تكرار ما قُلتُه
أُعيد القول بأن “تنظيم الضباط الأحرار” أجرم بحق العراق ونظام حكمه وغدر بالعائلة المالكة ونكث كبار ضباطه بعهدهم ووعدهم وقَسَمهم بإنقلاب 14/تموز/1958، وكان “العقيد الركن عبدالسلام عارف” على رأس منفّذيه.
وأكرر ثانية إعجابي بالعهد الملكي وبُناة العراق المعاصر المخضرَمين الذين حقّقوا دولة دستور ومؤسسات يُشهَد لها، وأقاموا مشاريع عملاقة، وجهازاً قضائياً مستقلاً، وإنبثقت في عهدهم أحزاب وطنية وفقاً لقانون محترم، وأسسوا برلماناً مُوقَّراً يملأ مقاعد قبّته نوّاب معروفون بوطنيّتهم وعراقيّتهم بعد خوضهم إنتخابات ديمقراطية مقبولة كانت أرقى ممّا تتمتّع به دول المنطقة ومعظم أقطار عالم ما بعد الحرب العظمى الأولى.
وأؤكد أن لا صِلَة تربطني بشخص الرئيس “عبدالسلام عارف”، ومدينة “الفلّوجة” وعشيرة “الجُميلات”، وقبائل “الدلَيم”، ولم أعلم كيفية إنتقائي للحرس الجمهوري ضمن (أربعة) ملازمين أُمِرنا بالإلتحاق لفوج الحرس الجمهوري الأول فوراً من بين (353) متخرّجاً، لأغدو ضابطاً يحمل على رقبته جزءاً من مسؤولية حماية نظام الحكم والقصر الجمهوري وشخص الرئيس “عبدالسلام” في جناحه الخاص وفي مسكنه.
إذن فالذي أتحدث به عن الرئيس ليس لأغراض المديح -كما يظنّ البعض ويزعم ويواصل إنتقادي- بل لتسليط ضوء يسير على ما رأيتُه بأمّ عينَيَّ عن هذا الرجل الذي ترك بصماته المتنوّعة والمتناقضة على دولة العراق خلال (8) سنوات منذ (تموز/1958) ولغاية (نيسان/1966)… لذا فإن كنتُ مادِحهُ فلا مصلحة لي في ذلك ولا غاية، أو إن كنتُ قادِحهُ فمن دون غرض أو منصب، فقد ودّع هذه الدنيا الفانية قبل (54) سنة غابرة.
ففي مقالتي السابقة والموسومة “ما سُجِّلَ لعبدالسلام عارف وما عليه”، والتي أسعدني هذا الموقع الأغر بنشرها يوم (6/آيار/2020) الجاري، وعدتُ القراء الأعزاء أن أُتمّم ما بدأتُه عن الرئيس “عبدالسلام” في حرصه على المال العام وتقتيره على ذاته وأهله وكبار مسؤولي الدولة، وإكتفائه بحماية بسيطة نسبياً لشخصه ومسكنه ونظام حكمه، وأمور أخرى قد ترد ببالي، وقتما أستشعر بإهتمام المتابعين لمقالتي السابقة… ولمّا لم يُخيِّبوا ظني، فقد إمتثلتُ لوعدي على شكل عناوين ونقاط مختصرة للغاية.
هل كانت نزاهة “عبدالسلام عارف” إستثناءً؟!
