17 نوفمبر، 2024 10:35 م
Search
Close this search box.

قراءة في “الأمريكان في بيتي”

قراءة في “الأمريكان في بيتي”

 تخلو الروايات العراقية ( غالباً ) من النبرة الساخرة في السرد، وتفتقر شخصياتها إلى روح الدعابة.. فأحداثها تدور في أجواء مكفهرّة، كئيبة، يتم تناولها فنياً من منظور جدّي ثقيل. وإذا ما عدنا إلى وصايا كالفينو للألفية الجديدة فيمكن القول أن ما ينقص بنية السرد، ها هنا، هو عنصر الخفّة.. وقد أوردت كلمة ( غالباً ) لأن ثمة استثناءات وإنْ كانت قليلة.. نتذكّر بهذا الخصوص أعمال غائب طعمة فرمان وبعض أعمال فؤاد التكرلي وسلام عبود وعلي بدر وآخرين.. بيد أن هذا لا يشكِّل ظاهرة، او ملمحاً مائزاً في الكتابة السردية العراقية.. يرجع السبب ربما إلى طبيعة الحياة العراقية المعاصرة المطبوعة بالبعد المأساوي؛ الاستبداد والقمع والحروب والصراعات الأهلية. وما يترشح عن ذلك كله من روح سوداوية واضطرابات نفسية وضعف علاقة بالحياة وضمور الأمل. فالنزوع نحو الكوميديا بحاجة إلى أرضية اجتماعية مستقرة وروح إنسانية طلِقة وانفتاح على الحياة والمستقبل.
   غير أن هذا التخريج يمثل وجهاً واحداً من الحقيقة. ذلك أن ضغوطات الحياة وسوء الظروف وانسداد الآفاق لابد من أن يدفع المرء إلى السخرية.. إلى جعل الحال موضوع ضحك.. والسخرية بهذا السياق تغدو آليّة دفاعية من أجل أن يستمر الإنسان ويقاوم في محيط خانق عدائي وصعب، وأنْ لا يقر بالهزيمة. وهي، بالمقابل، وسيلة تعرّض فعّالة للإطاحة بمسبِّبات هذا الوضع السيء باتجاه تغييره.
   لا يحتاج المرء لأكثر من ساعة واحدة أو بضع ساعات يلج خلالها إلى شبكة الإنترنت ويتجول في فضاءات شبكات التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر، داخلاً إلى حسابات الكتّاب العراقيين حتى يلمس روح النكتة المعذّبة، ويجد كمّاً هائلاً من التعليقات والعبارات والتغريدات الساخرة والمتهكِّمة. لكن المفارقة تبرز حين نلحظ أن هذه النزعة نحو السخرية والتهكم والكوميديا القاتمة لا تجد طريقها ( غالباً ) إلى النصوص الأدبية، لاسيما السردية منها. وكأن السخرية تقلل من قيمة العمل الأدبي. في حين أن أعظم الروايات العالمية منقّعة بها بدءاً من ( دون كيشوتة ) لسرفانتس وليس انتهاءً بروايات فوكنر وهنري ميلر وماركيز ونجيب محفوظ وإيزابيل الليندي وكونديرا.
   ليس من السهل استثمار السخرية في الرواية. وأعتقد أن الأمر عند الروائي بحاجة إلى ميزان خاص وحساسية خاصة. ومن المؤكد أن روائياً لا يمتلك روح الدعابة والنكتة والقدرة على السخرية والتهكم في حياته لا يستطيع أن يطعّم نصه بدعابات وجرعات ساخرة. وإذا ما فعل فسيبدو عمله مفتعلاً ومثيراً للشفقة.
   وإذا كنت قد أشرت إلى استثناءات بين الروائيين العراقيين من الذين يوظِّفون السخرية في بناء عوالمهم الروائية وشخصياتها فإن القاص والروائي نزار عبد الستار يُعدّ واحداً من هؤلاء. وروايته ( الأمريكان في بيتي/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت/ 2011 ) تدلّ على براعة لافتة بهذا الصدد. وقد سبق لنزار أن اتخذ مثل هذا المنحى في قصصه القصيرة، لاسيما في مجموعة ( رائحة السينما ).  
