لا نعلم لماذا يتباكى البعض عند الإعلان بعدم قدرة الحكومة على دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وتأخرها خلال الشهرين الماضيين ، فالقضية متوقعة لأنها مشخصة منذ سنوات إن لم تكن قبل عقود ، فهي غير واضحة بشكل كبير قبل 2003 لان الرواتب كانت تشكل أرقاما صغيرة ولكنها وضحت بعد إن تم رفع الرواتب وتعدد عدد المتقاضين لها وازدواجية وتعدد الرواتب وإثقال الموازنة بالامتيازات ، والفرق بين قبل وبعد الاحتلال إننا كنا نتغنى على الإطلال لما تبقى من الزراعة والصناعة والخدمات ولكن هذه الإطلال أخذت تتلاشى يوما بعد بفعل الاستيراد الذي يمول من مبيعات النفط من الدولار ، وخلال السنوات 2005 – 2019 فان كل الموازنات الاتحادية يتم إصدارها بالتوافق مرة بعجز كبير ثم تتحول إلى فوائض يتم هدرها هنا او هناك ومرة بعجز فعلي يتم التستر عليه بالديون الداخلية والخارجية ، ولان اقتصادنا ريعي حد النخاع فان الازمات المالية غالبا ما تظهر بعد كل تمادي في النفقات بسبب التشريعات وحدوث نقصا في الإيرادات ، والغالبية من الشعب لا يبالون لما يحدث ليس لأنهم لا يمتلكون أدوات التأثير والضغط وأصواتهم لا تسمع في اغلب الاحيان فحسب ، بل لان رواتبهم سارية ولا تنقص او تزيد بغض النظر عن الارتفاع او الانخفاض بإيرادات النفط التي تشكل 95% او أكثر من مجموع الإيرادات ، والفئات التي تتأثر بالتضخم والأزمات هم من فئات الذين لا دخل حكومي لهم ، ويعتقد البعض إن هذه المشكلة قد استطاعت الحكومة حلها من خلال إيجاد شبكة الحماية الاجتماعية التي تعني بالمواطنين تحت خط الفقر الذين بلغت نسبتهم 40% من مجموع السكان حسب إحصاءات يتم تداولها بهذا الخصوص ، والحقيقة التي يعلمها الجميع دون استثناء إن اقتصادنا الوطني لا يدار بمنهج واضح وصريح وفيه نوعا من الثبات ولهذا فانه معرض للازمات في كل الأحداث ، وقد برهنت على ذلك أحداث 2009 و2014 و2020 التي انخفضت فيها أسعار النفط في الأسواق العالمية بفعل فاعل او استجابة لآليات العرض والطلب ، وكل ما تجمع للبلاد من احتياطيات ونحن ثالث بلد في اوبك من حيث التصدير هو مبلغ لا يتجاوز 70 مليار من الذهب والدولارات محفوظة في البنك المركزي ويقابلها المبلغ نفسه او اقل يعبر عن حجم المديونية غير البغيضة في الداخل والخارج .
وكما هو معلوم أيضا فان بلدنا لم يستثمر الأموال التي دخلت من مبيعات النفط من 2004 وحتى 2019 والبالغة أكثر من تريليون دولار في التنمية المستدامة إذ لم تظهر النتائج بشكل جلي ، فهناك نقص في معظم احتياجات السكان من السلع والخدمات بدليل قيام الدولة ببيع أكثر من 200 مليون دولار يوميا لاستيراد معظم الاحتياجات ، والقصور الواضح في معظم الخدمات بحيث دخل التعليم الأولي والجامعي بجعبة التعليم الأهلي الذي يهدف للربح في اغلب الاحيان ، ولا تزال هناك قطاعات بحاجة إلى مزيد من الإنفاق العبثي في الكهرباء والماء والسكن والبلديات ، كما إن هناك الآلاف من المشاريع المتوقفة بسبب الفساد كما توجد زيادة في الإنفاق بالمجالات العسكرية والأمنية لكي ينعم السكان بالآمن الذي لم يتحول لحدوده الطموحة بعد ، وكل ما موجود في العراق يصلح أن يكون عنوانا تؤلف فيه عشرات او مئات المجلدات ، ولكن المعالجات ضائعة والاقتصاد يتدهور لدرجة فقدان القدرة على دفع المرتبات لموظفين اغلبهم من نتاج فترة ما بعد التغيير التي أشرت توجهات غير مطمأنة في كفاءة الأداء ، وهناك الكثير ممن ينظرون إلى أوضاعنا بحسرة وألم وكأن الفرصة