19 ديسمبر، 2024 12:10 ص

القصيدة من وهج الفِطْرَةِ إلى يقين النظرِية

القصيدة من وهج الفِطْرَةِ إلى يقين النظرِية

مُفْتَتَحٌ إجْبَارِيٌّ :
شهد ميدان قراءة النصوص الشعرية تغيراً كبيراً في مفهوم القراءة لاسيما التي تخطت مفهوم تعرف وتمييز الرموز والدلالات المباشرة إلى تأويل العلامات وفق منظور القارئ المبدع ، فلم يعد مفهوم قراءة النص الشعري في نهايات القرن العشرين ينحصر في تمييز الحروف والكلمات وتبصرة المتلقي بمضامين القصيدة كما سطرها الشاعر بنفسه ، وجهر المنشدين بها ، ذلك المفهوم الذي ظل سائداً في التداول النقدي الذي ضيق رؤية النظر صوب النص الشعري ووقف عند تخومه رافضا أية محاولات ترنو إلى سبر أغوار الخطاب الأدبي ، فقد تغير هذا المفهوم ليتضمن الى جانب ذلك قيام الناقد / المتلقي بعمليات وممارسة مهارات وإحداثيات عقلية متنوعة تتسم بالتعدد والاختلاف ، ومن تلك العمليات والإجراءات فهم رؤية الشاعر للعالم ، وموقف الشاعر من الاتجاهات النقدية السائدة وقت نظم النص الشعري ، والنقد ، بالإضافة إلى ما يكرس له الناقد من تعزيز الذائقة الجمالية لدى المتلقي لاسيما وأن البعد الموسيقي الظاهر قد غادر القصيدة المعاصرة وربما بغير رجعة .
وبهذا التغاير في طبيعة تلقي النص الشعري ، انعكس مفهوم القراءة على كيفية تطبيق بعض الممارسات والتقنيات القرائية في تلقي النصوص الشعرية ؛ لتتسق هذه القراءة المتشظية مع الاتجاهات العلمية والنظريات الحديثة للغة من ناحية ، ولطبيعة النصوص الشعرية نفسها التي باتت تعلن عن نفسها بوصفها خطابا لغويا وليس مجرد نص أدبي ، وشتان بين المصطلحين ، وهذا يعد فاصلة القول في الاختلاف والتشاحن بين المنتمين إلى قصيدة التفعيلة والمنتمين إلى معسكرات قصيدة النثر .
قِرَاءَةُ النَّصِّ مِنْ الفِطْرَةِ إلى النَّظَرِيَّةِ :
والمستقرئ لهذا التحول المتسارع في التوجه النقدي لقراءة الخطابات اللغوية المعاصرة ، يمكن أن يرجع هذا التغيير في التلقي إلى ما شهدته الدراسات النفسية التي تناولت بشئ من التحليل العميق مسارات وتحولات عمليات القراءة التي سارت في اتجاهين متوافقين هما الفحص والتأويل ، الجدير بالذكر أن الاتجاهات النقدية للنصوص الشعرية طيلة القرن العشرين باستثناء نهاياته أي منذ الثمانينيات استحالت رهن النظرية السلوكية ، بل إن النظرية السلوكية استطاعت أن تفرض سطوتها بقوة على كل حركات التلقي الشعري ، ليس هذا فحسب ، بل إن أساطين الترويج لاستخدامات النظرية السلوكية في ميدان النقد الأدبي مهدوا طويلا لاعتناق النقاد لمبادئ وأسس تلك النظرية مشيرين إلى اعتمادها في تعليم مهارات القراءة ـ بوجه عام ـ في المدارس والجامعات .
لكن لم يفلح المروجون لتطبيق النظرية النقدية المستندة إلى نظرية علم النفس السلوكي طويلا ، لأن التطور السريع والمتسارع بل والمتصارع أيضا بين النظريات التقليدية لعلم النفس أنتجت تطورا آخر في تفسير النمو العقلي لدى المتلقي للنصوص الأدبية ، وهو ما نتج عنه تطورا رهيبا في تفسير عمل فيزيقيا الدماغ وهو يتناول الأعمال الأدبية ، وأسفرت بالضرورة بحوث علم النفس اللغوي عن بزوغ تيار جديد هو علم النفس المعرفي ، الذي أكد أهمية وخطورة العمليات الداخلية المعرفية في عقل القارئ التي تغافلها قصدا السلوكيون .