من حيث الأساس ينبغي على العراقيين أن لا يُخدَعوا بكون الرئيس “عبدالسلام” سَبّاقاً وإستثناءً ذا شأن كبير وصاحب طفرة وراثية في حرصه على أموال الدولة… فقد سبقه شخوص العائلة المالكة والغالبية الأعظم من رجالات وكبار مسؤولي عهدهم، وكذلك الزعيم “عبدالكريم قاسم” الذي إنتقاه القيادي الشيوعي المعروف السيد “عزيز الحاج” مثالاً منفرداً لسرد نزاهتَه وعفّتَه، قبل أن يَرُدّ عليه أستاذنا الكبير “الدكتور سعد ناجي جواد” ليوضّح أن هذه الصفة المحمودة لم تكن حِكراً على الزعيم “قاسم” لوحده، إنما كانت دَيدَناً تميّز به ملوك العراق ومعظم رجالاتهم، وكبار الضباط والمسؤولين الذين حكموا البلاد بعد ١٤/تموز/1958… فالنزاهة لم يخترعوها أو يصطنعوها، بل كانت صفة تربّوا عليها وعاشوا بأحضانها، وكل ذلك على عكس أشباه رجال اليوم من أولاد الشوارع المُتَرَبّين على الخيانة والسرقة والإجرام والسحت الحرام.
هل أصابني الخَرَف؟؟!!
في الواقع أني أستشعر بالخيبة والخجل عندما أتحدث عن هذه الأمور، كون العديد ممن يستمعون لي لا يصدّقونني، ويعدّونني مُبالِغاً ولربما مُصاباً بالخَرَف، أو أني أحاول كَيلَ المديح لشخص “عبدالسلام عارف” ونظام حكمه، أو أبتغي تنقيصاً من قيمة الذين خلفوه في الحكم وصولاً لما بعد غزو وطني ونصب المحتل حكّاماً فاسدين يزعمون أنهم يديرون دفّة العراق بنجاح تحت ظلال ديمقراطية مزعومة.. بينما ينظر العالم بأجمعه إلى إمعانهم فساداً وإفساداً إدارياً ومالياً وقتلاً وإعتقالاً وتغييباً بالألوف ودفناً بالمئات تحت الأنقاض وسط العشرات من المقابر الجماعية.
وواقع حالي أن ليس لي مصلحة في مدح هذا وقدح ذاك سوى خدمة التأريخ وتنوير شباب اليوم ومتابعي عهود العراق في عقد الستينيات، كي يقارنوا أين كان وطنهم؟؟ وكيف تراجع؟؟؟ وأين أضحى؟؟؟؟
ما شاهدتُه بالقصر الجمهوري
لا أكتب عمّا قرأتُه أو سمعتُه أو نقلتُه عن عفّة “عبدالسلام عارف” ونزاهته وحرصه على المال العام، بل أفرش ما شاهدتُه بأم عينيّ في عهده من خلال خدمتي بالحرس الجمهوري بشكل عام، وخفاراتي بغرفة تشريفات القصر الجمهوري على وجه الخصوص.
فالرئيس لم تكن لديه أكثر من سيارة “مرسيدس-ليموزين” واحدة موديل 1964، وثانية إحتياطاً لأغراض تنقّله، مع (أربع) سيارات “شفروليت” إعتيادية لأفراد الحماية الشخصية الذين يرتدون الملابس المدنية، ولا تخرج مع الرئيس سوى واحدة عادة.
وسيارة صالون رسمية واحدة فقط كانت مخصصة لكل من المُرافق الأقدم والسكرتير العام لديوان الرئاسة ورؤساء الدوائر بلا حمايات، يتنقلون بها أثناء الدوام الرسمي فقط… أما إذا تطلّب حضورهم للدوام المسائي أو للقاء السيّد الرئيس، فإنهم يأتون -عادة- بسياراتهم الشخصية وهم يقودونها.
وكان في مرآب القصر (4) سيارات ذات طرز قديمة موروثة من العهد الملكي، لا يستخدم الرئيس سوى واحدة حمراء اللون دون سقف (تَنتَه) وقتما يرغب بالوقوف وسط حوضه لتحية الجماهير في مناسبات معيّنة حسب مزاجه، أو عند الخروج بمفرده مساءً لزيارة أحد أصدقائه أو للتجوال في شوارع بغداد.