 تؤدي السخرية وظيفة فنية جمالية من جهة ووظيفة فكرية ودلالية من جهة ثانية..  وهي مثير فعّال لشحذ الوعي والانتباه، تفتح العيون على الأخطاء والخطايا والدناءات، وتغدو وسيلة تعويض عن حالات الضعف والعجز أحياناً، وإنْ كانت بحاجة إلى قدر من الشجاعة أيضاً، لكنها في النهاية تمتص الخوف من النفوس وتكسر هيبة المستبدّين والأشرار والأدعياء والمنافقين ومن لفّ لفهم.. ورواية ( الأمريكان في بيتي ) تبدأ بمشهد ساخر يرسمه لنا الراوي بضمير المتكلم  ( جلال ) الذي وقف وإلى جانبه زوجته حنان، يحلق لحيته ويغني بعد ليلة عصيبة احتلت فيها قوة عسكرية أمريكية بيته في مدينة الموصل حيث أمضى الجنود أكثر من ساعة يراقبون الشارع من نافذة غرفة الطابق العلوي ويعبثون بأغراض البيت.. يقول؛ “بللت وجهي بكالونيا أولد سبايس لتطهير مسالكي التنفسية من رائحة الزيت المحروق التي أشاعها تنفس الجنود الأمريكان”. لكن هذا لا ينهي محنته بأية حال. فليست هذه هي المرة الأولى التي يفعلون فيها ذلك ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. أما المشكلة الأكبر فليست في أن أولئك الجنود يلقون في نفوس أفراد عائلته الروع ويسلبونهم راحتهم في وقت النوم فقط. وإنما يوصمونه ( هو الصحافي والناشط في المنظّمات المدنية ) بتهمة التواطؤ مع قوات الاحتلال أمام الناس ومنهم جماعات متطرفة ومتعصبة لا تفهم ملابسات ما يحدث. وعليه أن يبرِّر أمام الآخرين موقفه. وأن يتخذ قرارات حصيفة في ظرف مبلبل ومشوش.
   تظهر كفاءة نزار عبد الستار الإبداعية في أنه يروي محنة فرد وعائلة ومدينة بطريقة ساخرة مسلّية. وشخصياً أعتقد أن الرواية المفعمة بروح الدعابة، وبالرؤية العميقة الساخرة التي تعرّي كل شيء، وتفضح اختلالاته وتناقضاته، تمنح قارئها الأمل حتى وإن كان موضوعها غير سار.
*   *   *
   يتجلى خيط واضح من السخرية في رد جلال على استغراب السرجنت مايكل من أن العائلة العراقية لا تتعلم من العائلة الأمريكية التي تقدّر بعمق أن أبناء الولايات المتحدة الأمريكية هم في واجب من أجل الديمقراطية.. يقول جلال؛ “والله العظيم نحن نتعلم وأنا معجب بالحلم الأمريكي، ونحن نشاهد دائماً برنامج أوبرا، ولكن مظهر الجنود والأسلحة يُرعب أطفالي”. وتكاد هذه العبارات تلخِّص ما تنطوي عليه العلاقة بين الطرفين من التباس وتوتر وسوء فهم، لاسيما من جانب مايكل الذي يقتحم جنوده المنزل متى يشاؤون، يرعبون سكّانه ويطلبون منهم أن يكونوا ممتنين، مقدّرين لواجب الأمريكان في نشر الديمقراطية. فالمشهد برمته سوريالي، ويثير الشجن والسخط.
   تتعدى محنة جلال ما يحصل له مع الجنود الأمريكان في منزله إلى ما يجري من أحداث في مدينته الموصل التي يعشقها.. المدينة التي بدأت تفقد سلامها واستقرارها ناهيك عن طابعها المدني الحضاري وتمضي إلى المجهول. فالرواية في جانب منها هي سيرة مدينة واقعة تحت الاحتلال. وهو احتلال مركّب أطرافه الأمريكان والمسلحون المتطرِّفون والجهلة واللصوص والفاسدون، فيما تبرز نخبة مثقفة ( جلال في ضمنهم ) لمقاومة ما يشوِّه صورة المدينة ويحافظ على كيانها الثقافي وهويتها المدنية والحضارية. لنتأمل في هذه العبارات التي ترد على ألسنة بعض شخصيات الرواية المنتمية لتلك النخبة؛
   “سيحوِّلون سينما الأندلس إلى مخازن للأحذية والملابس الصينية يا أستاذ جلال”
   “أنت تريد لمبنى سينما الأندلس أن يبقى. تريد يا صديقي أن يكون هناك أثر ما لرائحة كاثرين هيبورن. أنا أيضاً أريد هذا”.
