها ليل نهار.

فآتى هذا الشاب ليفض تراب القبر عن أوراق جذور كلمات أبي، ويجعلها شجرة وارفة الظلال تخضر أوراقها كلما رجعت من لقاءًا معه وأهرع إلى مرآتي أسألها عن أسرار جسدي وخبايا ثناياه، وما كان أكذبها عندما تملآني غرورًا فتصور لي شعري المسترسل فوق أكتافي كخيوط الشمس في شفقها وتدفعني إلى تحسس جسدي معها فتوحي لي بأنه أشبه بالأرض البكر التي تبشر بإستنبات خيرًا جم !

وكالنحلة التي تحط على الورود لتمتص منها الحياة، آتى الشاب ينشد رحيق شفتاي .. رحيق زهرة مشاعري المتفتحة على وجهه الضاحك أبدا .. ومازلت أذكر مذاق قبلته العذب الذي ألهب قلبي وأبرد جسدي رغم قصرها وعدم إتباعه بمثلها، لأنه لم يجد من الزهرة إلا الضن بقطرات رحيقها، فقد أطبقت أوراقي عنه بمشاعر لا إرادية نابعة من هاجس عجيب قفز بداخلي، كهاجس الحرص في البخيل على ثروته. وقد لازمني هذا الحرص طوال أيامي المقبلة من مراحل عمري وكان نتيجته رد الكثير من الشباب عن طريقًا رآوا فيه مرافقتي حتى وصلت إلى أسوار الجامعة وتوغلت في سنينها عامين وهناك وجدت أيضًا رفيقى .. “قنينة العطر” .. نعت عمري ووصف أبي، وصاحب أول قبلة في حياتي .. وجدته ينطق من فاه جريء، ينطقه بسرعة وقوة شاب جعلت منه خفة ظله وجراءته وتهوره أسطورة يتسامر الشباب والفتايات حولها .. حتى أمطرني فجأة ذات جلسة مع صاحباتي حوله بمداعباته ومزاحاته عليَ ومعي، فأحمر وجهي خجلًا وأقضبت جبينص منهرته حتى أحس منص الغيظ والإرتباك، فوجدت منه نظرة صافية من عيناه الثاقبتين تخترق عيني وهو يبتسم ويقول فى رقة وحنين: ما أجملك .. قنينة عطر متناسقة الأركان.

وكانت هذه النظرة مفتاحًا جديدًا لخزائن قلبي الموصدة على كل ما فيها من مشاعر وأهواء كالياسمين، ففتحتها له مرغمة أمام قوة عيناه وعذوبة نبراته وجرئة آماله .. ومازال صوته يعلق بأذني حتى الآن، بعد أول لقاء معه أسلمت له شفتاي فيه عن طواعية الجارية مسلوبة الحرية .. ونظر لي نظرته المعهودة قائلًا:

– : بكِ عرفت آمالي .. ومعكِ سأهتدي إلى هدفي من هذه الدنيا .. يا قنينتي أنتِ لست حبيبتي فحسب .. أنت الياسمينة في جدب حياتي …

ورغم نهري قديمًا لصاحب أول قبلة في حياتي، فقد أستسلمت شفتاي لفاتح خزائن قلبي .. ليغترف منها رحيقه أرطالًا ويملأ هو شغفي كلمات كخيوط الحرير تسلبني إرادتي وتقيدني جارية في بلاط سيدها.

حتى جاء يومًا حُفر بالدمع كماء النار في صفحات قلبي .. آتاني في موعده يلتمس شراب جاريته .. وبعد ما آرتوى من رحيق الشفاه .. أخترقني بنظرته الثاقبة؛ ولكنها كانت أكثر جراءة وجسارة هذه المرة وهو يحصد جسدي بعينيه ذهابًا وإيابًا قائلًا: أتدرين ما أنتِ بالنسبة لي ؟

– : أعرف .. قنينة عطرك.

– : بل أنتِ حديقة غناء يانعة الثمار، خصبة الغصون، جميلة المنبت !

