منذ وقت مبكر، راحت الازمة الاقتصادية في العراق جراء جائحة كورونا والتراجع الحاد بأسعار النفط في الاسواق العالمية تلقي بظلالها الثقيلة على البلاد، وتتصدر اهتمامات وهموم الحكومة الجديدة التي لم تتعد الشهر الاول من عمرها.
الاشارات الاولية تفيد بأن حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تواجه مشكلات حقيقية في تأمين رواتب موظفي الدولة والمتقاعدين وشبكة الحماية الاجتماعية، ويدور حاليا بحث ونقاش معمق لايجاد حلول ومعالجات عملية تجنب البلاد مأزقا كبيرا وخطيرا، لاسيما وان الرواتب تشكل النسب الاكبر من النفقات الحكومية العامة (النفقات التشغيلية) التي تعتمد بصورة اساسية على عائدات بيع النفط.
الزيارة الاخيرة لوزير المالية علي عبد الامير علاوي مبعوثا خاصا من قبل الكاظمي الى المملكة العربية السعودية تأتي في سياق البحث عن مخارج سريعة لهذه الازمة الخانقة. حيث يتحدث المراقبون والاوساط السياسية عن ثلاثة اهداف وراء زيارة الوزير علاوي للرياض، تتمثل في الحصول على الدعم المالي الفوري، وتشجيع الشركات السعودية على توظيف رساميلها للاستثمار في العراق، وتعزيز التبادل التجاري بين البلدين، وكل ذلك في اطار رؤية يتبناها رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي تقوم على مبدأ الانفتاح على المحيط الاقليمي بصورة متوازنة بما يسهم بأبعاد العراق عن دائرة الاستقطابات والتقاطعات بين بعض الاطراف واخراجه من دوامة الازمات، وهي في الاطار العام رؤية سليمة وصائبة، لكنها في كل الاحوال لابد ان تكون محكومة بحقائق ومعطيات سياسية لايمكن القفز عليها وتجاهلها.
وفي تصريحات واحاديث عديدة ادلى بها الوزير علاوي من الرياض، اشار الى ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين العراق والسعودية بنفس مستوى العلاقات بين العراق وكل من ايران وتركيا، قائلا، “أن الدور الاقتصادي السعودي في العراق نوعا ما خجول، خصوصا أن حجم الاقتصاد السعودي يعادل نصف حجم اقتصاد العالم العربي، ولكن وجودها ضعيف نسبيا مقارنة بتركيا وإيران اللتين يصل حجم استثماراتهما إلى اثني عشر مليار دولار في السنة، مقابل حجم استثمارات السعودية في العراق الذي يصل إلى مليار دولار في السنة”، ويضيف علاوي، “نريد أن نغير التوازن، ونسعى إلى زيادة حصة السعودية داخل العراق في مجالات مختلفة، منها الكهرباء والنفط والبتروكيمياويات والزراعة، حيث ان تدفق الاستثمارات السعودية في العراق، رغم العراقيل الموجودة أمام المستثمر السعودي، تؤدي دوراً أهم وأكبر في عملية إعادة إعمار العراق”.
ومن غير الواضح، فيما اذا كان مصادفة ام غير مصادفة ان تتزامن زيارة وزير المالية العراقي للسعودية مع تسريبات صوتية لحديث طويل بين الرئيس الليبي السابق معمر القذافي ووزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، تعود الى بضعة اعوام، يكشف فيها الاخير، ان السعودية ارسلت اربعة الاف ارهابي الى العراق.
ومن خلال متابعة مجمل الحديث بين الطرفين، وردود الافعال السعودية بشأنه، يبدو انه كان يراد منه افشال جهود ومساعي عمانية للتقريب بين السعودية وقطر، بيد ان ورود معلومات وارقام عن دعم الرياض للارهاب في العراق على لسان شخصية سياسية من طراز وزير الخارجية العماني، ينطوي على ابعاد خطيرة، حتى لو لم تكن قد جاءت متزامنة مع زيارة وزير المالية والتوجه نحو فتح افاق جديدة للتعاون الاقتصادي الفعال بين بغداد والرياض.