السيارات المخصصة لكبار ضيوف العراق ليست من ممتلكات القصر الجمهوري، بل أن تشريفات القصر تنسّق مع دائرة المراسم بوزارة الخارجية لتحديد أنواعها وأعدادها عند الحاجة.
لا مطبخ ولا مطعم فاخر في القصر الجمهوري، بل طبّاخان ومعاونان، يهيّئان وجبات الطعام لشخص الرئيس وجنود حمايته الخافرين فقط، ولربما للبعض من ضيوفه المسائيّين عند الطلب… أما لدى إقامة الولائم والمناسبات فيُستدعى عدد من المتعاقِدين لخدمة القصر.
ولائم القصر الكبرى إقتصرت على شهرَي رمضان اللّذَين صادفتُهما أوائل عامَي 1965و 1966، بواقع (عشر) ولائم في كل منهما، وكان المئات من المدعوّين لكل وليمة يمثلون جميع فئات الدولة والشعب من بغداد والمحافظات، يطول سرد تفاصيلها… والمستغرَب أنهم جميعاً كان يدخلون القصر من دون تفتيش يُذكَر.
والفطور الصباحي للرئيس حسب ما يطلب، وغداؤه صحن رز ومرق وقطعة لحم وخبز، وعشاؤه ما تبقّى من المرق مع اخبز واللبن وبعض الفاكهة.
يُسمَح للضابطَين الخافرَين في تشريفات القصر بعد الدوام الرسمي ولغاية صباح اليوم التالي، طلب وجبتَي الغداء والعشاء من مطبخ القصر… إلاّ أن آمر فوجنا نصحنا بضرورة التعالي والإبتعاد عن ذلك حفاظاً على كرامتنا… لذلك كانت وجبات طعام الضابطَين تأتينا -على نفقتنا- من مطعم ضباط الفوج.
إقتصرت هدايا “عبدالسلام عارف” ومكافآته من نثرية القصر -الموضوعة بين يديه قانوناً- على عيدَي الفطر والأضحى بواقع (خمسة) دنانير فقط لكل ضابط صف وجندي فقط، شريطة تقتير الإنفاق خلال الشهرَين التاليين لتغطية العيديات.
أما ضباط الحرس الجمهوري وجميع ضباط الجيش والقوات المسلّحة طيلة عهده ولغاية مصرعه، فإن الرئيس لم يمنح أيّاً منهم هدية نقدية أو مكافأة ماليّة أو سيارة أو قطعة أرض، لأنه يعتبرها غير لائقة بحق شخص يحمل على كتفيه مرسوماً أو مراسيم جمهورية… بل إكتفى بهدايا عَينيّة على شكل كأس فضيّ أو ساعة يدوية أو درع تذكاري أو كتاب شكر وتقدير.
كانت مخصصات الإنذار لجميع وحدات الحرس الجمهوري من فئة (ب) بواقع (12) ديناراً لجميع الضباط والمراتب بالتساوي، وبضمنهم فصيل الحماية الشخصية لرئيس الجمهورية… وهذا المبلغ يعادل 2/3 (ثُلثَي) ما كان يستلمه منتسبو الوحدات المنتشرة خارج معسكراتها الدائمية وتلك العاملة .في شمالي الوطن.
ممتلكات كبار مسؤولي الدولة
لا جدال في نظافة يدي “عبدالسلام” وزهده، فالرجل لم يترك وراءه سوى بيت متواضع في شارع فرعي قريب نسبياً من المقبرة الملكية بالأعظمية، ومسكن ثانٍ يُقال أنه بحيّ الضباط في “زَيّونة” إستحصله ضمن قرعة جمعية بناء المساكن للضباط.