وهنا أحسست بوقع عيناه الثاقبتين يخترقى ملبسي بل يمرانه ويؤخذا جسدي ولحمي وجلدي وتذكرت ساعتها مرآتي وصورها عن جسدي الأشبه بالأرض الطيبة التربة طرية السطح .. وفجأة وجدت يده تطلب حصد الأرض وقطف الثمر .. وأقترب .. ودنى مني بيدين باردتين يعبثى غدوًا ورواحًا فيَ .. ولم أملك حينها إلا السمع والطاعة …

الطواعية .. طواعية الجارية مسلوبة الإرادة والحرية .. وجاريته في العبث، وقطفت ثماري نضرة من فوق غصونها وقدمتها سائغة سهلة لنهمه وإفتراسه الحيواني .. حتى …

حتى آرتوى ظمأه وقال للكأس “كفى”، وفرغ الكأس من محتواه، وعرجت إلى نفسي متأملة فوجدتها مازالت جارية .. ولكنها كانت جارية هوى مسلوبة الإرادة .. فأصبحت جارية لهوًا مسلوبة الإرادة والعذرية .. والكرامة !!

أأه من كبوةٍ سقطت فيها وعرشَت بيدي على فتحتها بسعف الهون وجريد الندم وتراب النقص، حتى آتى من ينفض كل هذ عني، ويمد لي يدًا واثقة ثابتة …

ما أبحر بي فُلك الأيام في لج الزمان أكثر من مسيرة أعوام خمس حتى نقر بابي شاب أنيق وسيم واثق الخطو وكأنه خرج من ريشة فنان .. آتى طالب ما أرعبني وأرجفني كثيرًا .. آتى يطلب الإقتراب مني .. دنو الأجساد .. آتى يطلب الزواج …

وتزوجته وأكاد أموت رعبًا .. ومر عام ومازال الرعب يسكنني وكأنه لم يجد أرحب من صدري سكنًا له.

#                                #                                 #

واليوم .. هذه الساعة .. تحول رعبي بركانًا غاضبًا جامه الحزن والهوان .. فقد حدث ما حَدثَت به نفسي كثيرًا على استحياء .. حدث ما أتضح أمامي من غيبي كلما فتحت كتاب الله أو أستمعت إلى أحاديث مصطفاه .. الساعة فقط علمت حقيقة الشاب الوسيم واثق الخطو .. اليوم فقط سقط قناع الآناقة عن وجه زوجي .. وعلمت صنعته .. علمت حقيقة تجارته …

ما أكثر الليالِ التي أقتربت منه في حب أسأله نوع تجارته، فيرد في لباقته: نوع قيم جدًا .. بضاعتي لا يستغنى عنها أنس .. فهي دواء الأرواح والقلوب !!

وما كانت أدهى مراوغته .. ما كانت أكثر إجاباته المبهمة .. حتى هذه الساعة آتت لي الحقيقة تسعى بمفردها عبر الهاتف .. لعل الله قد ساقها إليَ حتى أعرف قدري عنده ولا أغتر بستر عورتي .. ما أكذب المظاهر الخادعة !!

أرتفع الهاتف برنينه وكان الطالب “صفوت” صديق زوجي الوحيد الذي رآيته يرتاد البيت بلا كلفة أو خجل .. سألني عنه كعادته وردت عليه أيضًا كالعادة بعدم وجوده، فقد خرج على عجالة من أمره بعد محادثة هاتفية مع سيدة !

وسألت “صفوت” سر المحادثات الهاتفية التي يشترك زوجي فيها دائمًا مع سيدات ؟!

فأجاب دون تفكير: بأنها طبيعة عمله !

– : كيف ؟ .. وما علاقة عمل زوجي بالسيدات ؟!

– : لا أعرف بالضبط …

– : صفوت .. أرجوك أجبني .. فأنت تعرف أهمية هذا عندي .. !

– : ناهد .. أنا لا أريد تنغيص حياتك الهانئة.

– : أنت تقلقني أكثر .. !

– : لا أعرف على وجه التحديد علاقة السيدات بعمل ماهر بالضبط .. ربما عميلات لديه .. أو ربما أصل تجارته .. بضاعته.

وانهار بنائي .. واصطدمت بأرض صلبة قاسية لا ترحم .. وفي خضم السقوط مر بي طيف حياتي الماضية .. شخوصًا تنظر بلا رحمة .. وشخوص تنظر بشماتة وأخرى بعيون مشمئذة .. الكل غاضب، الكل قاسي…

وآتاني وجه حاضري ومستقبلي على وجه زوجي وهو يندلف من باب البيت داخلًا في آناقته المعهودة وثباته ووثوق قدميه.

