ليس غريباً لكل من قرأ وسوف يقرأ المشهد المأساوي ، الذي أدى ، الى نهاية تراجيدية بنهاية حياة وموت الزعيمين في بلدين بعيدين ومختلفين العراق وتشيلي عبد الكريم قاسم وسلفادور الليندي ، الأ أن القائد اليساري الليندي أنهى حياته بعد أن خر صريعاً على عتبة باب قصره بآخر رصاصات من بندقية كلاشينكوف كان قد أهداها له رئيس كوبا فيديل كاسترو . المشهد قريب بين الأثنين كلاهما خدعا من قبل حاشيتهم وأقرب القادة الى قصورهم وحياتهم الخاصة والعامة أو ربما جهلهم بألاعيب السياسة ودهاليزها هو الذي قادهم الى الموت النهائي رغم حبهم لأوطانهم ونظافة ضمائرهم ، لكن هذا لايعينهم ببناء أوطانهم وسعادة شعوبهم .
وصل الليندي الى قصره عبر الانتخابات الديمقراطية ممثلاً عن اليسار والديمقراطية .ويعتبر أول رئيس دولة في أمريكيا اللاتينية في القصر الرئاسي ( لامونيدا) ذي خلفية سياسية ماركسية منذ ١٩٧٠ وحتى ١٩٧٣ عند أنتحاره في الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكمه والذي خططت له ونفذته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بقيادة الجنرال أوجستينو بينوشيه رفيقه في السلطة والقرار ، والذي يعتبر من أقرب معاونيه ومنحه عدة أوسمة ونياشين لدوره في الأمن الوطني والاخلاص له ، لكنه تخلى عنه وصحبه في شدة الأزمة ، بل أنقلبوا عليه وعلى نظامه في زمن حرج ، حيث أصطفوا مع قاتليه من قوى معادية لمصالح الشعب ونوايا تدخل خارجي ومما دعا الآخرين أن يعتقدوا سبب أنتحاره هو من هول الأزمة واليأس والمأساة الى لحظة تجلي الوعي في الخيانة الوطنية ، عندما وجد نفسه معزولاً ووحيداً يواجه مصيره . في أول الساعات عندما بدأت الطائرات الحربية تدك وترمي حمم قنابلها على القصر الرئاسي تخلى عنه قادته ومريدية رغم بياناته المتكررة من أذاعة سرية تدعو الشعب والقوات المسلحة الى فض الحصار على القصر الرئاسي والمقاومة لكنهم تركوه وحيداً ليتلقى مصيره النهائي ، وهذه التراجيديا السياسية قريبة في أحداثها على تاريخ العراق السياسي الحديث ومقتل الزعيم في جمعة ٨ شباط ١٩٦٣ . عندما حصر نفسه الزعيم في وزارة الدفاع تحت وابل قنابل الإنقلابيين وتخلى عنه كل مقربيه جاسم العزاوي حميد حصونه وآخرين كثر ، ولم تنقذه بياناته التي سربها عبر حراسه الى مبنى الأذاعة في الصالحية وبعضها سلمت الى أيادي الإنقلابيين ، مما أدى به المصير أن يسلم نفسه يائساً الى الإنقلابيين وهو الأدرى بمصيره المحتوم ، فقاده قدره الى الموت تحت رحمة وعودهم الخائبة ودهشة محبييه ورفاقه . ليسدل الستار على حقبة سياسية مهمة في العراق ، كانت في ظله بناء وأعمار وأفاق وطموحات ورغد للفقراء في العيش ، لكنها مغلفة بقالب سياسي مضطرب بالخوف والأنفجار لنزعته العسكرية في أدارة شؤون البلاد والعباد .
ولد سلفادور الليندي في تشيلي يوم ٢٦ يونيو ١٩٠٨ وأستشهد في ١١ أيلول ١٩٧٣ وهو طبيب وسياسي وذي عقلية يسارية وطنية ومن أصول إسبانية . وكان آخر بيان بثه الى أبناء شعبه قبل إنتحاره .
أعلن أني لن أتنازل ، اني مستعد أن أقدم حياتي دفاعاً عن السلطة التي ائتمنتني الشغيلة عليها، أن هروبي سيكون أقذر من خيانة هؤلاء الجنود الذين خانوا وطنهم…عاشت تشيلي، يحيا الشعب، يحيا العمال! هذه هي كلماتي الأخيرة، وأنا واثق من أن تضحيتي هذه لن تكون عبثية.وستكون العقاب المعنوي للخونة والمتأمرين .
كان من أهم رجالات سلفادور الليندي ورفيقه في النضال والذي جمعهم الفكر الماركسي وفرقهم الموت الشاعر الشيوعي بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل للاداب والذي مات بعد ١٢ يوماً من أنتحار رفيقه سلفادور الليندي وما زالت التكهنات متناقضة حول موته . وما أميط اللثام حوله بعد حفنة سنيين ، أنه مات في أحدى المستشفيات بحقنة سامة ، عندما كان راقداً تحت جرعات أوجاع سرطان البروستات في ظل الفوضى التي عمت في البلاد .
وقد شهدت الحياة السياسية ورموزها في العالم طبيعة العلاقة بين الحاكم السياسي والمثقف وتأثيراتها على صورة البلد ، مثلما عرف بدور العلاقة على طبيعة النظام وأسس أركانه بين مفجر ثورة أكتوبر لينين وأبن الثورة الأديب مكسيم غوركي .
وفي تجارب التاريخ صور عديدة عن العلاقة بين الزعيم أي رجل السلطة والمثقف رغم تناقضات فصولها وتركيبة أهدافها فرجل فرنسا القوي العسكري ورمزها شارل ديغول وبعد أن توج فرنسا بالنصر وهزيمة المحتلين الألمان ودخوله قصر ( الشانزليزيه ) أعطى للمفكر والروائي الفرنسي ( أندريه مالرو ) منصب وزيراً للثقافة ومستشاراً ثقافياً له تعبيراً عن وجه فرنسا الجديد بعد دحرها للإحتلال النازي الالماني .
أيضاً أراد وتمنى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بعد مفاوضات ( أوسلو ) ، أن يقلد الرئيس ديغول في خطوته بالعلاقة بين الرئيس والمثقف فتمنى أن يكلف الشاعر محمود درويش بمهمة وزارة الثقافة أو مستشاراً ثقافياً له . فكان رد الشاعر درويش سريعاً .. لا أنت ديغول ولا أنا أندريه مالرو .. ولا فلسطين باريس ولا باريس فلسطين .