الغزاة لم يأخذوا بأهم الوصايا الرصينة
في هذه المناسبة الأليمة والخطيرة أستذكر أن العديد من البحوث الرصينة التي إطّلعتُ عليها وتعمّقتُ في متونها أوائل عام (2003) -بحكم عملي خبيراً ستراتيجياً لدى “مركز الدراسات الدولية/جامعة بغداد”- قبل فترة قصيرة من الغزو الأمريكي-البريطاني لوطني الحبيب، وقد أعَدّتـْها مراكز ومعاهد بحوث ودراسات سياسية/ستراتيجية/مخابراتية رصينة وذات ثقل ومستويات رفيعة قبل أن ترفعها أمام أنظار صانعي القرار في “واشنطن”، فقد تَلَوتُ في متونها جميعاً وإستشفيتُ وجهات نظر متباينة حول إدارة الحرب على العراق وإسقاط نظامه السياسي القائم بأقصى سرعة ممكنة، وأساليب مقترحة لكيفية إدارة حكمه من بعد ذلك.
وقد صبّت تلكم المراكز وجهات نظرها بشأن الغزو ومخاطره ومدى نجاحه وإحتمالات إخفاقه… ولكن القائمين على إعدادها كانوا متّفقين في مقترحاتهم وتوصياتهم أمام أصحاب القرار على مسلكَين رئيسَين إعتبروهما في غاية الأهمية ومن الوجوب تحقيقهما على أرض “العراق” بعد إنهيار نظامه السياسي:-
الأول:- أن تحمل القوات الغازية على ظهورها ((حكومة وطنية عراقية)) -ولو كانت ضعيفة- تُناط إليها إدارة العراق فور سقوط النظام.
والثاني:- أن تبقى القوات المسلحة العراقية على حالها شريطة تطهيرها من قادة وعناصر خطرة، كي لا يحدث إنفلات أمني قد يودي بهذا البلد الى عواقب لا تعرف نتائجها.
لكن المستغرب أن أسوأ وجهات النظر وأعظمها إجراماً وحرقاً وقتلاً بالجملة في الحرب الوشيكة والغزو غير المبرّر للعراق وتدمير قواته المسلّحة وبناه التحتية، طـُبِّقـَت في معظمها… ولكن النقطتان الخطيرتان اللتان خصَّـتا ((أمن العراق ومستقبله القريب)) أُبْعِدَتا عن التنفيذ… فلا حكومة عراقية حُمِلَت على أكتاف الغزاة، ولا قوات مسلحة عراقية وأجهزة أمنية بقيت في أرض الواقع.
أخطاء لا تُغتَفَر سبقت القرار
لقد إقترفت قيادة التحالف المناهض للعراق وسلطة الإدارة المؤقتة معاً جملة أخطاء لا يُصَدّق أن تقدِم عليها دولة عظمى وسواها من دون تعمّد وسبق ترصّد وإصرار.
وفي هذا الشأن تقفز إلى ذهني يوم كنتُ برتبة “نقيب” تلميذاً في “كلية الأركان والقيادة العراقية” في نيسان/1973حيث كنا نتلقّى دروساً منهجية في (واجبات الأركان) نصّت إحدى مفرداتها:-
((تشكِّل قيادة الفرقة “حكومة عسكرية للشؤون المدنية” حال دخول تشكيلاتها أية مدينة، سواء أكانت في أرض العدو أم متمردة على سلطة الدولة))
وكنا ندرخ إجراءات تلك الحكومة المُفتَرَضة، والتي تبدأ بحظر التجوال وإعلان الأحكام العرفية فوراً، وإستدعاء القادة السياسيّين والعسكريّين والإداريين للخصم كي يوقعوا على وثائق إستسلام أصولية ولو توجَّبَ ذلك إستخدام السلاح، وإجبارهم على إصدار الأوامر إلى مرؤوسيهم لتسليم أسلحتهم في مواقع مُحددة وفقاً لمنهج زمنيّ، وفرض الحِفاظ على مؤسّسات الدولة ومُحتوياتها، وإصدار الأوامر الجازمة كي يلتحق سؤولو الأجهزة الأمنية وأفراها بمراكزهم، وإلى الأطّباء ومنتسبي المستشفيات وموظّفي الدوائر الخدميّة ومحطّات الوقود والمخابز لتحقيق المتطلبات اليومية لمواطني المدينة المحتلّة، قبل تشخيص المُسيئين والمشكوك في ولاءاتهم إبتغاء حجزهم أو تقييد حريّاتهم.