ونتيجة لظهور هذا التيار الجديد تغيرت النظرة للغة عموما ولقراءة النصوص الأدبية بوجه خاص، وأسفر ذلك عن تطورات جديدة في طبيعة القراءة ، وطبيعة عمل الذهن فيها ودور القارئ الذي تحول من متلقٍ سلبي إلى مبدع ومشارك في صناعة وصياغة النص عن طريق تأويله ، مما واكب ذلك ظهور بعض النظريات الجديدة في النقد الأدبي .
ثَوْرَةُ التَّلَقّي :
وتطالعنا كافة الكتب التي أرخت للحركات النقدية المعاصرة منذ ثمانينيات القرن الماضي ـ في الوطن العربي ـ أنه من بين هذه النظريات النقدية التي أنتجتها النظرية المعرفية في أثناء صراعها مع النظرية السلوكية التي باتت من النظريات القديمة التقليدية في تفسير الفعل الإنساني نظرية التلقي أو ما اعتاد تسميتها على سبيل الشيوع نظرية التأويل ، وقد ظهرت هذه النظرية التي تجاوزت حد التنظير إلى التطبيق والممارسة بسبب النزاع الطبيعي بين المناهج النقدية الذي تغذيه نظريات معرفية مختلفة من بدايات السبعينات في جامعة كونستانس .
وهذه الآلية الجديدة في تناول النصوص الأدبية تم تقديمها من خلال الجهود الفردية تارة والثنائية تارة أخرى عن طريق الطروحات التنظيرية التأسيسية لكل من (ياوس ) و (آيزر) ، وكانت الرغبة الحقيقية لديهما ـ في أغلب الظن الذي يشارف اليقين ـ هو الوصول إلى رؤية نقدية في قراءة الأعمال الأدبية مسايرة للاتجاهات العالمية الحديثة ـ آنذاك ـ وقد نتج عن تلك الطروحات المتتالية لكل من ( ياوس ) و ( آيزر ) تحول من الاهتمام بالنصوص الأدبية وأصحابها إلى متلقي هذه النصوص .
القَصِيْدَةُ الافْتِرَاضِيَّةُ :
في ضوء هذا التحول الثوري في طبيعة القراءة النقدية وكنه القارئ نفسه ، كان السؤال الرئيس المتزامن لطروحات ( ياوس ) و(آيزر ) ، وأيضا (بول ريكور ) هو كيف يكون القارئ هو معنى النص ؟ . وفي محاولات جادة للإجابة عن هذا السؤال تدافع علماء اللغة وأساتذة النقد الأدبي على السواء لإيجاد صيغة توافقية لا تتضمن حرجا أو غموضا والتباسا لها ، وكانت تلك الصيغة التوافقية تنص على أن مشاركة القارئ في نص لا تقف عند مهمة الشرح التقليدي الذي يؤدي بدوره إلى الثنائية بينه وبين النص ،بمعنى آخر أن القارئ بمنأى عن النص نفسه لأنه ملك حصري لمنشئه فقط ، لكن هذا القارئ ينبغي عليه في ظل التطور النقدي المصاحب لنظرية التلقي أن يكون شريكا رئيسا في صناغة المعنى وصوغه بل واكتشاف ما به من ثغرات وفجوات تعتريه .
ولهذا ، وكما يشير النقاد المعاصرون ، فإن الفضل في إعادة السيطرة للقارئ في تناول النصوص الأدبية يعود للنظرية المعرفية وليس لطروحات المدرسة الألمانية فحسب ، لأنها ـ النظرية المعرفية ـ عضدت دور القارئ في صناعة المعاني وتحول التركيز من النص وصاحبه الذي أعلن موته منذ بنيوية رولان بارت ، إلى الفعل الإجرائي للقارئ وما يمارسه من عمليات وإحداثيات في أثناء تلقيه للنص الأدبي .
وينبغي الإشارة والتنويه إلى أن الظهور الحتمي لنظرية التلقي التأويلية كان نتاجا طبيعيا للتفاعل الإيجابي والمتبادل بين النظريات المعرفية ، والأفكار الفلسفية ، والمنهجيات والإحداثيات الفكرية التي اعتبرت قضايا التأويل أبرز مناحي الاهتمام في نقد النصوص الأدبية وليس فهما وشرحها ، وجاءت هذه النتيجة لتؤكد على أن قراءة النصوص الأدبية ونقدها لم تعد عملية سلبية أو مجرد استهلاك معرفي وفق سطوة المبدع وحده ، ، بل إن القارئ / الناقد هو المؤسس الحقيقي للمعنى والشريك الرئيس في صناعته وتحديد ما في النص من مضامين خفية لم يصرح بها المبدع .