لا أزعم معرفتي -بالطبع- بممتلكات وزرائه وكبار مسؤولي الدولة وقتما خدمتُ بالقصر الجمهوري، ولكني وقتما تشرّفتُ بزياراتي المتعددة لمساكن عدد منهم حينما كنتُ أُعِدّ مسوّدة كتابي الموسوم “الرئيس عبدالسلام عارف كما رأيته” منذ عام 1997 وما تلاه، وجدتُ أن كلاً من السادة الوزراء “صبحي عبدالحميد، رجب عبدالمجيد، إبراهيم خليل الزوبعي” ومدير الإستخبارات العسكرية “العقيد الركن هادي خمّاس” لا يسكنون سوى ببيت إعتيادي أسوة بزملائهم الضباط في “حيّ اليرموك”، بإستثناء السيد “اللواء الركن ناجي طالب” صاحب مسكن أفخر من الآخرين، والذي فهمته أنه ورث من والده “الشيخ طالب العِنِزي” مالاً مكّنه من ذلك… ولكني لم أتجرّأ على سؤاله لكونه شأناً شخصياً.
إجراءات الحماية
كانت القوة المكلّفة بحماية القصر الجمهوري مؤلّفة من سرية مشاة واحدة من فوجنا، بواقع (4) ضباط يقودون (150) مراتب فقط، يُستبدَلون دورياً كل شهرين أو ثلاثة.
وبينما تُكلّف سرية أخرى بالأعداد نفسها والمدة ذاتها لحماية مبنى الإذاعة والتلفزيون في “الصالحية”، فإن سرية ثالثة تبقى في ثكنة فوجنا المتاخم لسياج القصر الجمهوري، وتُعتبَر إحتياطاً للطوارئ.
كان تعداد فصيل حماية الرئيس الشخصية (40) جندياً فقط، يرتدون الملابس المدنية ويخفون مسدساتهم في أحزمتهم كي لا تظهر للعيان، يقودهم ضابط برتبة “ملازم”.
أما الموكب الرسمي لـ”عبدالسلام عارف” فقد إقتصر عند تجواله في “بغداد” أو المحافظات بسيارة رسمية سوداء، تتقدمها دراجتا شرطة مرور وإثنتان خلفها، تتبعها سيارة صالون واحدة يمتطيها (4) جنود من فصيل الحماية الشخصية يرتدون ملابس مدنية، تليها سيارة واحدة من شرطة النجدة فقط.
كان الحرس الجمهوري لدى إلتحاقي إليه أواخر تموز/1964 مؤلفاً من فوجه الأول -الذي خدمتُ فيه- وثكنته المتاخمة لسياج القصر الجمهوري، فيما كان فوجه الثاني في طور التشكيل بثكنته بالقرب من “قصر الزهور” الملكي المتروك والمُهمَل، وكانت سرية دبابات ناقصة بواقع (10) دبابات في ثكنة متواضعة للغاية قبالة القصر الجمهوري في طريقها كي تُزاد إلى كتيبة دبابات تباعاً في قادم الأشهر… أما مقرّ اللواء فقد بوشر بتشكيله أوائل عام 1965 حتى أُفتُتِحَ رسمياً يوم 16/10/1965.
إرتكزت خطة أمن بغداد في مُجمَلِها للحفاظ على نظام الحكم في عهد الرئيس “عبدالسلام” منذ الشهر العاشر عام 1965 على لواء الحرس الجمهوري، وهو تشكيل ناقص-حسب المفهوم العسكري، لعدم إمتلاكه مدفعية ميدان ومقاومة طائرات وهندسة، وقد وُضِعَ هذا اللواء بإمرة قيادة قوات بغداد، والتي كان تحت إمرته فوج مشاة آلي يحتوي (67) عجلة قتال مدرعة بثكنته في “معسكر الوَشّاش” بمثابة قوة ضاربة تُحَرَّك كُلاًّ أو جزءاً إلى مواقع محددة عند الحاجة.