كان من البديهي أن يتّخذ الأمريكيون والبريطانيون كل تلك الخطوات، لا سيّما وأنهم أصحاب خبرات متوارثة في إحتلال الأقطار وإسقاط الحكومات، لذلك إستغربنا-نحن ضباط الأركان القدماء- كثيراً من هذا التصرف المُريب، الذي تمخّض عنه فقدان الأمن والأمان في بلد كان -حسب وصف المحتلّين أنفسهم- يتحكم به نظام دكتاتوريّ وشموليّ لا يعرف الرحمة.
فهل يُعقَل أن “واشنطن ولندن” لم تُخطّطا لِما بعد إحتلال العراق كما يزعم البعض؟! وأن “البنتاغون” والخارجيّة الأمريكيّة لا تدركان هذه الأمور!! وهل أن القادة الأمريكيون والبريطانيون لم يتلقوا دروساً مشابهة لمحاضرات الضباط العراقيين في كلية أركانهم المتواضعة نسبياً؟! وكيف يدير القادة الأمريكيّون العشرات من القواعد الضخمة في العالم وأضخم الأساطيل وحاملات الطائرات العملاقة لحماية مصالح دولتهم العظمى وحلفائهم وأصدقائهم، إن هُمْ ليسوا على دراية بمثل هذه الأمور المبدئية والأساسية؟؟!!
أخطاء لحقت القرار
وبعد قرار الحلّ تتابعت أخطاء أنكى وكانت نتائجها أمرّ من سابقاتها، ممّا أكسب المحتلّين مئات الآلاف من الخصوم المقتدرين على إستخدام السلاح، بعد أن قُطِعَ عليهم مصدر رزقهم، ناهيك عن إستشعارهم بالإهانة، ناهيكم عن عدم إتخاذ أية خطوات جدية لسحب الأسلحة المتنوعة من بين أيدي الذين ثبت أنهم إصطحبوها وخبأوها.
وجاء تشكيل “مجلس حكم مؤقت” على أسس عرقيّة وطائفية ومذهبية، وتعيين الأغلبية العظمى من أعضائه ممن كانوا مقيمين خارج العراق لعقود من الزمن، فلم يستطع معظمهم أن يتفهّم واقع العراقيين وبالأخصّ خلال الأعوام العشرة الأخيرة من العهد السابق.
وتشكّلت “هيأة إجتثاث البعث” المجرمة بحق العراق، لتتخذ قرارات على شكل عقوبات جماعية حيال الملايين من العراقيين الذين كانوا قد اُضطُرّوا للإنتماء إلى صفوف ذلك الحزب… ثم أُلغِيَ جميع دوائر الدولة العليا وصادروا ممتلكاتها لصالحهم مقابل أثمان بخسة، وإعتبروا منتسبيها مطرودين من الخدمة بلا حقوق ولا رواتب تقاعدية.
وجاءت خطوة تشكيل “الشرطة العراقية” من نقطة الصفر بجمع أشخاص من الشارع العراقي، ومن دون تحقيق هوية، وأخفقوا في تسليحهم وتجهيزهم بمعدات يتفوقون بها حتى على ما لدى الجناة والعابثين… وماطلوا في إعادة تشكيل بعض الجيش العراقي من الصفر، وشكّلوا أول أفواجه على أسس طائفية وبرواتب بخسة وبأسلحة بسيطة.
ولم تكترث الإدارة الأمريكية بظاهرة البطالة التي عمَّت الشارع العراقي، في حين منحت أعضاء “مجلس الحكم” وكبار مسؤولي الدولة رواتب ومخصصات تبلغ بضعة آلاف من الدولارات، حتى تساءل المواطن العراقي عن ماهية الفرق بين ترف مسؤولي النظام السابق و((رموز))العراق الجديد… وأهملت معضلات الكهرباء والمجاري والشوارع، وحتى المحروقات التي تضاعفت أثمانها في السوق السوداء إلى عشرات أضعاف أسعارها الرسمية.
وقد شابت العنجهية جنودهم في دورياتهم ومداهماتهم للبيوت، وثبّتت بحقهم سرقة الأموال والذهب، وكذلك المال العام من المؤسسات الحكومية وأمام الأنظار دون أن يجرأ أحد المسؤولين العراقيين إتخاذ أي إجراء بحقهم… ولم يتخذوا خطوات جادة للسيطرة على التسلّل والتهريب وضبط الحدود، أو إعادة تشكيل قوات الحدود العراقية بإستدعاء منتسبيها السابقين ليرابطوا في مئات المراكز الحدودية السائبة.