مَطَر .. مُكْتَشِفُ الموُمْيَاءِ المُتَوحِّشَةِ
يعتبر الشاعر المصري محمد عفيفي مطر أحد رواد الحداثة في الشعر العربي ، كما اعتبره الكثير من النقاد المعاصرين أنه أبرز شعراء جيل الستينيات في مصر والذي امتاز في نصوصه بثورة لغوية تجاوزت حد المألوف الشعري وسط أقرانه .وربما خصيصة التفرد التي اتسم بها محمد عفيفي مطر ونصه الشعري جاء من التزامه بالخط والنسق الشعري شديد الاتساق والإحكام الذي اعتدناه به يؤكد على أنه شاعر قصيدة والتزام، وفي لحظات إعلامية قليلة البزوغ نجده معلنا عن نفسه نفسه بهذه الخصوصية الموجودة في خطابه الشعري ، كونه شاعرا خارج التصنيف وخارج الوصف والتوصيف الاعتيادي ، فلا يمكن اعتبار شعره ينتمي إلى تيار الحداثة التي تزامنت مع إحداثيات نكسة العرب في يونيو 1967 ، ومن الخطأ توصيف خطابه على أنه كلاسيكي نظرا لما يرتاده من مناطق لغوية مغايرة للسمات الإبداعية لدى مدرسة الإحياء والبعث التي تعتبر من كلاسيكيات الشعر العربي ، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نشير إلى صعوبة الموقف النقدي تجاه نصوص محمد عفيفي مطر.
فهو عادة يكتب في منطقة الوعي الجمعي للإنسان في إطلاق زاوية رؤيته للعالم المحيط ، ويطبق هذا الوعي تحديدا على المواقف السياسية ، لذا يصعب على الناقد تطبيق العقد النقدية الموروثة والمكتسبة على نصه الشعري. ولهذا فإن الملمح الأكثر بروزا في شعر محمد عفيفي مطر هو الإنسانية ، لذا من الأحرى على أولئك الذين تعاملوا مع شعره من منظور نقدي مجرد أن يتخلوا عن الأسس النقدية الجامدة ويعلوا القيم الإنسانية من جانب وداوني بالتي كانت هي الداء.
لذلك من النادر أن نجد في ديوان مطر الشعري لغة خطابية تشير إلى ( الأنا ) بل إن مجمل الخطاب الشعري عنده يشير إلى الآخر الذي قد يبدو غائبا أو محتجباً مؤكدا بذلك أن قضية النص شائعة ومتداولة لا تقتصر على صاحبها وهو الشاعر ، فنجده يقول في قصيدته ” فرح بالهواء ” : من لذة النضج في الثمر المتهاوي إلى زغب العشب / يبتل وجد الخلائق في الركعة الحاشدة / بدمع التأويل ، يعلو الدعاء بما يتنفسه الصبح والأرض” ، ونجده أيضا في قصيدة ” سهرة الأشباح ” يؤكد على هذا الوعي الجمعي ، يقول مطر : ” دق في الليل زجاج النافذة / وتدلى رأسه من قفلها .. ثم تجسد / قال : ” فلتلق على كفي ما تحمل من إرث الشكاوى / فأنا أصعد من جوعك للخبز الخرافي / وللشمس التي تطلع من آنية الحبر العتيق” .
وتأتي ترجمة مطر في موسوعة ويكيبيديا العالمية بأنه شاعر مصري ولد بمحافظة المنوفية تخرج في كلية الآداب بقسم الفلسفة ، ويعد أبرز شعراء جيل الستينات في مصر، وقد تنوّعت مجالات عطائه بين المقالات النقدية وقصص الأطفال وترجمة الشعر، وبأنه يعتبر الشاعر المنسي أو المُغيَّب الذي استطاع أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/ المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبنى وتردد أطروحاتها ، خالقة بذلك ‘ظلاماً ‘ كثيفاً يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصيرة والحياة.