قد فاتت في الإصلاح والتصحيح ، وحين تطرح عيهم الآمال في التغيير وفي إثبات القدرة على تجاوز الازمات يزدادون إحباطا وكأن القضية من المستحيلات ، ورغم إن الحقيقة تشير إلى إن المعالجة فيها كثيرا من العقبات وهي اقرب إلى المستحيلات لان بعض دعاة الإصلاح مثل الحوريات نصفهم تكنوقراط ونصفهم الآخر من مخرجات المحاصصات، ولكن الفرصة موجودة وهي بحاجة إلى عاملين الأول هي الإرادة في التغيير والثاني هي الإدارة القادرة والتي تمتلك المهارة للاضطلاع بأعقد المهمات ، وهذين العاملين يمكن أن يشكلان البداية والقاعدة للانطلاق من جديد ، وقد استطاعت العديد من الدول التحول من حالات أكثر تواضعا من حالتنا إلى حالة تحتل فيها مراتب مرموقة في العديد من المؤشرات ، مثل الصين واندنوسيا وتايلاند وسنغافورة وهي دول تمتلك موارد اقل من مواردنا من حيث الطاقة او المعادن او الموارد البشرية وخصوبة الأرض والمياه والبيئة والموقع ولكنها استثمرت العامل البشري وجعلته يتفوق على كل الثروات ، ولعل ما يبعدنا عن تلك الدول او غيرها هو إهمالنا لأهمية الموارد البشرية وضعف استخدامها بشكل فاعل .
وحسب التقديرات الدارجة فان عدد السكان الحالي الذي يقال انه 40 مليون نسمة قابل على إدارة وتنفيذ كل الفعاليات ضمن المساحة المعروفة للبلاد وضمن الإمكانيات العالية المتوافرة للاكتفاء والتقدم ، ولكن مواردنا البشرية يساء استخدامها ونعاني الكثير من التناقضات في استثمارها فهناك بحدود 4 ملايين او أكثر يعملون في وظائف حكومية اغلبهم لا تنتجون نفقاتهم من الرواتب وغيرها ، وحسب إحصاءات وزارة العمل العراقية فان عدد العاطلين عن العمل هو بحدود 4 ملايين من السكان ونسبة مهمة منهم من المتعلمين او حملة الشهادات وهناك الكثير منهم يعملون بأعمال غير منتظمة أي بدخول متذبذبة وغير مستقرة ، وهناك 4 ملايين ممن يعملون في القطاع الخاص ولكن 300 ألف منهم فقط يخضعون للضمان الاجتماعي ، كما إن هناك 300 ألف من العمالة الوافدة و90% منهم قد دخلوا البلاد بطرق غير شرعية وغير مسجلين في أنظمة العمل الرسمية ، كما إن هناك 1,363 مليون أسرة عراقية تخضع للرعاية الاجتماعية وتتقاضى مساعدات مهينة تتراوح بين 105 – 225 ألف دينار شهريا ، ويبلغ عدد المعاقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة 4,150 مليون وعدد المشمولين منهم ببرنامج الإعاقة بموجب القانون 38 لسنة 2013 هو 100 ألف فقط والباقين يتعذر تأهيلهم لتشغيلهم لمحدودية فرص العمل كما يتعذر إعانتهم بسبب التخصيصات ، ومن دلائل الفقر والإهمال في العراق إن رئيس مجلس الوزراء أطلق مبادرة لإعانة الفقراء بعد تطبيق الحظر بسبب جائحة كورونا ، وهذه المبادرة تتضمن تخصيص 30 ألف دينار شهريا لكل فقير ولمدة شهرين ويشترط بمن يشمل بها أن لا يكون مشمولا بأية إعانة وان لا يكون له دخل مادي ، وقد بلغ عدد المتقدمين لهذه المبادرة 11 مليون مواطن ينتمون لأكثر من مليون أسرة ، وان الهدف من عرض هذه الأرقام (المؤسفة ) هو التذكير بأهمية وضع الأسبقية المطلقة للعامل البشري في أي برنامج او خطة لإنقاذ البلاد عندما تتوفر الإرادة لإتباع هكذا فعاليات ، لان إهمال الموارد البشرية وعدم منحها الأولوية في كل جهد لإخراج الاقتصاد من الإنعاش ، يعني بان نيران الأزمة المالية لن تنظفا لان هناك نيران تحت الرماد ، ومن المتوقع أن تتقد في لحظة ما لإثارة حرائق من الصعب السيطرة عليها وإطفائها لأنهم بشر وهم أكثر من مواد قابلة للاحتراق او الاشتعال .