منذ أن قرأت أول نص له في صحيفة ” الاتحاد ” العريقة، وأنا أتابعه وأبحث دائمًا عن كتاباته الأدبية التي تتراوح بين النثر والشعر، عن قصائده التي تطربنا وتشجينا بألحانها وموسيقاها وعذوبة حروفها وطلاوة كلماتها وخيالها الباذخ، أو عن مقالة أدبية أو نقدية له تغني الفكر وتثري معلوماتنا بعمق طروحاتها ورؤاها وخصوبة أفكارها، أو نص نثري بلغته الأنيقة وتعابيره الجميلة.
هذا هو الصديق الأديب الجميل، شحرور الجليل، الأستاذ يوسف نعمان ناصر (أبو غياث)، المقيم والثابت أبدًا في بلدته كفر سميع، المتربعة على صدر الجليل الأعلى، المتميزة بطبيعتها الساحرة الخلابّة، الذي يُعد أحد أبرز والمع مدرسي اللغة العربية في الجليل خاصة وفي البلاد عامة. وهو من القلة النادرة من المثقفين والمتأدبين الذين يعشقون لغة الضاد حتى درجة الشغف، ونلمح في كتاباته اللغة الرشيقة السليمة الصحيحة. إنه لا يتحدث ولا ينطق إلا بالفصحى، ويكتب بلغة لا أحلى ولا أجمل، يراعه فصيح، وفصاحته تعيدنا إلى الأدب الجميل القديم، ونتنسم في أدبه نكهة الرشاقة والفصاحة، وننعم بكلامه دون تبجح، وفي حديثه الطلي الماتع وفصاحته يوحيك بالتواضع والتمكن من اللغة وقواعدها وأصولها.
وفيما يتعلق بتكوينه اللغوي والأدبي فهو معلم لنفسه بمطالعاته وقراءاته الجمة، لا يكف عن القراءة واغتراف المعرفة من عيون الأدب وينابيع تراثنا العربي القديم. وكما قال يومًا : ” تجوع نفسي مثل جسدي، ومكتبتي هي صيدليتي كلما توجعا تناولت منها جرعة شافية مما قاله العظماء فتستكين “.
وكثيرًا ما أعود إلى كتابه ” ورق ورحيق ” واستمتع بنصوصه بالغة الدهشة، وهي فعلًا كذلك ففيها من رحيق الشهد والكلمات الخضراء والثمار اليانعة في كل الأوقات وكل الفصول، وكلما امتد الزمن أينعت أكثر دون ذبول.
وما يميز كتابة الأستاذ الأديب الذواقة يوسف ناصر استخدامه الكلمة دون ابتذال في مكانها الصحيح، وموقعها في الجملة، وعلاقتها بالمعنى، مع ضخها بالمشاعر والإحساسات غير التقليدية وغير المألوفة، وتوظيفه المعاني الجديدة من خلال فكره وخياله، موشحة ومزدانة بالمفردات والكلمات الناضرة.
وفي هذا الصباح الربيعي الحار جدًا، فتحت عيوني على مقالة جميلة في صحيفة ” الاتحاد ” للأستاذ يوسف ناصر بعنوان ” مِنَ نْشقِ ذكراهُمُ فاحَ القلم “، رحت التهمها التهامًا لما فيها من جمال البوح والتعابير ودقة ورقة المعاني والصور الأدبية ودرر الكلام والوصف المدهش.
وفي هذه المقالة يستعيد أديبنا ذكرياته بمدينة القدس، زهرة المدائن، حين كان يعمل محاضرًا في جامعة القدس، ويستحضر ملامح الوجوه الأدبية والثقافية والأكاديمية التي تعرف إليها وعرفها عن كثب وجمعته بها علاقات صداقة وأواصر من المحبة، ويسترجع تلك الأيام التي لن تنسى في دفتر الذكريات، ويشير إلى الندوات التي شارك فيها في القدس وجامعة بيت لحم، ويتوقف بشكل خاص عن ندوة ” اليوم السابع ” احتفاءً بكتابه ” ورق ورحيق “، التي يقول عنها ” كانت زاهرة غرَّدت عنادلها وترنَّمت أطيارها على دوحة الأدب “.