– : مساء الخير.

– : ماذا تمتهن يا ماهر ؟ .. ما هو نوع تجارتك الرابحة أبدًا ؟

– : وما مناسبة هذا الآن .. إني أقول مساء الخير !

– : أتعمل في النخاسة .. بضاعتك النساء .. الجميلة .. والبيضاء .. والسمراء ؟!

– : ماذا تقولين .. أجننتى يا امرأة ؟

– : لم أجن .. بل علمت .. علمت لقبك .. ق…

– : قواد .. نعم أعمل قوادًا .. فلولا ضوء الشمس ما أبتعنى بضاعتنا.

– : لماذا تزوجتني إذاً ؟! .. لم لا تسأل إحدى بضاعتك الزواج أو الرفقة ؟!

– : وخذة ضمير .. فإني لم أكذب حين قلت لكِ بأن أبي كان يؤم الناس للصلاة، وقد علمني حفظ القرآن صغيرًا، ولكني حين كبرت علمني الناس كيف أنساه.

– : إذاً .. أطلق عنان مهرتك.

– : لا .. لن أفعل.

– : لِم ؟!

– : لأنها سجينة بطبعها .. جارية تبحث عن سيد شرعي يسد نقصها ويواري سوءاتها.

– : إذاً فقد علمت !!

– : طبعًا .. يجب أن أعلم .. “بأبتسامة مبهوتة” .. ولا تنسي بأني خبير.

وتهاوى بي السقوط أكثر .. فإني أشعر بالأرض تفتح ثغريها لبتلعني شيئًا فشيئًا .. وهنا ظهر لي في الأفق سؤالًا يعصر أحشائي منذ شهور .. وتجلى لي الآن تجلي الموت والفناء وقرأته وكأني لا أسمعه بداخلي .. تُرى ما سر عدم حملي لجنين في أحشائي إلى الآن ؟ .. فقد مر عام على الزواج !!

وجاء “ماهر” بكلماته المبهمة: لعله رفض المجيء …

وأجد عندي الإجابة التي تكمل ما نطق به: لعله رفض أن يكون زبونًا أو قوادًا في سوق النخاسة.

ومضى هو في خطوه الواثق الثابت دون لحظة تقهقر، وتركني أعتصر وحدي آلام الماضي والحاضر ومجهول المستقبل .. تركني متكورة على أحشائي أزرف دمع المهانة والقهر والذل .. فالكل اجتمع على إذلالي .. الماضي أسقاني ذل اليتم في كأس الطفولة والصبا .. وأذاقني طعم فقد النفس ورخص قيمة الجسد في الشباب .. وها هو حاضري أشهدني ذل الزوج ومهانة الأيام .. الكل أجتمع على إذلالي ماضي وحاضري .. وأيضًا مستقبلي .. حتى ربي أراد ذلي .. أستغفر الله العظيم.

#                                   #                                       #

ما أشبه حياتي بالصحراء عديمة الحدود والمعالم بكل جدبها وقحط عيشها وقساوة ملمس رملها .. فما نبتت واحتها حتى مدت يدًا تعربد فيها حصدًا وتدميرًا .. حتى بعد أن وطأ رملها قدم الواثق يريد الحب والاستقرار فسرعان ما تعثرت قدماه وسقط قناع الوسامة والآناقة وظهر زيفه وتدليسه .. ولكن …

ولكن مهلًا .. كم كنت ساذجة أنا حين تسرعت في إلقاء نفسي فوق أكتافه دون أن أتبين مقصد مشوار هذا الرجل .. فإني ساهمت في خداع نفسي بنفسي.

عطشي إلى الاستقرار بعد تيه العار والتهديد بالفضيحة، جعلني كالعمياء التي تتخبط في دروب شتى، تريد الهداية إلى أي مسلك أمن .. فظننته القلب الذي يمنحني الحب الطاهر فأهديه الطفولة الملائكية .. ما كانت أوضح كلماته في سويعات الإقتراب حين ينظر بعمق إلى عيناي ويتمتم: أكاد أقسم بأن هاتان العينان يتقطرى خمرًا كلما شأتي .. ما أشبهك حقًا بقنينة الخمر المعتق.