القَصِيْدَةُ مِن الغُمُوضِ إلى تَثْوِيْرِ اللُّغَةِ :
ربما يعترف معظم النقاد الذين تناولوا نصوص محمد عفيفي مطر بشئ من النقد والتفسير وأحيانا التأويل بصعوبة المهمة اللغوية ؛ ليس لفقر الأدوات والتقنيات النقدية التي يستعين بها الناقد ، بل لغموض اللغة الشعرية التي تجتاح مجمل نصوص مطر من جهة ، وهذا التسارع اللفظي العجيب والفريد التي امتازت بها قصائده من جهة أخرى ، لدرجة أن النقاد الحداثويين حينما يلجأون إلى تقنية نقدية مثل أفق التوقعات ، فهم بالضرورة يجابهون نصا متمايزا غير متماثل ، وكل ما يمتلكه الناقد من أسلحة نقدية إزاء نص مطر يتجلى في التَّهَيؤ القَبليِّ المسبق للنص القائم على توقع غموض اللغة والاجتياح الدلالي للمفردات فحسب ، دون توغل التوقع في التنبؤ بمضامين القصيدة المسكوت عنها أو أحيا المصرح بها أيضا .
يقول مطر في قصيدته ” تعاشيق ” : “شمسٌ تميلُ، وسربُ الطير منفرط ومنعقدُ / والقمحُ من ذهبِ الأضواء يتَّقِدُ / يا أيُّها الولدُ / في عنكبوت الشمس –رَأدَ ضحىً- / عيناك من قَبَسٍ والقلبُ ينفئدُ / فاترك لنخلتكَ الفرعاء ما تجدُ من خضرة معجونة بالطلع لا تلدُ / أو غيمةٍ قد بَدَّدَ الزَّجَّاجُ غُرَّتَها / ما بين أقواسِ الزجاج الصلبِ لا ماءٌ ولا زَبَدُ” / والعشب بعض سوافٍ من ذرور اللون ينثرها / عصفٌ وأزمنةٌ، / والوجه مشتعلٌ، والطين لا يعد / والخيل صافنة الأشكال ضائعة، / والدّراعون هباء الذَرّ، / لا رمحٌ ولا زرد / اخلع خطاك..فهذي لوحةٌ تعشيقها جمد” .
وبالضرورة يقف الناقد / القارئ المبدع أمام هذه الأبيات متسلحا بأفقُ التَّوقُّع سواء وهو بصدد تناول النص في جملته العامة ، أو في أثناء القراءة ذاتها ، وهو بذلك ـ الناقد ـ يسعى لأن يرهق النص بجماعِ المكَونَات الثقافية والاجتِماعيَّة لديه، و المتلقي من خلالِ هذه الفَنيَّة يدخل في قَلبِ العَمَليَّة الأدَبيَّةِ ، ويكُون ـ القارئ ـ في تَواصلٍ دائمٍ مع شُروطِ الإنتاجِ ، والعلاقاتِ الأدبيَّة في النَّصِّ . وأفق التوقع ـ كفنية من فنيات القراءة في نظرية التلقي ـ له دَور مركزِي في عمَليَّةِ القِراءةِ للنُّصوصِ الأدبية ، فتجربةُ التلَقي من خلال هذا المفهوم تتداخل مع تجربةِ الكَاتبِ المبدع ، وهكذا ينطلق وعيه الأدبي من مجموعةِ تصوراتٍ سابقةٍ .
لذا فمن هذا المنظور النقدي يدفعنا النص السابق إلى تجاوز حالات الغموض الاستثنائية في توصيف الحالة الشعورية لمطر بتفاصيلها الطبيعية المعتادة كما كانت في نصوص نزار قباني أو النصوص الأولى لمحمود درويش وأنسي الحاج إلى الكشف عن مناطق الإبداع في تثوير اللغة وألفاظها ، وهو ما جعل الناقد ناصر المقرحي يصف مطر بأنه الشاعر الذي يسبق القصيدة بخطوة ، حيث يقول ” وتميزت المفردات المعبرة التي أحياها الشاعر واستحضرها من مُدونة الشعر والنثر العربيين قديماً فتجلت بطازاجتها الأُولى وطلّتها البِكر وكأنها ليست مفردات مهجورة تنتمي إلى عصور ولّت” .
فنجد مطرا يفجر طاقات اللغة بمفردات قد تبدو غريبة على النص الشعري الذي امتاز طوال تاريخه ـ باستثناء الشعر الجاهلي ـ بالسهولة واليسر في استجلاب المفردات ، فهناك ثمة مفردات تؤكد طاقة اللغة العربية في النحت والاشتقاق والتوليد من مثل رأد ، ينفئد ، سواف ، ذرور . والذي يشارف النص وفقا لفنيات نظرية التلقي وعلى وجه التحديد فنية السؤال والجواب فهو يلحظ أن الشاعر هنا لا يكتفي بتثوير طاقة اللغة ، إنما صاحب هذا التثوير الفكرة الكامنة وراء النص ألا وهي التحريض الإيجابي لولد وجده نفسه في أرض عقيم لا زرع ولا غيم ولا مطر ، فحرص على استخدام مفردات تفي بالفكرة التي تؤدي إلى انطلاق الفتى إلى مساحات أخرى ، حيث يرى هانز روبرت ياوس أنه لن نستطيع فهم النص الأدبي إلا إذا فهمنا السؤال الذي يجيب عنه هذا النص ، فكل قراءة للنصِّ عبارة عن سؤالٍ وجوابٍ معه.