   “عليك أن تُسرع في جعل الموسيقى تنبعث مجدداً من قصر بني”.
   إنه صراع من أجل البقاء بكرامة، والعيش في مستوى إنساني رفيع مبدع ومنتج.. وهذا بحاجة إلى العمل المشترك الذي يضمنه تنظيم سري يستعيرون له اسم ( الدومنيكوس ). من هنا يتخذ الأمر بعداً رمزياً حين يتركز على أثر تاريخي آشوري نفيس يتمثل بقلادة الملكة شمشو، والتي تحاول جهات عديدة الاستحواذ عليها حتى لتبدو القلادة وكأنها روح المدينة والبلاد.. ويستثمر الروائي في تصوير الصراع تقنية الحبكة البوليسية المتقنة التي يلفها الغموض. وهذا يُذكِّرنا بحبكات روايات دان براون. غير أن الروائي في الربع الأخير من روايته يبدو وكأنه يستعجل الانتهاء من الكتابة فالأحداث تتسارع إلى الحد الذي لا يبدو معه مقنعاً أحيانا. وكان من الممكن إشباع النص عبر توسيع شبكة المسارات السردية والتي لا تفتقر إلى عنصري الإثارة والتماسك، وإنضاج البنية الدرامية أكثر عبر تعميق رسم الشخصيات التي تفاوتت في إبراز دورها وملامحها على مسرح الحدث الروائي.
   يتعرض مشروع تنظيم الدومنيكوس لهجمة بربرية ضارية على يد جماعات تتستر بالدين وتحاول قتل روح المدينة وإرهاب سكّانها.. يقول إبراهيم أحد شخصيات الرواية للسيد صافي وهو شخصية ذات حضور قيادي وكاريزمي؛ “سيد صافي لقد قتلوا الدكتور حازم من قبل لأنه أسس فرقة مسرحية، واليوم قتلوا الحاج جبار وأحرقوا المكتبة وأطلقوا النار على السينما. وهذا يعني أن أمرنا قد انكشف وهناك أعداء يتعقبون تحرّكاتنا وأفعالنا. أرى أن نتريث”.
   وعلى الرغم من الإحباطات والخسارات والخوف والجرائم المرتكبة ووجود قوات محتلة فثمة شعاع أمل دائماً يجعلنا الروائي نتحسسه عبر تصاعد مسار الأحداث حيث تخفت معه نبرة السخرية في السرد، وتتأكد مواقف الشخصيات التي تقرر أن تمضي بالتحدّي حتى شوطها الأخير.
   استخدم الروائي في الغالب نسقاً تتابعياً في بناء روايته. إلى جانب لغة سردية سهلة وواضحة وإن كانت تعبِّر عن متن حكائي له جوانب مبهمة تتكشف تباعاً.  وهذا ما أعطى النص دلالات إنسانية ووجودية عميقة وحقنه بعنصر التشويق. وفي هذه القراءة للرواية لم أكشف سوى شذرات من ذلك المتن، تاركاً للقارئ فرصة التمتع برحلة قراءته الخاصة.
   تعد رواية ( الأمريكان في بيتي ) وثيقة ذات مضمون واقعي وتاريخي تستثمر المتخيّل لتحكي عن كفاح مدينة عريقة هي الموصل من أجل استرداد حقها في حياة حرّة ومبدعة تحاول قوى ظلامية سحقها وإفراغها من روحها الحضارية. وهي ( أي الرواية ) من ناحية ثانية نص سردي إبداعي ناضج يؤشر علامة مهمة في المشهد الأدبي العراقي بعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق في العام 2003. 
   هذه رواية، إن بدأت بقراءتها، لن تستطيع أن تتركها إلّا بعد الصفحة الأخيرة.   

أحدث المقالات