يضع المترجمون تعريفات عديدة ومتنوعة للترجمة تتفق والزاوية التي ينظرون اليها منها والاهداف والمقاصد المنوط بها تحقيقها. والترجمة هي في اكثر تعاريفها شمولية ودقة وبساطة، نقل الكلام من لغة الى لغة اخرى. وفي هذا المجال نقرأ في لسان العرب “التٌّرجمان والتَّرجمان- المفسر للسان. الترجمان بتشديد التاء ضماً او فتحاً- هو الذي يترجم الكلام، اي ينقله من لغة الى اخرى. فالترجمة تعبر عن منظور وغايات من يقوم بها. والترجمة في معناها القريب والمباشر والاولي، هي نقل من لغة الى لغة بدقة وامانة. وهي ايضا علم باللغتين المنقول منها والناقلة، ومعرفة بالمادة التي تشكل موضوع الترجمة واشتغال المترجم. والترجمة بهذا الشكل تعني قراءة لنص بغير لغته، وكل قراءة بناء، فهي اذن وللغتها الخاصة، اعادة بناء نص سجل نفسه على نحو مغاير ومختلف.
من هنا، تصبح الاعمال المترجمة جزءاً من الثقافة المستقلة، وذلك بعد ان تنتقل من اللغة المصدر لغتها الاصلية الى اللغة الهدف.
هكذا تجد الترجمة نفسها منذ البداية واقفة على حدود اللغتين، اللغة الاصلية، لغة الانطلاق او المصدر، ولغة الوصول. ويتخذ خطابها تبعاً لذلك ومنذ البداية ايضاً، صفة الخطاب الوسيط المفسر الناقل او الخطاب الجسر العابر بقارئه من لغة الى اخرى وبالتالي من ثقافة الى اخرى. وفي معظم الحالات يعني هذا ما يعنيه، ان العلاقة بين طرفي هذا الخطاب- المنهج والمتلقي- هي علاقة اتصال في لغة الوصول. اي ان كليهما يفهمان هذه اللغة لكنها ليست كذلك بالنسبة للغة المنطلق. فهي علاقة انفصال للمتلقي عن هذه اللغة… وهذا سبب رئيس من اسباب الترجمة.
وعليه، فان للترجمة اثراً كبيراً في اطلاع الشعوب على الثقافات والمعارف الانسانية في كافة انحاء العالم، وهي النافذة التي من خلالها تتأثر الثقافات بعضها ببعض. وللترجمة اهميتها في تفتح الفكر وتوسيع المدارك عند الشعوب، من خلال اتاحة الاطلاع على تيارات الفكر والثقافة المختلفة وتمكينها من متابعة ما استجد من هذه التيارات.
اذن، للترجمة اهميتها التي لا تقل عن اهمية الكتابة الابداعية، ولها وظيفتها التي لا غنى عنها، باعتبارها احدى اخصب واوسع قنوات الاتصال بين الشعوب المختلفة، ورافداً ينتقل خلاصة فكر وابداع شعب من الشعوب في العلوم والاداب الى شعب آخر، وما يترتب عليه من انتشار المعرفة واتاحة الاطلاع على مختلف تياراتها وامكانية متابعة ما استجد من هذه التيارات.
وقد احسن الكاتب احمد امين عندما وصف من يعرف لغة واحدة فقط بانه يرى بعين واحدة بينما من يعرف لغة اخرى يرى العالم باكثر من عينين.
وعلى هذا اضحى للترجمة اثراً كبيراً في اطلاع الشعوب على الثقافات والمعارف الانسانية في كافة انحاء العالم، وكذلك اضحت النافذة التي من خلالها تتأثر الثقافات بعضها ببعض، لان النقل من الثقافات الآخرى ظاهرة تكاد تكون ملازمة للحضارات قديمها وحديثها.