وقد سمحوا لزعماء الأحزاب وكبار إداريّي “العراق الجديد” أن يستحوذوا على قصور فارهة تركها قادة النظام السابق وأقرباؤهم فإتخذوها مساكن لشخوصهم ومكاتب لأحزابهم ومراتع لراحتهم وإستجمامهم ولياليهم الحمراء الباذخة، ما أثار إرهاصات مشهودة لدى عموم العراقيين.
وقد حصروا مفهوم “الأمن” في مجرد الحفاظ على قيادات وأفراد قوات التحالف وكبار مسؤولين العراق، وملأوا الشوارع بجدران كونكريتية مزعجة، وقطعوا الجسور، وإعتبروا أجزاء مهمة من بغداد والعديد من المدن الكبرى مناطق محرّمة على عموم العراقيين.
وفشلوا كذلك في إعداد دستور إنتقالي للبلاد، وفرضوا عوضاً عنه “قانون إدارة الدولة المؤقت” الذي حوّلوه إلى دستور دائم هزيل، ما أفسح أكثر من مرتعٍ خصب لصراع عنيف على السلطة في أي ظرف سانح… وقد أمضى”المدير الإداري لسلطة الائتلاف” وآخر رئيس دوري لمجلس الحكم بعد محادثة قصيرة على إتفاقية غير واضحة المعالم تقضي بنقل سلطة الإحتلال إلى حكومة عراقية مؤقتة هزيلة، ومن دون تهيئة أرضية ملائمة لهذه الخطوة الخطيرة والحساسة.
ولذلك إعتبر 99% من العراقيين قذف الصحافي “منتظر الزيدي” رأس الرئيس “جورج بوش” بحذائه يوم 14/12/2008 تفريغاً للبعض من مشاعرهم وتعبيراً لمكنوناتهم حيال الإدارة الأمريكية، كونها حققت وفقاً لمآربها ((دولة عراق اللادولة)) بمرتكزات عوجاء خاوية، وأحرقته وأمعنت في تدميره ومحو حضارته، وأقحمت الإرهاب في ربوعه بغية إبعاد مخاطر التطرف والإرهاب الدولي عن العالم الغربي، ما جعل العراق بعيداً عن أن تقوم له قائمة لعقود قادمة.
ستراتيجية الدولة… على ماذا تعتمد؟؟
من البديهي أن أية دولة في العالم تستند في إدارة شؤونها وتسيير ستراتيجياتها على مرتكزَين أساسَين لا ثالث لهما، أولهما الوسائل الدبلوماسية، وثانيهما القدرات العسكرية، إذْ ينبغي موازنتهما وإستثمارهما وتحقيق التناغم بينهما لإستحصال الأهداف التي تضعها القيادة العليا للدولة نصب عينيها.
فأمور البلد في ظروف السلم تسيّرها الوسائل الدبلوماسية وتحاول بشتى الوسائل إبعاده عن الحرب، وتستثمر الدوائر المتاحة لدى وزارة الخارجية على وجه الخصوص، إضافة لما متاح من أدوات الدولة الإقتصادية والعلمية والثقافية والإجتماعية بشكل عام وفقاً لمعاهدات وأحلاف ومواثيق وإتفاقيات وبروتوكولات.
لكن الدولة يجب أن توفّر تحت إيديها إلى جانب كل ذلك أدوات مسلحة مقتدرة ومجهّزة تقف ظهيراً للحفاظ على كل الوطن وما يحتويه، وبمثابة عصا غليظة ومرفوعة ومتهيئة إن حصل طارئ، وتكون مؤهلة للردع والدفاع والتعرض حيال الخصم، والإستباق بالتوغل في أعماقه ونقل الصراع المسلّح إلى بقاعه وإبعاد الصراع المسلّح من ربوع الوطن.
ذيول القرار
ولكل ذلك تمخّض عن القرار الأمريكي بحلّ القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية فقدان تلك الأداة الرادعة داخل الوطن والحفاظ على حدوده، حيث عمّت الفوضى وشاعت أعمال نهب مؤسسات الدولة ومنشآتها العديدة قبل أن يُُحرَق معظمها من دون تمييز، فيما تعرّضت الدوائر الخدمية الى السرقة وأعمال التدمير والتخريب والحرق بهمجية غير مسبوقة.