وما عدا رئيس الوزراء “الفريق طاهر يحيى” ووزيرا الداخلية والدفاع ورئيس أركان الجيش الذين -ربما- يرابط قرب مساكنهم عدد من أفراد شرطة النجدة أو الإنضباط العسكري مع سيارة جيب واحدة، وقد يرافق عدد منهم ذلك المسؤول عند تنقّله أثناء ساعات الدوام الرسمي فقط وليس بعدها، فإن جميع الوزراء الآخرين ومساكنهم وأفراد عوائلهم من دون إستثناء كانوا بلا أية حماية بشكل مطلق، بل أنهم كانوا يقودون سياراتهم الشخصية بأنفسهم، أو لربما بسائق شخصي، خارج ساعات الدوام وأيام العُطَل.
أما الشارع العام العريض المار من أمام القصر الجمهوري في حيّ “كرّادة مريم” السكني، والذي يوصل جسر الجمهورية بالجسر المعلّق، فقد كان هذا الشارع مفتوحاً للمارّة وسيارات الأهلين طيلة ساعات النهار والليل، بما فيها حافلة النقل العام الرقم (21) التابعة لمصلحة نقل الركاب.
لم يُطلَب من أيٍّ من سكنة المنطقة ترك بيته أو التنازل عنه لأسباب أمنية ولو مقابل مبلغ مُجزٍ، وبذلك لم يُحوّل محيط القصر الجمهوري وحيّ “كرادة مريم” لا إلى منطقة خضراء ولا حمراء.
ومن الطرائف -إن جاز التعبير- والمواقف المحرجة التي صادفتُها، وكذلك أي ضابط خافر في غرفة تشريفات القصر الجمهوري، أن الرئيس “عبدالسلام” كان يفاجئنا عصر أو مساء بعض الأيام بمغادرته القصر بإحدى سيارات القصر لإيصاله إلى أحد أحياء “بغداد” من دون أية حماية، حيث يوعز للسائق بالعودة، فنظلّ نحن حائرين ومرتبكين حتى نعثر -بأسلوب أو بآخر- على مكان تواجده بمنزل أحد أصدقائه، والذي قد يتكلّف بإعادته أو يسير على قدميه حتى يبلغ القصر ليلاً.
كما كانت من عاداته شبه اليومية مساءً أن يترك القصر بمفرده، أو بصحبة مرافقه العسكري الأقدم، أو مرافقه العسكري الأصغر، أو أحد زائريه بمفردهما، سائرَين على أقدامهما -بلا حماية- نحو الجسر المعلّق -عادةً- عبوراً إلى حيّ “الزُوِيّة” أو “الكَرّادة”، قبل أن يعودا للقصر في ساعة متأخرة ليلاً.
تصرفات مكروهة من ضباط متزلّفين
لم تكن للرئيس “عبدالسلام عارف” حماية شخصية أكثر مما تحدّثتُ… ولكن البعض من ضباط الحرس الجمهوري “الأدعياء- المنافقين- المتزلّفين” كانوا يحاولون إظهار شخوصهم بأكبر ممّا هم عليه أمام أصدقائهم ومعارفهم، ناهيك عن التقرّب والنفاق للبعض من كبار المسؤولين.. وأخصّ منهم ضابطاً من فوجنا، وآخر من سرية الدبابات وثالثاً من فوج الحرس الجمهوري الثاني.
كانت زيارات “عبدالسلام عارف” لأماكن كثيرة تُعلَنُ جهاراً على الملأ في الصحف قبل يوم واحدعلى الأقل… أما زياراته المفاجئة لأماكن معينة في “بغداد” فإنها لم تكن مفاجِئةً لضباط الحرس الجمهوري، وخصوصاً ضباط السرية المكلَّفة بحماية القصر الجمهوري من داخله… بينما كان حضوره لأداء فريضة صلاة الجمعة معروفاً منذ يوم الخميس عادة.