ويستهل أديبنا يوسف ناصر مقالته بمقدمة جميلة فيها من الكلمات الرقيقة المنتقاة، التي تجعلنا في حالة من النشوة والمتعة الجمالية التي لا تنتهي، اقتطف بما جاء فيها : ” مثلما ينهمل الوابل الغيداق أيّام الشّتاء ثمّ ينقطع ليترك وراءه أجمل الأزاهير وأعطر الورود تزدان بها المروج والخمائل، ويبعث بين الغياض أنسامًا معطّرة تحمل على أجنحتها للدنيا شذا النّرجس وعبير الأقحوان، هكذا تُبقي صحبة النّاس الأبرار في حياة المرء نفحات من الذكرى عبّاقةً لا تزول! والفرق بين هذا وتلك أنّ أزاهير الرّوابي الّتي يزرعها المطر في السّهول والحقول ثم يذهب، قد تذوي وتيبس ويودي بها وهج الصّيف لتعود إليك من جديد في المطر القادم! أمّا ذكرى أولئك الأصفياء الأحبّاء فلا يستطيع حرّ الزّمان مهما اشتدّ لظاه في صحاريه أن يقتلع جذورها من سفوح القلب بل يذكي ضِرامها في القلب بُعد العهد بأولئك الأحبّة، ولا عجبَ أنْ تعاودني دائمًا نفحات تلك الذّكريات حين أجلس وحدي، ولا جليس يسامرني سوى الماضي في غضارة شبابه وميعة صباه، يؤنسني بما في ذاكرته من مشاهد تلك الأيام وأطيافها، نسترجع معًا ونتذكّر هاتيك الكوكبة من النّاس الطّيبين، فكان لنا من نِشق ذكراهمُ أنْ فاح القلم وسكب على القلب من نثراته هذه الكأس الطافحة من الناردين والعطر الطّيّب! “.
وغني عن القول أن كتابات يوسف ناصر هي خمائل وروض على ورق عابقة بروائح الفل والريحان، والعبير والشذى يتضوعان منها.
فألف تحية وتقدير للأديب الأستاذ يوسف ناصر الذي أعتز بصداقته ومعرفته، وأقدر عاليًا جهوده في خدمة لغتنا العربية وأطري وأثني على كتاباته الأدبية، الشعرية والنثرية، لما فيها من الصدق التعبيري والشفافية الدافئة والمعاني الناضرة والصور المكتنزة المشعة بسحر الكلمات والتجلي المدهش.
فللأديب يوسف ناصر باقات من الشكر والامتنان، وإضمامة من الرياحين، ردًا على رسالته الصادقة التي كان قد أرسلها إلي على بريدي الالكتروني قبل فترة وجيزة، وكتب فيها قائلًا : “كم وددت أن أرسل لكم أبهى تيجان الورد ، وأجمل أكاليل الغار من روابي الجليل وخمائله الفيحاء ، تعبيرًا عمّا أضمره لكم من امتنان وتقدير عظيمين ، وقد تناولتم غير مرّة ثمرات يراعي بالتنويه والإطراء على نحو أرجو أن أستحقّه ، ولِما تُسدونه بقلمكم السيّال من فضل عميم على مختلف القضايا الأدبية والاجتماعية وغيرها في الوطن الحبيب ، ضارعًا إليه تعالى من أعمق أعماق القلب أن يحفظكم برعايته مصباحًا وضّاءً من مصابيح الحرف والقلم”.
ويظل يوسف ناصر(أبو غياث) قامة أدبية سامقة لها منزلتها ومكانتها في المشهد الأدبي الإبداعي في البلاد، ونتمنى له من القلب الحياة العريضة المكللة بالصحة ودوام العطاء والإبداع.