وإنعدم الأمن والأمان وطفحت الأعمال المسلحة ضدّ الدولة، إلى جانب عمليات ارهابية مروّعة أرعب المواطن العراقي فلم يعد مطمئنّ البال على ذاته وأفراد عائلته حتى في مسكنه على مدار الساعة.
وسابت حدود العراق الدولية مع (ست) دول مجاورة، فتدفّقت عناصر متنوعة مسلّحة نحو الداخل، ليس للجهاد المزعوم الذي أعلنوه فحسب، وإنّما لتصفية حسابات حيال الأمريكيين والبريطانيين وعساكر آخرين من جنسيات متعددة إنضموا إليهم كجزء متمم للتحالف الذي إعتبر العراق بلداً محتلاً بقرار أصدره مجلس الأمن الدولي بضغط مشهود من “واشنطن ولندن” يوم 1/مايس/2003.
كما نُقِلَت الأسلحة والأعتدة والمفرقعات شديدة الإنفجار من مستودعاتها ومخازنها الضخمة والمنتشرة في جميع أنحاء العراق وخُبِّئت داخل “بغداد” وضواحيها والمدن الكبرى والبلدات والقرى والبراري والبساتين والكهوف، وأُستخدمت ضد العراق الجديد ومؤسساته وعلى القائمين الجدد على إدارته.
ولم تعد دول الجوار -التي لم تكن على وئام مع “العراق”- تخشى سطوته وهيبته المعروفة إقليمياً، بل أن بلاد الرافدين أُخرِجَت من موازنات الإستراتيجيات المعتمدة في “الشرق الأوسط”، فإندفع الجميع للتدخل المفضوح في شؤونه الداخلية، داعمين العمليات المسلحة في بقاعه من أجل تصفية حسابات قديمة ومستحدثة، فضلاً عن أغراض مستقبلية عديدة.
وبين عشية وضحاها تحول “العراق” -وفقاً لتخطيط مُبَيّت- إلى جبهات صراع ومواجهات مسلّحة في أرضه وعلى حساب مواطنيه مع ما يسمّى بـ”الأرهاب العالمي” بغية إستبعاد المخاطر على الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعموم العالم الغربي.
وإنبثقت عصابات جرائم منظمة وإرهاب بثت الرعب وسط مراتع خصبة قتلاً وخطفاً وإبتزازاً وأخذ ثارات شخصية وعشائرية وتهريب مخدرات وأسلحة يتم تداولها أمام الأنظار، صاحبتها صولات وجولات لأناس ساقطين وأولاد شوارع في طول “بلاد ما بين النهرَين” المعروفة بحضاراتها العريقة وعرضها، وتدفّق عناصر من مخابرات البعض من الدول ذات الأهداف المغرضة وتمركزوا في “العراق” ليؤدوا أدواراً خبيثة للحيلولة دون إستقراره.
الآثار الإقتصادية
وكان لقرار حلّ القوات المسلحة العراقية تأثيرات إقتصادية أرهقت إقتصاد عموم الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر… فبعد أن كانت -بجميع مستلزماتها- قد كلّفت موازنات “العراق” لعشرات العقود من القرن العشرين -بدءاً من عام (1921)- ترليونات الدنانير (وقتما كان الدينار العراقي الواحد يعادل 3،13 دولاراً) لتمسي بين عشيّة وضحاها -بجملة قياداتها وتشكيلاتها ووحداتها وأسلحتها ومعسكراتها ومستودعاتها وقواعدها المادية والتدريبية ومؤسساتها العلمية والخدمية- هباء منثوراً، لأن إعادة تأسيسها وبُناها التحتية تتطلب جهوداً مضنية ووقتاً ثميناً ومئات المليارات من الدولارات، ليس لتعود الى سابق عهدها وماضيها المعروف، بل لمجرّد أن تقف على قدميها بعض الشيء في ظروف دولة يمكن وصفها بالمنهارة في أكثر من منحىً وبـ”اللادولة” في حقيقتها.
وقد مُحيَ ما كان قد تبقّى من منشآت التصنيع العسكري العديدة والمقتدرة التي كانت تحقق للقوات المسلحة العديد من إحتياجاتها الأساسية والإعتماد على نفسها والإكتفاء الذاتي من دون إستيرادها من الخارج، فضلاً عن إمكانات الإفادة من منتجاتها في المجالات المدنية والسوق المحلّية وخدمة الوطن والمواطن.