لذلك، فإن أولئك الضباط الثلاثة خصوصاً، يرتدون ملابس مدنية ويحملون مسدّساتهم محاوِلين إظهارها للعَيان بشتى الطرق، ويقفون مجتمعين أو فُرادى قرب الموقع الذي سيزوره رئيس الجمهورية قبل أو لدى حضوره هناك، أو خارج الجامع الذي سيؤدي فيه الصلاة، ويتصرّفون بشكل يُوحي للناس المجتمعين على الأرصفة والشوارع المحيطة، وكأنهم مكلَّفون بحماية “عبدالسلام عارف”… وأنهم، لكونهم ضباطاً في الحرس الجمهوري، فإن أفراد فصيل الحماية الخاصة المدنيين لا يجرأون على التصدّي لهم والحدّ من تصرفاتهم… وإمعاناً منهم للبرهنة على إدّعائاتهم ومزاعمهم، فإنهم يهاتفون البعض من أصدقائهم وأقربائهم مُدَّعين أنهم مُكلّفون في تلك الساعة بـ”واجب خاص” يمنعهم من تنفيذ وعود أبرموها ومواعيد إتّفقوا عليها -ضمن السيناريو نفسه- معهم!!
وقد علمتُ خلال تكليف سريتنا بمهمة حماية القصر الجمهوري للمرة الثانية في شهرَي “حزيران وتموز/1965″، أن المرافق الأقدم لرئيس الجمهورية قد إستدعاهم إلى مكتبه، وحاسَبَهم بشدة وبعبارات لاذعة وغير مستساغة، آمِراً إياهم بالكفّ عن تكرار مثل تلكم التصرفات غير اللائقة لأخلاقيات ضباط الجيش العراقي… ولكنهم لم يمتنعوا سوى بضعة أسابيع لـ”تعود حليمة إلى عادتها القديمة”، كما يقول المَثَل البغدادي الشائع.
وعرفتُ أيضاً بإنقضاء الأيام، أن أولئك لم يكونوا يمارسون مثل تلك التصرفات مع رئيس الجمهورية دون علمه فحسب، بل حتى مع شخوص مهمّين دونه على مستوى الدولة، من أمثال السادة “رئيس الوزراء، بعض الوزراء، رئيس أركان الجيش، قائد القوة الجوية” وسواهم… وأنهم في الوقت الذي كانوا يُثيرون إستهجان معظم ضباط الحرس الجمهوري، فقد كانوا يتمتّعون بعزائم وولائم وحفلات وسهرات يُقيمها لهم الأثرياء من ضعاف النفوس والمنافقين.
وكانت تلكم الجلسات مليئة بحقائق ملموسة عمّا يشاهده أولئك الضباط أو يعرفونه، ولكنها مصحوبة بأكاذيب ومزاعم وإدّعاءات ومبالغات عن صميمية العلاقات السائدة بينهم وبين السادة المسؤولين على الإطلاق!!
مسكن عائلة رئيس الجمهورية
كان مسكن “عبدالسلام عارف” المتواضع الذي إقتناه عام 1952 في أحد أزقة حيّ “الأعظمية”، ومساحته حوالي (300) متر مربّع أو أقلّ، حيث كان البعض من الدور المجاورة للمواطنين أفخم منه وأوسع… وقد ظلّت فيه أفراد عائلته ولم ينقلهم إلى الجناح المخصّص له في القصر الجمهوري.
والبيت يحميه نصف فصيل (24) جندياً فقط، يقودهم ضابط برتبة “ملازم” يُبدّل دورياً كل عدة أيام.
والواجب الحقيقي المحدّد رسمياً لهذه القوة هو حماية شخص رئيس الجمهورية وقت زيارته للعائلة مرة أو مرتين بالأسبوع… أما أفراد العائلة فهم يتمتعون بكامل حريتهم في الخروج مجموعين أو على إنفراد، أو إستقبال الضيوف من الأقرباء والأصدقاء والجيران وقتما يشاؤون.