فبعض الحضارات اخذت من الاخريات ما يناسب منطلقاتها الحضارية، والعرب قديماً اخذوا عن السابقين من اليونان والرومان والهنود عن طريق السريان بادئ الامر، ثم اخذوا عن هذه الثقافات بطريق النقل المباشر فيما بعد، ثم اضافوا اليها من ابداعهم الكثير حتى اضحت لهم حضارة عظيمة نقلها عنهم الغرب في بداية عصر النهضة، حيث قام بحركة نقل وترجمة واسعة كان لها الدور الفعال والمؤثر في بناء حضارته وتفوقه العلمي في كافة الميادين.
ان اية امة لا تستغني عن النقل عن الآخرين مهما وصلت من الامساك بزمام الحضارة، فلا تزال البلدان المتقدمة تنقل عن الآخرين من المسهمين بلغات اخرى سواء كانت اللغات هذه من اللغات العالمية الاكثر شيوعاً او كانت هذه اللغات من اللغات الثانوية في مقياس الانتاج الفكري والعلمي.
* العربية في مجال الترجمة
اللغة العربية للأسف لا تحتل مكاناً بارزاً بيناً في مجال الترجمة في الوقت الراهن، لانها لا تسهم في الانتاج الفكري العالمي الا بقدر ضئيل من مجموع هذا الانتاج. هذا ناتج عن عوامل كثيرة، اهمها:
1- مواجهتها لصراعات كثيرة مع لغات اخرى نتيجة تفوق لغات اجنبية حاول اصحابها احلالها محل اللغة العربية من ناحية وعزلها عن مجالات التعليم والبحث والادارة والاعلام من ناحية اخرى.
2- قصورها، او بمعنى ادق، تعطلها خلال عهود السيطرة الاجنبية عن تأدية جوانب مهمة من دورها الطبيعي كلغة قومية او لغة ام، مما ترتب عليه عزلها عن مسار التطور التاريخي للمجتمع العربي وسيادة استخدام بعض المفردات الاجنبية الدخيلة قسراً في التعبير عن الاحتياجات المتصلة بحياة المجتمع اليومية.
3- لجوء بعض الكفاءات العلمية والادبية العربية في الآونة الأخيرة الى كتابة نتاجاتهم العلمية بلغات اخرى لينال مساحة اوسع في النشر بين الاوساط الثفافية العالمية. علماً، ان استخدام اللغات الاجنبية بدلاً من اللغة العربية يؤدي الى اضعاف الكيان الثقافي والفكري في الوطن العربي، في الوقت استطاعت اللغة العربية عبر التاريخ ان تؤدي مهامها المعرفية كاملة كأداة اساسية للاستيعاب والتبليغ والابداع وكلغة للحياة والفكر والعمل.
4- القصور في النظرة العلمية للغة العربية من البعض، حيث لا تزال هناك اصوات تتكرر حول عجز اللغة العربية عن مسايرة التقدم العلمي وتقتصر المجامع العلمية العربية عن ان تخرج بانتاجها في مجال المصطلحات الى عالم التطبيق اللغوي، فان استمرار الاعتماد على اللغات الاجنبية الاساسية سيجعل من اللغة العربية تابعة للتطور بدلاً من ان تكون مواكبة له.
* اشكاليات الترجمة
اما ما يتعلق بقضايا الترجمة ومعاييرها، فانها ما زالت عندنا في الوطن العربي تعاني هي الاخرى من بعض الاشكاليات والسلبيات، منها:
1- تركيز الترجمة على نقل ما ينشر في لغة واحدة او اثنين، هي الانكليزية والفرنسية، وندرة المواد المترجمة عن لغات اخرى، وهذا من شأنه ان يكرس اتجاه المؤثرات وتلقيها من جانب واحد دون الاطلاع على تيارات الفكر العالمية الاخرى في مختلف انحاء العالم.