بعض الاوساط والمحافل السياسية والشعبية العراقية التي لم تظهر استغرابها وتفاجئها بما ورد على لسان الوزير العماني، دعت الى فتح كل الملفات والخوض في مجمل المشكلات والقضايا العالقة مع السعودية، دون الاقتصار على الجوانب المتعلقة بالقضايا الاقتصادية والتجارية فقط، وشددت على اهمية اخذ تسريبات حديث بن علوي على محمل الجد.
في مقابل ذلك، فأن مسؤولين مقربين من حكومة الكاظمي، يشيرون الى ان توجه الاخيرة الى الخارج لايقتصر على السعودية، وانما يستهدف دولا اخرى مثل دولة الكويت، مع الحرص على الاستمرار بوتيرة العلاقات مع ايران وتركيا، وكذلك تفعيل الاتفاقية العراقية-الصينية التي ابرمت العام الماضي في عهد حكومة عادل عبد المهدي السابقة، وهو ما يعني توسيع مساحة الخيارات والبدائل، وعدم التقيد بخيار واحد.
الى جانب ذلك، فأن مصادر حكومية خاصة تؤكد ان الجانب العراقي اشعر الجانب السعودي منذ البداية، ان تعزيز وتفعيل العلاقات بين الجانبين، لايمكن ان يكون في مقابل اغلاق ملفات مئات الارهابيين السعوديين المعتقلين في السجون العراقية والمدانين بأرتكاب عمليات اجرامية في العراق، بينما تذهب اوساط سياسية الى القول، بأن ملف الدعم السعودي للجماعات والتنظيمات الارهابية في العراق ملف خطير وكبير، ومن غير المعقول ان يتم تمييعه واغلاقه بسهولة تحت ذريعة الازمة الاقتصادية الخانقة. وترى تلك الاوساط بأنه يفترض بالحكومة العراقية ان تفتح هذا الملف مع نظيرتها السعودية، وبعد حسمه بطريقه مرضية ومقبولة للعراق، يصار بعد ذلك الى الخوض في الملف الاقتصادي وتعزيز العلاقات بهذا الخصوص بين بغداد والرياض.
وبين حالة الاندفاع بحكم ضغط الظروف وطبيعة القناعات من جهة، وحالة التحفظ وربما الرفض ارتباطا بخلفيات المواقف والتوجهات والسلوكيات من جهة اخرى، لابد من الاشارة والتنبيه الى جملة حقائق، من بينها، ان العراق يحتاج في هذه المرحلة بالذات الى توسيع دائرة علاقاته وامتداداته الاقليمية والدولية، هذا اولا، وثانيا، ان اي انفتاح وتوسع لايحدث بمعزل عن ايقاع الحراك الاقليمي وحتى الدولي، وطبيعة مسارات التعاطي مع الملفات والقضايا الخلافية العالقة بين القوى الاقليمية والدولية، وثالثا، ان السعودية ودول اخرى مثل الكويت، التي راحت الحكومة العراقية الجديدة تتحرك صوبها للتخفيف من وطأة الازمة الاقتصادية، هي ذاتها تواجه ازمات وضغوط غير قليلة بفعل ذات الاسباب والظروف التي اوجدت وعمقت الازمة العراقية، ورابعا، ان اية خطوات عملية لتعزيز وتفعيل الحضور الاقتصادي الاستثماري للسعودية يتطلب تهيئة ارضيات سياسية وامنية ونفسية واجتماعية حتى يؤتي ثماره بالنسبة لكلا الطرفين لا ان تكون نتائجه ومخرجاته سلبية لتزيد الطين بله، بدلا من تفتح الابواب الموصدة وتحطم الجدران العازلة وتقرب النفوس المنكسرة!.