كانت وجبات طعام مراتب الفصيل تأتيهم من مطبخ الفوج، أما ضابط الحماية فإنه يتناول طعامه من أحد المطاعم القريبة من جيبه الخاص… وقد كرّر عليّ السيّد الرئيس عدة مرات، أن أكلّف سائق سيارته الشخصية بجلب وجبة من الكباب لكل الجنود وعلى نفقته، إذا تأخر عليهم الطعام الآتي من مطبخ الفوج لأي سبب كان.
لم يخصّص الرئيس “عبدالسلام” سيارة رئاسية أو حكومية تخدم عائلته، بل إحتفظ بسيارته المسجّلة بإسمه، من طراز “مرسيدس” موديل 1963، يقودها رئيس عرفاء متقاعد إسمه “أحمد الكرخي”، يحمل مسدساً مخفياً تحت سترته أو قميصه، ويدفع له الرئيس -من جيبه الخاص- راتباً شهرياً قدره (30) ديناراً… واجبه إيصال الأبناء والبنات إلى مدارسهم الإعتيادية في الأعظمية، ومرافقتهم عند رغبتهم بالحضور مرة واحدة مساء الخميس من كل أسبوع في إحدى دور السينما.
والذي يستغربه أصدقائي وأقربائي وجيل شباب اليوم وربما لا يصدّقونني، أن مسكن عائلة الرئيس كان بلا هاتف، لأن فخامته أمر بنقله من بيته إلى مكتب ضابط الحماية لعدم توفّر خطّ شاغر لدى بدالة هواتف الأعظمية، لذلك فإن أفراد العائلة -بمن فيهم زوجة الرئيس، التي يُفتَرَض أن تُسَمّى “سيدة العراق الأولى”- كانت تأتي مرتدية العباءة البغدادية بصحبة إحدى البنات أو الأبناء إلى مكتب ضابط الحماية كي تهاتف لأي غرض كان… وقد صادفتُ ذلك عشرات المرات خلال تكليفي بواجب الحماية.
كان الرئيس “عبدالسلام” يزور عائلته مرة أو مرّتين بالأسبوع، حيث يحضر بموكبه الرسمي، ويبقى بحمايتنا حتى المساء ليعود بالموكب ذاته إلى القصر.
ولكنه قلّما كان يطلب حضور الموكب إلى داره، بل يأمر أن ينتظره بموقع ما، كساحة عنتر أو كورنيش الأعظمية أو جسر الصرّافية أو بالقرب من جامع الإمام “أبي حنيفة النُعمان”، ليسير بقدميه وبمفرده من دون أي حماية، ويرفض أن يرافقه حتى ضابط حماية مسكنه، ممّا كان يُحرجنا كثيراً خشية أن يتعرّض لموقف خطير أو إعتداء في بلد غير مستقر ومليء بخصوم وأعداء.
عفا الله عمّا سَلَف
رغم عدم رفعه لشعار ]]عفا الله عمّا سَلَف[[ الذي أُشتُهِرَ به الزعيم “عبدالكريم قاسم” ولم يطبّقه إلاّ على هواه، فإن “عبدالسلام” طبّقه من دون تطبيل وتزمير.
فحالما إستقرّت أوضاع البلد بعد حركة 18/ت2/1963، فقد أصدر في تموز/1964 قانون العفو العام لصالح كل عراقي –مدنيّ أم عسكريّ- مسجون أو معتقل أو موقوف لأي سبب كان، بمن فيهم السياسيون، شريطة أن يعلن ندمه لإنتمائه لحزب محدّد وتَبَرّؤه منه، وينشره في أية صحيفة أو مجلّة مع صورته الشخصية.
ولكنه إستثنى من قانون العفو كل من إقترف جريمة أو جُنَحة مُخِلّة بالشرف ]]سرقة المال العام، الإختلاس، الرشوة، التزوير، الكذب تحت اليمين[[، وكذلك إستثنى قياديين محدّدين بالإسم في الحزبين الشيوعي والبعثي، فضلاً عن المحكومين بالإعدام والسجن المؤبّد لأي سبب كان.