2- تعدد الترجمات لنفس العمل الواحد وتكرارها دون تنظيم او تنسيق مما يهدر كثيراً من الجهد والوقت والمال.
3- عدم وجود ترجمة متفق عليها في بعض المصطلحات والمفاهيم.
4- قصور انظمة التعليم عن تدريب المترجم المتخصص في فرع محدد من العلوم. ويكتسب هذا الموضوع اهميته من محاولته التغلب على الواقع العشوائي والمزاجي الذي تعاني منه الترجمة في الوطن العربي.
5- افتقار الترجمة الى العربية على المستويين القطري والقومي. كما انها لم تبن على دراسة الواقع الراهن بلغة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والافاق المستقبلية في الوطن العربي، ولم تسع لتلبية متطلبات العصر، ودرج التطبع عند القارئ.
ولا شك، ان وجود الفجوة العلمية والتكنولوجية التي تفرض وجودها على قضية الترجمة، تتضح ابعادها جيداً بين الدول المتقدمة التي تخطو الى امام بسرعة مذهلة مقارنة بمجتمعاتنا العربية. فمختلف العلوم تتجدد في الدول المتقدمة بمعدلات متزايدة، في حين تتسم بالركود عن مجتمعاتنا العربية، مما يعني ركود لغتنا العربية معها.
* اشكالات المترجم
الترجمة، كمامر بنا… حرفة فكرية ينبغي على من يشتغل بها، احكام اصولها واستيفاء شروطها، كونها فناً ومهارة وابداعاً بقدر ما هي علم.
وعليه، فمن الواجب ان تكون لغة المترجم ومعرفته بشؤونها اعمق من معرفته باللغة الاخرى، ذلك لانه لم يملك الحس اللغوي المطلق، فان المعاني الكبيرة تظل خارج طاقته. فمعرفة لغة ثانية ما، لا تعد اساساً كافياً للقدرة على الترجمة، اذ لا بد من الالمام التام والاحاطة الشاملة باللغة واسرارها من اجل الترجمة، على ان التمكن التام والاحاطة باللغة ايضاً وحده لا يكفي، اذ لا بد ان تتوفر في المترجم الى جانب ذلك:
1- المرونة والمهارة والحذق في استخدام اللغة والتصرف بها، بحيث تكون له بصيرة ثابتة في اختيار المعاني وانتقاء الالفاظ المناسبة والمعبرة اكثر من غيرها. بمعنى ادق، ان يتقن المترجم اللغة المنقول منها، وان يكون عارفاً باساليبها البيانية، ذوقاً لأدابها وفنونها، ملماً بقدر من علوم مجتمعها وثقافته، وان يكون على وعي تام بظروف المجتمع الذي يترجم منه واليه، ونفسية كل منهما وعاداتهما وتقاليدهما… لأن اللغة جزء من الحياة الاجتماعية ومتأثرة بها.
2- ان يعرف المترجم العلم الذي ينقل منه، بحيث يكون محيطاً بمسائله وقضاياه، خبيراً بدقائقه وتفاصيله، ملماً بمصطلحاته وتعريفاته… فيسهل عليه فهم النصوص، ولا تستغلق المعاني في ذهنه، ويتجنب بذلك اللجوء الى الترجمة الحرفية والتخبط فيما ينقله، وليس هذا فحسب بل يجب ان يكون ذا حس ادبي يتيح له ان يضفي على العمل المترجم شيئاً من الخلق والابداع. فالترجمة ليست نقلاً ميكانيكياً للمعنى بل هي اعادة خلق وابداع والابتعاد عن القوالب اللفظية الجامدة… وهذا ما نلمسه عند مقارنة عدة ترجمات لنفس العمل، اذ نجد الفرق واضحاً بينهما.
3- ان يكون المترجم اميناً، فامانته في الترجمة يجب ان تكون مطلقة وان يتصدى المترجم لادق التفاصيل.