كانت واضحة ساعتها أمام جهالات عقلي وتغميض عيني، وتجلت بكل صراحتها لي الآن.

حتى قمر الطفولة آبى أن يسطع على صحراء حياتي وجعل ذئاب الشك وسباع الحيرة يرتعى بكل حرية في ظلامي الحالك.

أه .. أه من قلبي الذي يموت بين ضلوعي ظمأنًا لنداء الأمومة وحسًا لملمس جلودهم الناعمة .. ألا آن لملاك صغير أن يتنفس في أحشائي قبل أن تتبلد وتتحجر على ما فيها من قسوة وحرمان ؟ …

أه منها صحراء جرداء موحشة .. ولكن من لها يبدل حالها ويطوي رمالها الأصفر ويبسط الجنة الغناء ؟ .. أم كُتب على حياتي أن تعيش أجلها تنعي الجدب وتبكي الحرمان والعطش لكل ما هو متاح لغيرها ؟! .. لا لم يأمر الله بذلك، فالله رحيم عادل، فإني بكيت كثيرًا وزرفت الأنهار من الإهانة والندم .. آن لي أن أجعل العيون تفيض بما شأت من الدمع .. وربما الدم.

وأول هذه العيون، عيون هذا الزوج المخادع الماجن، الذي حرمني الاستقرار فأمتهن وظيفة من وظائف إبليس، وحرمني الحب فأعطيته إياه ولم أجد منه إلا الضن به، وحرمني الأمومة فكانت نصيحتي له دائمًا أن يسأل الطب سبب تأخر ذريته، فلم أجد منه إلا الصمت المطبق وربما الساخر مني .. ولكن لا .. آن لحياتي المستغيثة أن أرد لها إجابة .. وهي أنا لها .. نعم أنا لها، فإن لم أؤمن بنفسي لا يستحق لي أن أطلب الإيمان من الناس.

ويجب الآن أن أتلمس سبيلي إلى تصحيح نقصي وروي ظمأي .. فإبتسامة الطفولة يجب أن آذن لها بطلوع هلالها في سمائي، دون انتظار الأمر من هذا الرجل .. فطفلي القادم على طريق المستقبل يجب أن يكون طفلي أنا وحدي .. أكون أنا أمه وأبيه .. ولا سبيل لذلك إلا .. إلا أن أطلبه من رجل آخر .. أي رجل يهديني طريق ضالتي وعليَ أنا الباقي .. عليَ أنا أن أكون كل عالمه .. ولكن من هذا الرجل ؟ .. من ؟؟

#                                            #                                               #

نعم ما أسهل عليَ الآن أن أتجرع كأس الخيانة ولو على دفعة واحدة .. فمعنى الخيانة في لغتي بات لفظ خاوي الأركان.

والشرف أيضًا يلوح لي بمثابة صورة هلامية الملامح غير واضحة الرؤى .. بل إني كفرت بالأخلاق وكل ما يدعى بالمُثل العليا فهي متاهات ودروب لا تهديني رشدًا وتزيدني ضلالًا وغي.

فماذا أخون وأنا لا أملك موضع قدماي .. ولمن أدين بالولاء وأنا منبوذة من الجميع ؟!

فما أنا إلا دمية رخيصة بين يدي دنيا عابثة تلهوا بأحوالي .. توهمت الحب العذري العذب فسرعان ما تبين وجهه المراهق الهش متهاويًا أمام أول قبلة، وتهشمت تحت قطار الزيف أول مرة ولم أغنم إلا بلذة وقتية كاذبة، وها آنذا أسحق للمرة الثانية تحت عجلات الزيف بعد أن خيل لي الحب الظاهر والاستقرار الآبدى والاسرة الدافئة فعصفت الأيام بكل أحلامي في أعمق أنفاق وحل الواقع.

فلمن أدين بالولاء إذاً ؟!

فيجب أن أسترد ولو بعض أحلامي ولو بالقوة …

بقوة الحيلة .. ولكن من يشاركني حيلتي ؟ .. من ؟ .. من ؟

آيه .. نعم إنه هو .. ولا أحد غيره .. !