وإبتغاء فتح صفحة جديدة مع خصومه العسكريين وتهدئة مشاعرهم وعدم حرمانهم وأفراد عائلاتهم من رواتبهم، فقد أطلق الرئيس “عبدالسلام” سراح الضباط والمراتب الشيوعيين والبعثيين المسجونين والمعتقلين ممّن قاوموا -بالسلاح- حركتَي 8/شباط و18/ت2/1963 على التوالي، وأعادهم إلى الخدمة العسكرية وشبه العسكرية، شريطة إبعادهم عن الوحدات القتالية الحساسة كالدبابات والمدرعات والقوة الجوية، وأن يخدموا في وحدات مشاة بعيدة عن “بغداد”، فيما أحال عدداً من الضباط الخطِرين والمتهورّين إلى وظائف مدنية برواتب مجزية يستحقونها وفقاً للقانون.
ومن حقّ أجيال السبعينيات والعقود اللاحقات، أن يستغربوا تَرَفٌّع الرئيس “عبدالسلام عارف” بذاته وعدم إتخاذه أيّة إجراءات عنيفة بحقّ عدد من كبار قادة “كتلة الضباط القوميين/الناصريّين” وصغارهم، حين أقدموا على تنفيذ محاولة لقلب نظام الحكم مساء (15/أيلول/1965)، ولـمّا فشلوا هرب العديد منهم في اليوم التالي إلى “القاهرة” بطائرة نقل عسكرية ملتجئين للرئيس “جمال عبدالناصر”… وقد نشر لي هذا الموقع الأغر يوم (6/1/2017) مقالة مفصّلة عن هذه المحاولة الإنقلابية الغادرة بكل ما في الكلمة من معنى.
مقالتي القادمة
لكي لا أطيل على القراء والمتابعين الكرام أكثر مما أطلتُ، فإني مضطر لإرجاء ما يخصّ موقف الرئيس “عبدالسلام” حيال الحركة المسلّحة الكردية، ومدى إلتزامه بالقوانين المرعية وتطبيقها إلى مقالة ثالثة أرجو العليّ القدير أن أكتبه في قادم الأيام بعونه سبحانه.
مسك الختام
وختاماً أكرر ما بدأتُهُ، أن الرئيس “عبدالسلام” في حرصه على أموال الدولة ونزاهته وعفّته وزهده لم يكن إستثناءً ذا شأن وصاحب طفرة… فقد سبقته العائلة المالكة ورجالات عهدهم، وكذلك الزعيم “عبدالكريم قاسم”، فقد كانت النزاهة والعفّة دَيدَناً تميّزوا به جميعاً ولم يصطنعوه، بل صفة تربّوا عليها.
وأودّ أن لا يُعتَبَر ما تحدثتُه مجرّد مدحٍ للرئيس “عبدالسلام محمد عارف”، بل فرشاً لحقائق رأيتُها بعينيَّ وسجّلتُها بقلمي في أجنداتي السنوية منذ عام 1964، راجياً من أجيال اليوم أن يقارنوا ما كان عليه قادة “العراق” من عفّة ونزاهة وحرص على أموال الدولة، ومقدار الحمايات المخصصة لحمايته، ويقارنها مع ما أضحى عليه وطننا الغالي بعد عام 2003 من فساد وإفساد بواقع مئات المليارات من الدولارات، بشكل لا سابقة له في عموم تأريخه وتأريخ العالم أجمع.
ومن باب التحدّي، أدعو البعض من المتابعين لأوضاع العراق، سواءً في عهده الملكي وعهوده الجمهورية، أن يتكرّموا علينا بما في جعبتهم من حقائق دامغة تدحض أو تتعاكس مع ما وضعته أمام أنظارهم، ولكن من دون أن يكون صاحب الردّ أو المداخلة متأثراً بما قال هذا وسمعه عن ذاك من إسطوانات مشروخة.