شَخْصِيَةُ مَطَر فِي شِعرِه:
بالضرورة وكما يعتقد أصحاب الاتجاه القديم والتقليدي في النقد الأدبي أن النص الأدبي يعبر ويفصح عن صاحبه ، لذلك ارتدى معظم النقاد العرب ثوب الطبيب النفسي في التقاط أية تفاصيل تشي وتبوح عن سمات الشاعر وحياته ورحلته الشعرية ، تماما مثلما فعل النقاد بصدد ديوان أمير الشعراء أحمد شوقي ، أو كما فعل النقاد أيضا وهم يتناولون أشعار المتنبي بالدرس والتحليل . لكن في ديوان محمد عفيفي مطر أنت أمام شاعر لا يضطر أن يفرض تفاصيل حياته ورحلته الاجتماعية والسياسية على النص ، بل يطرح نفسه في النص كونه إنسانا مكتفيا بالفعل الإنساني الذي يتشارك فيه من ملايين من البشر ، هذا ما يمكن أن نلتقطه من خلال السطور الشعرية التي يتحدث فيها الشاعر بلسانه ، فنجده يقول في قصيدة وشم النهر على خرائط الجسد: ” وأرى في الشاطئ الثاني جنود الملك القاسي / يدقون الرماح / بيننا نهر من الماء ونهر من مساحات الوجوه / بيننا أرض أمومة ” ، وفي قصيدته ” امرأة ليس وقتها الآن ” يقول : ” تدثرني جمرة الليل / تفرط فوقي عناقيدها اللهبية / بيني وبين القميص الخيول الصواهل ” فهو ليس كنزار قباني الذي يفرض مساحات عريضة لشخصه في النص وكأننا نقرأ سيرة شخصية وليس نصا شعريا ، بل إنه يفرض نفسه على النص بصفته الإنسانية ، هذا الملمح الذي أكدته صورة المرأة في نص محمد عفيفي مطر ، فرغم ولعه بالجسد في إطلاقه الأرضي الجغرافي وولعه بمفردات التضاريس ، إلا أن توصيف المرأة في شعره جاء متلازما مع فكرة الاعتناق بالأرض ، أو المرأة التي لا يمكن القبض على تفاصيلها الأنثوية ، فهي الدم والطمي والنحاس الصقيل والعشب والنار والرماد والفقر والجوع ، باختصار إن المرأة تشكل في شعر مطر هي الطبيعة لا التجربة الشخصية الضيقة التي قد تنتهي إما بالزواج أو الفراق.
التَّصَوُّفُ فِي نصوص مطر :
لا يمكن لأي شاعر حديث أو معاصر أن ينجو بالفكاك من شَرَك وشِرَاكِ التصوف ، فمعظم شعراء الحداثة سقطوا طوعا في النصوص الصوفية باعتبارها أبرز وأعمق الروافد للقصيدة العربية المعاصرة ، هذا ما وجدناه في نصوص أدونيس ، ونجده بصورة أوضح في نصوص محمد عفيفي مطر ، وهذا ما أكده الشاعر بنفسه في نصوصه حيث الملامح المشتركة بين شعره والنصوص الصوفية من خلال الإشارة بالرمز ، والتأويل اللفظي ، والغموض التي يفتح مساحات شاسعة لتلقي النص ، فنجده يقول في قصائد متفرقة مستخدما الرمز الصوفي : ” اصدع بما تحلم الوقد أوسعه مر أضيقه مر ” ، ” واسحب صيفا من الصوف فوقي معي الشمس أبعدها أقرب ” ، ” هل باخع نفسك المستهامة في زجل النيب والطلل ” ، ” والأنجم انتثرت والسموات كشفن لي زمن الفتح ” .
إن محمد عفيفي مطر الذي يمثل الطاقة الشعرية للمفردات هو بحق لمزيد من الدراسة والتحليل وإعادة فتح ديوانه من جديد بغرض إلقاء الضوء على ما قدمه هذا الشاعر من إبداع شعري يستحق الإشادة .