ما أكثر الأوقات التى تجلى في عينيه شيطان الغريزة الأناني، كلما لامست يده مصافحة ولذة الإمتلاك الرهيبة التي لاحت فوق لسانه مرارًا وكاد ينبذ بها كلما قام حوار بيني وبينه.

نعم هو .. !

“صفوت” .. صديق الزوج اللدود .. ها ها ها …

لا ينتظر الآن أكثر من كلمة في هذا الهاتف، ويكون هنا يلهث حرارة الشوق ولهيب العشق.

#                                      #                                        #

حسنًا .. ها قد أتى الصيد .. الآبله، يتغنى كلمات التهذيب والذوق، يريد إقناعي بأنه صدوق لصديقه متفاني مخلص له، ولكن ماذا يصنع في عيناي وقوامي اليافع فقد سحراه وجعلاه عبدًا رهن إيماءة بسيطة منهما، يالك من ساذج أبله أتريد خداعي مثل الآخرين وبماذا ؟!

بالحب .. بنفس الشرك الذي قضيت فيه كل ما أنصرم من حياتي ! .. لا يا كلبي الأحمق .. فإني خلعت عني كل هذا، وأنت لي ما إلا حصان أمتطيه حتى يبلغني ما أريد .. جنين .. جنين في رحم ظمأن إلى أنفاسه.

أقترب .. أقترب يا أحمق .. أقترب من لذتك الدنيئة.

أقترب وأغترف من محاسني، من مفاتني، وأنتهك كل ما حرمته هذه المزاعم الجامدة عليك إنتهك الأخلاق، وأطعن الصداقة .. ولا تخشى لومة لائم.

فبين ذراعيك جسد يعلوه عقل كفر بكل الأخلاق .. وصديقك قواد سلعته لذة الرجال مِن مَن مثلك .. فأفعل ما شئت لا تجد من يوجه لك كلمة لوم .. فمن مِن العقلاء يلوم كلب يلهث من فرط شهوته ؟!

إنتزع كل أستاري وعريني .. عريني كما يحلو لك .. وأملأ ناظريك من بياض جسدي وطراوة بشرتي .. وأزرع فيَ بذرتك .. نعم أنا لا أريد منك أكثر من هذه البذرة التي ستتشكل لسانًا ينطق بأجمل نداء أذوب له شوقًا وتتفجر الدماء في عروقي بحثًا عنه.

أمي .. يا أماه، أه منه نداء .. أه.

#                             #                                      #

كعادته فُلك الزمان يسبح بحساباته الدقيقة لا يتزحزح عنها مطلقًا، ولكنه لا يعرف أني أنظر إليه بعيون مترقبة حاسبة .. فالأيام ها هي تمر بسلام ولا تأتي بأي جديد لي، ومازالت بطني صامتة عن أدني وجع ولو تعب طفيف.

أهي حقًا الأيام تأتي حثيثًا ؟ أم تسرعي وشوقي لمرورها يخيلى لي بطء الأيام ؟!

ولكن مر من الشهور أربعة ولم أحس بأي شيء يُذكر ولا .. أه …

أه .. ولكن ها هو الألم يطرق جدار بطني، يا فرحتي من المؤكد هو .. هو نفس الألم الذي تحسه كل أم في أول أشهر حبلها نعم هو، إنه جنيني بدأ يتكون وينقر الجدار الذي بينه وبين أمه .. نعم يا حبيبي إن قلبي ينظر إليك في أحشائي .. أه .. ما أشد آلام الشعور بك، ولكن بها ينبض قلبي إني أتعذب يا حبيبي .. ولكن ما أجمل تعذيبك، تحرك يا طفلي تحرك غير مبالًا بأحد فأنا جاريتك .. جاريتك أنت وحدك.

ومع هذا يجب أن أتيقن من وجودك، فسلاح الشيطان الوحيد الآن هو الشك.

حسنًا ها هي حافلة يمكنها أن تنقلني إلى طبيب ممتاز أعرفه مسبقًا.

أشعر الآن بأني أقبض على كل شيء وأتحكم فيه .. فملمس الهواء وهو يهفوا بوجهي كأني طائرًا خفيفًا أسبح بين خلجاته .. حتى الوقت أصبح معي بجواري يسير تبعٍ لخطاي، أسرعت أسرع معي، أبطئت تحثث خطاه نحوي.