ولقد هُرِّبَت المواد المدمرة والأنقاض المحتوية على معادن ثمينة، ناهيك عن الآثار التي لا تقدّر بثمن، إلى الخارج وبين المحافظات مقابل مبالغ بخسة ومهينة أُنزِلَت في جيوب قادة الإحتلال وعملائهم وكبار القادة السياسيين للعراق الجديد.
ونُقِلَت رؤوس الأموال المرصودة من دون رقيب أو حسيب وهُرِّبَت إلى حسابات الفاسدين لدى الدول التي كانوا لاجئين فيها وقد إحتضنتهم وأفراد عوائلهم الذين لا يرتضون العودة إلى وطنهم الأصل، بل لا يعتبرونه وطناً.
وأُعْتـُدِيَ -وفقاً لتخطيط متقن وتنفيذ بارع- على المنشآت الإقتصادية والحيوية التابعة للدولة والمشاريع المهمة التي كانت تحت الإنجاز وإقتحمها المسلّحون التابعون لأحزاب سياسية غارقة بالفساد عنوة أو قصفوها، وفجّروا أنابيب النفط الخام وضربوا صهاريجه وصادروا مئات الشاحنات العملاقة المحمّلة والمستودعات الممتلئة بالمواد ونهبوا أبراج نقل الطاقة الكهربائية في وضح النهار بسبب إنعدام إمكانات الدولة على تأمين سلامتها.
الآثار الإجتماعية
وتفشت آفة البطالة، وتحوّل مئات الآلاف ممن كانوا يخدمون في صفوف القوات المسلحة ودوائر الأجهزة الأمنية المتنوعة ومنشآت التصنيع العسكري إلى مجرد أناس يذرعون الشوارع محرومين من لقمة العيش، فأُضطرّ العديد منهم للإنخراط في صفوف القائمين بالعمليات المسلحة، أو باتوا أفراداً ضمن عصابات، أو أمسوا يستخدمون السلاح المنفلت مستهدفين الحصول على لقمة العيش، او الثراء بالسحت الحرام… فيما هاجر ملايين العراقيين تحت ظلال الظروف الأمنية أو الإقتصادية، وإضطروا للعمل غير اللائق في أقطار طالما إقتاتت من فُتات موائد العراقيين وأموالهم طيلة عقود مضت، وإنضموا إلى (أربعة) ملايين كان قد تركوا الوطن في عهد النظام السابق ولم يعد معظمهم إلى “العراق الجديد” رغم مزاعم السياسيين والمستفيدين الجدد وأكاذيبهم… بينما إضطر العديد من ذوي الفكر الثاقب والإختصاصات الدقيقة والشهادات العالية والخبرات الوفيرة إلى ترك الوطن ليفيدوا دولاً أخرى.
وسادت إرهاصات نفسية وأمراض عقلية متنوعة عموم العراقيين، وبالأخص النساء والصبيان، جراء التفجيرات والعبوات الناسفة والسيارات الملغومة، وسيول الدماء وتهرّؤ الاجساد وتناثر الجماجم أمام ناظرَيهم.
تراجع هيبة الدولة
جراء الآمال الوردية والوعود الخلاّبة بشأن الإستقرار والعمران والديمقراطية الكاذبة والتعددية الدستورية والحرية المزعومة والفيدرالية والأجندات المزعومة والتطوّر الموعود، فقد تضاءلت الثقة بالدولة وإنهارت هيبتها، وإنعدم إحترام قوانينها مصحوباً بإنفلات أخلاقي غير مسبوق في تأريخ البلاد، لمحدودية إمكانات الأدوات المتوفرة لدى السلطتين التنفيذية والقضائية، ناهيكم عن الفساد المخبوء تحت عباءات الذين يزعمون أنهم يمثلون الشعب تحت قبّة البرلمان، رغم يقينهم بأنهم أتوا بصناديق إقتراع مزوّرة عن طريق سلاح الأحزاب والمال الذي سرقه الساسة من الموازنات العامة وأموال الشعب العراقي، ما تسبّب في تفاقم الفسادَين الإداري والمالي وإستغلال النفوذ وإستثمار المناصب بشكل مشهود ومظاهر الرشوة والإختلاس وسرقة المال العام.
وبذلك تحوّل العديد من حثالات المجتمع -جراء السرقات والنهب والسلب- الى شخوص ذوي ثراءٍ فاحش، مستغلّين أموالهم في أمور مخجلة وساقطة لتسيير مصالحهم وترغيب المواطنين وترهيبهم، ما جعل العديد منهم سادة الشارع العراقي واللاعبين في سلطاته الأربع (وليس الثلاث كما يُشاع) من دون منازع.