استدعى وفد حكومي من الإدارة الأميركية بعض موظفي حكومة المنطقة الخضراء في بغداد عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، ليؤكّد مجدّدا على المبادئ المتفق عليها في اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقعة عام 2008 بالإضافة إلى المبادئ في تبادل المذكرات الدبلوماسية ومراسلات جمهورية العراق فيما بعد عام 2014، وذلك في أجواء انحسار إيراني كان وجوده دائما كطرف ثالث ينسّق مع سفير الولايات المتحدة أو المسؤولين الأميركيين الذين يصلون إلى العراق لحل مشكلة أو للتشاور في خطط عسكرية لقمع الشعب العراقي. وإذا كان اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في يناير/ كانون الثاني الماضي، بمثابة اغتيال جسدي للوجود الإيراني في العراق، لوضع حد لتجاوزاته على الخطوط الأميركية المتفاهم عليها، فإنه مثل أيضا بداية تراجع نفوذ رسمي إيراني في العراق، قاده سليماني الذي لم يكن قائدا للمليشيات التي أسسها بالتواطؤ مع المرجعية الدينية في النجف فحسب، بل إن سطوة كلامه وأوامره طاولت كل الأحزاب والبرلمان، وأصبح الحاكم الفعلي للعملية السياسية وإدارتها، وذلك باعتراف برلمانيين، لتتشرذم العملية السياسية في العراق بعده وتتخبط. ليس ذلك فحسب، فقد أصابت ثورة تشرين مقتلا في النفوذ الإيراني المتعاظم الذي يعيشه الشعب العراقي على كل المستويات، فخرج لاقتلاعه، وطرده هاتفا “إيران برة برة بغداد تبقى حرة”. ولم تقف مطالب المتظاهرين عند هذا الحد، بل تعدّته لمطالبة حكومة المنطقة الخضراء بحصر سلاح المليشيات التابعة لإيران بيد الدولة، والإبقاء على الجيش فقط من دون أي تنظيمات أخرى خارج المؤسسة العسكرية، والدعوة إلى اعتماد المنتوج الوطني، ومقاطعة كل ما هو إيراني يزاحم الصناعة والزراعة الوطنية، بل وصلت الاحتجاجات الى المناداة بإخراج ايران، وفي مدن تعتبر معاقل للأحزاب الطائفية الموالية لها. وبدت هذه الأحداث لحظة مناسبة للإدارة الأميركية، للتذكير بما سبق أن تم الاتفاق عليه قبل سنوات.
حصلت أحزاب العملية السياسية الموالية لإيران على قرار من البرلمان بإنهاء الوجود الأميركي،
“أصابت التظاهرات في استهدافها النفوذ الإيراني الذي لولاه لما بقي هناك احتلال أميركي”
وتطالب المليشيات الولائية التابعة لإيران من حكومة مصطفى الكاظمي بإخراج القوات الأميركية، لكن قرارات البرلمان غير ملزمة، فالسلطة التنفيذية هي صاحبة القرار من الناحية القانونية، والجهة الوحيدة المخولة بإقامة اتصالاتٍ لإنهاء هذا الوجود رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو وزير الخارجية. وهذا ما لم يحصل في اللقاء التلفزيوني بين الجانبين، ولم يتم تقديم أي طلب للحكومة الأميركية، بل بالعكس وافق الوفد الحكومي العراقي على تجديد ما تم توقيعه سابقا بين إدارة الاحتلال وحكومات العملية السياسية السابقة.
وبدت مسألة تقليص القوات الأميركية على الأراضي العراقية التي أثيرت تفصيلا للوفد الأميركي الذي قدم وعودا بذلك، ليقابلها بند بوجود قوات لتقديم المشورة والمساعدة الفنية والعسكرية لمواجهة الإرهاب، ما يمكّن الولايات المتحدة من التصرف بكل حرية وكما تريد في هذا المجال، علما إن أيا من الحكومات العراقية المتعاقبة لم تعرف يوما عدد القواعد الأميركية في العراق، ولا عدد القوات الموجودة فيها. ويؤكد البيان الختامي التزام العراق بحماية قوات التحالف العسكرية وكل مرافقه، في تناقضٍ مع تصريح مصطفى الكاظمي عن السيادة، وخصوصا العودة إلى المرجعية الدينية الذي يهدف إلى ذرّ الرماد في العيون، لأن لا علاقة للمرجعية، لا قانونيا ولا سياسيا، باتفاقية الإطار الاستراتيجي مع العراق، وحتى لو حدث ذلك، فهي لم تقف ضدها سابقا، وهي التي اعتبرت الأميركان ضيوفا على العراق، لا محتلّين!
تعرف إيران التي تقف وراء إصدار قرار البرلمان بإخراج القوات الأميركية، أن القرار هو كلام سياسي غير ملزم وليس قانونيا. ومع ذلك، دفعت أتباعها إلى القيام به لحرف الأنظار عن الثورة والاحتجاجات، ومواجهة شعار التظاهرات بإخراج إيران من العراق. وهي من دفعت أتباعها إلى الخروج بتظاهرات مدفوعة الثمن، توجهت إلى السفارة الأميركية، وهي وراء التطبيل الإعلامي ضد الوجود الأميركي الذي بدا مجرّد فقاعاتٍ، كالصواريخ التي أطلقت خارج السفارة أو قرب قاعدة عين الأسد، ولم تؤذ حتى ذبابة.
لقد حسمت الولايات المتحدة أمر وجودها في العراق قبل سنوات، ولن تقوم أيٌّ من حكومات
“ستنكفئ إيران مؤقتا بعد الصفعة الموجهة لها، كما فعلت منذ اغتيال سليماني”
العملية السياسية بعمل ضد الوجود الأميركي صاحب العملية السياسية وأحزابها. وفي الوقت نفسه، لن تتخلى الولايات المتحدة عن الدور الإيراني في العراق، على الرغم من تشديد إدارة الرئيس ترامب العقوبات عليها ومحاربتها في سورية واليمن، لأن إيران هي الدولة الوحيدة القادرة على ضمان استمرار العراق دولة مقعدة منهوبة وفقيرة تابعة، وذلك ما يضمن المصالح الأميركية الحيوية في المنطقة. لذا ستنكفئ إيران مؤقتا بعد الصفعة الموجهة لها، كما فعلت منذ اغتيال سليماني، وتركت أتباعها من المليشيات يطلقون المفرقعات هنا وهناك، والتصريحات من مخابئ مجهولة.
كما كل أبناء الشعب العراقي، أدرك شباب ثورة تشرين الدور الإيراني التخريبي، باعتباره أهم أسباب خروجهم الواسع من بغداد إلى البصرة منذ أشهر، يقسمون اليوم على العودة واقتلاع العملية السياسية الفاسدة التي دمرت العراق وحطمته بالمعاول الإيرانية الأميركية. أصابت التظاهرات في استهدافها النفوذ الإيراني الذي لولاه لما بقي هناك احتلال أميركي منذ سنوات، فالتخلص من هذا النفوذ وأتباعه وذيوله هو بداية تحرير العراق الجاري على أيدي شباب ساحات التحرير في بغداد والبصرة والناصرية والحلة والنجف وكربلاء.