4- ان ينقل المترجم الأثر/ النص الى لغته الام وكأنه يعيد تأليفه من جديد. فالترجمة الحقيقية هي اعادت تأليف.
* مرتجيات….
ان الترجمة على اهميتها وضرورتها عمل لا يخلو من المجازفة ان لم نقل الاساءة الى المادة/ النص المترجمة. لذلك يصفها البعض بالخيانة لانها في بعض الاحيان تتدخل من خلال الصياغة اللغوية بتحريف بعض المفاهيم والمقاصد.
الترجمة، ليست عملية ناجحة دائما وليست عملية مفيدة دائماً.. لسبب بسيط، اننا من النادر نجد مترجماً يتقن لغة اجنبية ويتقن لغته الام اتقاناً قائماً على المستوى الثقافي لا على المستوى اللغوي والنحوي والصرفي.
صحيح اننا نجد جملة تقوم على قدميها بشكل جيد لغوياً ولكن فيها شيء ناقص، فيها شيء لا ينقل روح النص ولكن بطبيعة الحال كل الاشياء الجيدة نادرة. فكم من عمل ابداعي رائع جميل تعرض للتشويه بسبب سوء الترجمة، ففقد الكثير من حرارته وجاذبيته، واحياناً يفقد الكثير من وضوحه ويتحول الى موضوع غامض ومفكك، ناهيك عن تسبب الترجمة في بعض الاحيان في احداث بعض الفوضى والخلط في ترجمة ونقل المفاهيم والمصطلحات بسبب عدم الدقة في الترجمة. وتعد ترجمات نفس المفهوم او المصطلح واختلافها من مترجم الى آخر وما يترتب عليه من سوء فهم وغموض واثارة البلبة الفكرية عند القارئ. علماً ان سلبيات الترجمة في الاعمال الابداعية في مجال الادب والفن تكون اكثر ظهوراً ووضوحاً. فطبيعة هذه الاعمال الابداعية تجعلها تفقد الكثير من روحها في حال توفر الترجمة الجيدة بسبب اختلاف البيئة والظروف وغيرها من العوامل… ومن البديهي ان يكون الامر اكثر سوءاً في حالة الترجمة السيئة، وما ينطبق على الترجمة في الكتابة ينطبق على الترجمة في وسائل الاعلام… وما يعرض فيها من اعمال ابداعية… فكم من رواية او مسرحية عالمية تعد من روائع الابداعات العالمية تعرضت للتشويه عند ترجمتها في هذه الوسائل.
وعلى اساسه… بات الامر في نظرنا يستدعي تأسيس مركز عربي قومي خاص بالترجمة ينقل من اللغات الاخرى، الانتاج العلمي والفكري الذي يمكن ان تستفيد منه كل الاقطار العربية بعد ان تسهم به كلها بالمال والعلماء والامكانات الضرورية الاخرى، وان تكون الترجمة صادرة عن هيئة علمية يناط بها الاشراف على نقل الاثر ومراجعته وتدقيقه وتركيبه، وبالامكان ان ترعاه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ويكون العاملون فيه غير رسميين، ويتم الامر عن طريق تكليف اساتذة الجامعات والباحثين المتمكنين من الترجمة، بترجمة المستخلصات والمقالات والكتب، ويشرف على المركز متخصصون بالترجمة العلمية والفكرية، وهم موجودون ولهم اسهامات جيدة في هذا المجال.
ان الحديث عن الترجمة قد يطول، لكن تأتي لحظة نضطر فيها الى التوقف مؤقتاً عن الحديث وقبل ان نفعل نعرب عن املنا في ان تحتل الترجمة ويحتل نقل النصوص من العربية واليها، مكان الصدارة في الاهتمامات الثقافية العربية بحيث يتصل الحوار بين الاداب المختلفة… وتضيق الفجوة التي تفصل بينهما وتهيء الظروف لوجود ادب انساني حقاً بفصل الترجمة.
[email protected]