فسرعان ما نقلتني ولفظتني الحافلة في عيادة الطبيب، وأنتظرت دوري ودخلت عليه وأستقبلني ونمت تحت سماعته وأنتظرت منه لفتة تشجي أفآدتي، ولكن لم أجد منه إلا برود العلماء.

– : ماذا هناك يا سيدي ؟

– : خيرًا إن شاء الله.

– : ولكني أشعر بآلام تبدو شديدة بعض الشيء هنا ؟!

– : لا .. لا تخشي شيئًا.

– : فإننا نحتاج أولًا لبضع تحليلات للدم والبول، وأيضًا صورًا لأشعة هذه المنطقة من الجسد.

– : أيوجد شيء يا سيدي ؟

– : لا شيء سيدتي البتة.

– : ألا .. ألا يحتمل أن يكون هذه الآلام أوجاع حبل ؟

– : لهذا طلبت هذه التحاليل.

وكما ذكرت من قبل لم يتخل عني وقي أو ينسحب بهدوء من جانبي؛ فإني أستشعر به كلما مرت الأيام سراعًا .. فسرعان ما آتى ميعاد الطبيب، وآتيته حاملة مظروفًا ضخمًا يحمل كل ما طلب من تحاليل وإشاعات “إكس” لمنطقة البطن من جسدي.

وتناول المظروف فاضًا ما به في هدوءه الرتيب، وأخذ ينظر بصبر أخذت أحسده عليه طوال النصف ساعة التي تركني أعيشها أمامه في قلق وريب، وهو يفحص ويدقق في صورة الأشعة ثم يضعها ناظرًا لوريقات التحاليل ويقرأ ويدرس ثم يعرج إلى صورة الأشعة ليدقق مرة أخرى أكثر حرصًا؛ حتى خيل لي بأن عينيه سيخترقى هذه الصورة السوداء وهي تضاء فوق جهاز الإضاءة.

ثم أخيرًا ألتفت إليَ قائلًا في قطب جبينه: سيدتي أتسمحي لي بإعادة الكشف على جسدك هنا ؟

ولم أطق نطق الإجابة بنعم، وهرولت ناحية سرير الكشف وكشفتت عن جلد بطني تحت سماعته شاخصة إلى وجهه المشتق من قطعة ثلج شفافة .. وأيضًا لم ينبذ ببنت شفه؛ ولكنه رفع سماعته عن جلدي وتركني آفلًا على مقعده وراء المكتب الخشبي، وأخذ وضع الحديث حينما أستويت على المقعد الذي يواجهه، وقد تبدل بروده بوجه باهت الملامح يميل إلى الحزن، كلما حاول الحديث، وأخيرًا فرج عن كلماته قائلًا:

– : سيدتي يأسفني جدًا عدم إجابتص بما تريدين .. !

– : كيف ؟!

– : ما تشعرين به من آلام ليس أوجاع حبل …

– : كيف ؟! .. ولماذا ؟

– : فأنتِ سيدتي لا تستطعين الحبل .. ضيق رحمك شكل عيب خلقي يحول دون ذلك.

– : ولكني أشعر بآلام رهيبة تزداد هنا ؟!

– : هذا نتيجة …

– : نتيجة ورم سرطاني تكون منذ أعوام متشعبًا في جدار الرحم.

أه .. يا زماني، ألم يفرغ كأس المر من متحواه بعد، فإني أجزم بتجرعي إياه كله ؟

أما زال في جعبتك يا زمني الضنين من سهام السم لتوجهها في وجهي ؟

أم أستعد لضربات أخرى ؟ ولكن صدقني يا زمني قد خارت قواي وقضي الأمر .. نعم خارت قواي بالفعل، فسهمك الأخير قد خرق قلبي ومزقه أربًا لأنتقام لا أعرف أسبابه …

أضاق رحمي على حمل طفلًا أستمد الحياة من نداء منه .. وقد رحب بسرطان ينهش حياتي في هدوء وثقة دون أن تطيله يداي، كالنار في قلب الهشيم.

أردت الحبل في جنين .. فحبلت في سرطانِ رهيب !

تمت بحمد الله

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة