كان من المفترض أن تكون الإطاحة بنظام صدام حسين بداية عصر سلام للعراق وأوقات عصيبة لأسامة بن لادن وأتباعه. أما اليوم فإن هذه الأهداف النبيلة أصبحت بعيدة المنال. حيث أصبح العراق تمزقه الجريمة والتمرد الدامى، فى ذات الوقت الذى تزداد فيه حسرة السكان من العرب السنة. فقد استغل بن لادن وأتباعه التدخل العسكرى الذى قادته الولايات المتحدة لتعضيد ادعاداتهم بأن الولايات المتحدة تسعى إلى استعباد العالم الإسلامى، وهو الاعتقاد الذى يزداد انتشاراً فى الشرق الأوسط. هذا بينما تزداد الخسائر البشرية والتكاليف المالية داخل الولايات المتحدة وبريطانيا نتيجة تورطهما فى هذه الحرب فى حين يراود الشك المخططين العسكريين ومحللى الميزانية فى قدرة بلادهم على تحمل تواجد قواتهم الضخم فى العراق، ناهيك عن الحاجة إلى زيادة حجم هذه القوات لمواجهة التحديات المثبطة للهمم هناك. فمع كل انفجار سيارة مفخخة، واختطاف شخص، ترتفع الأصوات مطالبة الولايات المتحدة بإعادة قواتها إلى أرض الوطن. رغم كل هذا، إلا أن انسحابا سابقاً لأوانه سيكون أمراً مفجعاً. حيث من الممكن أن يتحول العراق إلى قاعدة للمجاهدين، الذين يرسلون عملاءهم السريين لشن هجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها على كل الساحة العالمية. هذا بالإضافة إلى أن الانسحاب المتعجل من العراق سيكون من شأنه زيادة احتمالات اندلاع حرب أهلية بين الطوائف والعرقيات العديدة فى العراق كما يقوى أيضاً من نفوذ إيران فى المنطقة. ولكن الحرب التى شنت ضد العراق لا يعنى أن طرفاً من الأطراف قد خرج منها منتصراً، وهذا هو الحال مع الولايات المتحدة وحلفائها منذ مايو 2003 حين توقفت العمليات العسكرية بين القوات الأمريكية وجيش صدام حسين. ولسوء الحظ، فإن النقاش حول موضوع العراق لا يزال دائر حول مدى شرعية ورشادة القرار الأول للذهاب إلى الحرب أصلاً، والانتقادات الموجهة للمخططات التى وضعت فيما بعد توقف الحرب. أما ما أثير من جدل طفيف حول المستقبل فقد ظل مقصوراً كالعادة حول موضوعين: الاستمرار على السير فى نفس المنهج القائم فى مقابل الخروج من العراق الآن. وذلك دون أى اعتبار لاحتمالات أخرى كثيرة متوقعة. إن النجاح النسبى الذى تحقق بإجراء الانتخابات العراقية فى 30 يناير 2005، قد أتاح الفرصة للولايات المتحدة لكى تعيد تقييم نظريتها حول الموضوع العراقى برمته، دون أن يبدو عليها الانفعال من الخسائر الشديدة التى تتعرض لها، والانتقادات الكثيرة الموجهة ضدها. فهناك بالضرورة خمسة احتمالات حول مستقبل العراق: الاحتمال الأول: السير فى نفس المنهج السياسى القائم حالياً، وبنفس مستوى القوات. الاحتمال الثانى: إجراء توسع كبير فى حجم الوجود العسكرى للولايات المتحدة وحلفائها، لمواجهة تزايد التحديات التى تواجهها فى العراق. الاحتمال الثالث: توسع محدود، ولكن نحو تحول كبير لتوجيه العمليات العسكرية ضد عمليات المتمردين. الاحتمال الرابع: النزول بعدد القوات الأمريكية والمتحالفة إلى حجم صغير بحيث يكون قادراً على النهوض بمهمة محدودة. الاحتمال الخامس: يتمثل فى الانسحاب الكامل لكل القوات الأمريكية والمتحالفة. ولإجراء تقييم شامل لكل احتمال من هذه الاحتمالات الخمسة، فإن الأمر يتطلب دراسة معمقة لمردود كل احتمال من الاحتمالات الخمسة على الاستقرار فى العراق، وآفاق تطبيق الديمقراطية فى العراق، واحتمالات استمرار تسلل المجاهدين الأجانب إلى داخل العراق، وأثر ذلك على الحرب الشاملة الدائرة ضد الإرهاب، ومدى ما تحققه من استقرار فى المنطقة، واستمرار بقاء القوات الأمريكية وما تتكلفه من أرواح ودولارات. ولا يوجد بين الاحتمالات الخمسة السابق الإشارة إليها ما يمكن وصفه بأنه طيب ومفيد إلا أن الوضع الراهن فى العراق يمثل على وجه الخصوص حلا مبسطاً غير مرضٍ، ويتطلب تضحيات كبيرة جداً بينما المكاسب العائدة منه قليلة جداً. لذلك فإن أفضل بديل لإحراز النصر فى العراق هو التوسع فى حجم القوات، بحيث يكون ذلك مقروناً بتحول جرئ فى مواجهة عمليات التمرد. بمعنى أنه يتعين على القوات الأمريكية أن تهتم بتوفير الأمن على المستويات المحلية فى العراق بدلاً من القيام بأعمال دوريات على فترات متقطعة لتغطى مساحة أكبر من أرض العراق، وهو ما يحتاج إلى تجمعات قوات كبيرة. ولسوء الحظ فإن مثل هذا التوسع سوف يستغرق سنوات حتى يجنى ثماره المرجوة، كما أنه بجانب ما يستغرقه من وقت، وما يتكلفه من تضحيات كبيرة تفوق ما قدمته أمريكا حتى الآن، إلا أنه لا يوجد ضمان للنجاح فى النهاية. ولذلك يعتبر غير واقعى من الناحية السياسية. وإذا كنا على غير استعداد لتحمل تكاليف أبهظ مما تحملنا حتى الآن، ولا تحمل مزيداً من المخاطر أكثر مما عانيناه، فإن أفضل معالجة لموضوع العراق هو تبنى خيار تقليل حجم القوات الأمريكية والمتحالفة فى العراق، برغم أن ذلك يجعل الأمل ضعيفاً فى إنجاز نصر حقيقى. ذلك أن تقليل حجم القوات سوف يمكن واشنطن من الاستمرار فى مقاتلة المجاهدين الأجانب المتواجدين، إلى جانب تأمين نفوذ أمريكى فى العراق بحجم قوات أقل بكثير مما هو قائم حالياً، وبهذا سيقل بدرجة كبيرة حجم الخسائر فى أرواح الجنود الأمريكيين والدولارات، كما سيتقلص بالتالى حجم التوتر الذى تعانيه حالياً المؤسسة العسكرية الأمريكية ومع التسليم بأن الثمن المقابل لتخفيض حجم القوات الأمريكية فى العراق سيكون باهظاً: حيث ستقلص إمكانية تحول العراق إلى واحة الديمقراطية فى المنطقة، إلى جانب مخاطر كبيرة لشيوع حالة من الفوضى، وفرص أقل بأن يصبح العراق صوتاً قوياً مؤيداً للغرب فى العالم العربى. فبرغم هذه المشاكل الخطيرة، فإن تقليل حجم القوات الأمريكية يبقى هو أفضل (أو بمعنى أدق: الأقل سوءاً)، ولكنه فى نفس الوقت يعتبر من الناحية السياسية واقعياً. مشاكل الإبقاء على النهج الحالى منذ انتهاء العمليات العسكرية التقليدية فى مايو 2003، قامت القوات الأمريكية وحلفائها بشن عمليات مباشرة ضد المتمردين السنة (وعمليات أقل ضد الشيعة)، وضد المجاهدين الأجانب، وذلك كجزء من برنامج شامل لفرض الأمن والاستقرار فى العراق. وكانت معالم الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق هذا الهدف تتمثل فى الخطوط الرئيسية الآتية: عندما يتمتع العراق بقدر من الأمن فإنه يمكن للولايات المتحدة أن تلقى بكثير من المسئولية لإدارة شئون البلاد على عاتق حكومة مدنية شرعية ينتخبها الشعب العراقى. وهى العملية التى تصر إدارة بوش على أن تسير فيها قدماً، والتى خطت فيها خطوة مهمة بإجراء انتخابات 30 يناير 2005. وفى الوقت الذى تم فيه تشكيل الحكومة الشرعية، تقوم قوات التحالف بتدرب قوات الأمن العراقية، ويحدوها الأمل فى أن تسلم مهمة الشرطة، ومواجهة المتمردين وتأمين الحدود إلى هذه القوات العراقية عندما يزيد حجمها وتكون مؤهلة من حيث التدريب والإعداد لتحمل هذه المسئوليات. فإذا سارت الأمور طبقاً لهذا التصور الاستراتيجى، فإنه سيكون بإمكان الولايات المتحدة أن تنسحب من العراق فى غضون بضع سنوات. ومما لاشك فيه أن الطريقة التى تسير بها الأمور حالياً فى العراق قد حققت عدة إنجازات، فقد منعت وقوع حرب أهلية على نطاق واسع، وهو ما توقعه البعض قبل الحرب، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى أدوار التهدئة التى مارستها قوات التحالف بين الطوائف والعرقيات المختلفة فى العراق. فقد ظلت المناطق الكردية إلى حد ما خالية من الجرائم وأعمال العنف التى اجتاحت مناطق أخرى من العراق. كما لم تتدخل تركيا لسحق النشاط السياسى الكردى. ولا يزال العراقيون يحتفظون بشئ من الثقة فى قدرة أفرادهم بأجهزة الشرطة والأمن على تحقيق المهام المنوط بهم إنجازها. كما يمكن حتى الآن القول بأنه تم احتواء اضطرابات الشيعة التى أثارتها ميلشيات مقتدى الصدر الموالية لإيران، والتى وقعت فى أكتوبر 2004، حيث كادت تقع أزمة خطيرة. وعلى الرغم مما أصاب العراق من فوضى واضطرابات فاقت ما كانت تتوقعة الولايات المتحدة، إلا أن العملية السياسية لإرساء الديمقراطية تجرى بجدية وقطعت شوطاً طويلاً. ففى عملية انتخابات يناير 2005 تنافست أكثر من 200 مجموعة سياسية، ورغم أن هذا العدد يعتبر كبيراً جداً، إلا أنه يدل على الحماس العراقى لكسب معركة الديمقراطية. كما يتطور المجتمع المدنى فى مناطق كثيرة من العراق. فقد ساند زعماًء الشيعة العملية الانتخابية التى جرت – أو على الأقل وافقوا عليها – بما فى ذلك الزعيم الشيعى المشاغب مقتدى الصدر، وهم الآن يعملون مع الولايات المتحدة ومسئولى الحكومة العراقية المؤقتة، مما يدل على وجود بعض الثقة لديهم فى النظام السياسى الناشئ فى العراق، وبذلك تم استبعاد واحد من أسوأ الكوابيس التى كانت تتخوف منها الإدارة الأمريكية، وهو أن تنقلب الأغلبية الشيعية ضد قوات الاحتلال. ولكن على الرغم من هذه الإنجازات، فإن الوضع فى العراق اليوم لا يزال مضطرباً، والتكهن بالمستقبل ملبد بالغيوم. وحقاً نقول أن مسئولاً كبيراً فى وكالة المخابرات المركزية يعمل فى العراق وصف فى لقاء خاص خلال ديسمبر 2004 الموقف فى العراق بأنه أخذ فى التدهور، ولا يبدو فى الأفق نهاية لهذا الوضع. ويرجع هذا الفشل إلى أبعاد كثيرة معقدة: منها اتساع مدى العنف وربما نموه أيضاً، وافتقاد الحكومة العراقية المؤقتة إلى الشرعية الكافية، والاضطراب الذى يسود العملية السياسية وبناء الديمقراطية، بالإضافة إلى تزايد قوة المجاهدين. ويتزايد العنف ولا تهدأ شوكته، ويتضاعف عدد الهجمات ضد قوات التحالف ثلاث مرات فى السنة الماضية (2004)، وعدد المتمردين يقفز إلى 20.000 متمرد. وتذكر أعمال العنف على وجه الخصوص فى المناطق السنية. وقد تأثرت بذلك معظم مدن العراق الكبرى تقريباً، وخاصة بغداد. ويشير أحد تحليلات صحيفة نيويورك تايمز إلى أن نصف العراقيين يعيشون فى مناطق تعانى من هجمات المتمردين، والى تصل معدلاتها إلى هجمة واحدة على الأقل كل ثلاثة أيام. وهذا المستوى المرتفع من العنف يهدد بإشعال نار فتنة طائفية وعرقية على نطاق واسع. ذلك لأن الوفاق المدنى فى العراق، قائم على أسس واهية. فقد تكونت ميليشيا شيعية جديدة تطلق على نفسها (لواء الغضب) تستهدف الانتقام من السنة لقتلهم الحجاج الشيعة وضباط الأمن. كما يحذر الخبراء من خارج العراق من اشتعال العنف أيضاً فى المدن الكردية التى يسودها السلام الآن، إذا ما بدا لهم أن الحكومة الجديدة تنحاز إلى العرب. فقد يشتعل العنف الطائفى والعرقى فى مدن الموصل وكركوك ومدن أخرى يسكنها خليط من العرب والأكراد بسبب النزاعات على توزيع الثروة وارتفاع حدة التوتر العرقى. ويستغل المجاهدون الأجانب داخل العراق هذا الموقف، ويزيدون من إشعال نار الفتنة، وعلى الرغم من أنه يصعب تحديد عددهم، إلا أنه يقدر بحوالى 2000 فرد. ولا تتوقف المشكلة عند حد قيام هؤلاء المجاهدين بقتل الأمريكيين، وأنهم غالباً ما يكونوا وراء ارتكاب أكثر الهجمات وحشية والتى لا تميز بين فرد وآخر، ولكن الأخطر من ذلك أن يتحول العراق نفسه ليصبح ساحة جديدة للجهاد، حيث يتقابل المجاهدون الجدد القادمون من وراء الحدود، ويكتسبون خبرات قتالية، ويبنون روابط وعلاقات أبدية فيما بينهم، تمكنهم من العمل سوياً فى السنوات القادمة، حتى وإن تركوا العراق. وكما يقول Alexis Debat المسئول السابق فى وزارة الدفاع الفرنسية يسعى المجاهدون إلى تحويل العراق إلى ساحة تماثل ما كانت عليه أفغانستان قبل خريف عام 2001، بحيث يصبح المكان الأمثل لترويج أيديولوجياتهم، وساحة لتدريب المنضمين الجدد إليهم، بالإضافة لأن تكون ملاذاً آمناً لقياداتهم. والمجاهدون ليسوا هم فقط الضيوف غير المرغوب فيهم بالعراق. فإيران على وجه الخصوص قامت بغمر العراق بعملاء استخباراتها، (أما الأسوأ من ذلك، فهم أعضاء حزب الله اللبنانى، شريك إيران على الأمد البعيد). فقد تعاونت إيران لسنوات مع شيعة وأكراد العراق الذين ناهضوا نظام صدام حسين. ومع رحيل صدام، تقوم إيران بتأسيس روابط مع معظم المجموعات الرئيسية فى العراق، بما فى ذلك أعدائها السابقين مثل الذين كانوا يدينون بالولاء للنظام القديم. حتى أن طهران توجه عملاءها لشن عمليات هجومية ضد الولايات المتحدة. إن أقل ما يمكن قوله فى هذا الصدد أن إيران يزداد نفوذها بشكل قوى خاصة فى المناطق الشيعية. وهذا النفوذ – الذى ربما لم يحقق بعد غاياته وأهدافه النهائية – لا يزال بعيداً عن التسبب فى وقوع كارثة، لاسيما وأن استقرار العراق يعتبر أحد اهتمامات طهران. ولكن رغم كل هذا، فإن لدى إيران القدرة على تغيير الموقف الأمنى السئ حالياً إلى شئ مرعب. وكنتيجة لذلك، فإن إيران لديها وسيلة ضغط إضافية على واشنطن والتى تمكنها من مقاومة الضغوط الأمريكية على قضايا أخرى مثل البرنامج النووى الإيرانى الذى تعارضه الولايات المتحدة. وربما يكون الشئ الأكثر إثارة للقلق هو أن الولايات المتحدة هى بؤرة اهتمام معظم عمليات التمرد ويقول كل من Bathshega Crocker, Frednick Barton أن وجود القوات متعددة الجنسيات فى العراق يعتبر أمراً ضرورياً لتأمين السلام فى العراق، ولكن فى نفس الوقت، فإن هذه القوات فى حد ذاتها تعتبر جزءاً من المشكلة، وبالنظر لأنها تشعل التمرد. ذلك لأن غالبية الأحزاب والمجموعات السياسية العراقية لا تتفق إلا فى موضوعات قليلة، من ذلك أنهم متفقون على الرغبة فى إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى فى المدى القصير. فكثير من الجماعات السنية تجعل من هذه القضية موضوعاً مشتركاً للتحالف مع المجاهدين الأجانب رغم ما يكنونه لهم من ازدراء. كما أن الجهود التى تبذلها الولايات المتحدة فى كسب ود العراقيين تأتى فى بعض الأحيان بنتائج عكسية، وفى هذا الشأن يقول كل من Michael O\’Hamelon و James Steinlerg كلما أكثرنا من الكلام حول بقائنا فى العراق حسبما يتطلب الموقف، كلما ظهر ذلك كما لو أننا نحاول أن نفرض رؤيتنا على العراق، وهذا ما ينفر عامة العراقيين منا. وبالإضافة إلى ضخامة حجم المشكلة، فإن طريقة معالجة الولايات المتحدة لها تسير فى الطريق الخطأ. فمن الناحية الاستراتيجية غالباً ما تركز الولايات المتحدة على الاشتباكات الثابتة المحدودة أكثر من الحرص على العمل من أجل زيادة أمن العراقيين يوماً بعد يوم. حيث يفر المتمردون عندما يستشعرون حصارهم فى معارك ثابتة، ويسرعون إلى الذوبان فى جموع السكان، ثم يظهرون فقط عندما تغادر غالبية القوة متعددة الجنسيات أرض المعركة. ففى الفالوجا – على سبيل المثال- ترك معظم كبار المجاهدين الأجانب وزعماء المتمردين المدينة مسبقاً قبل بدء العملية العسكرية الأمريكية. أما العمل من أجل استتباب الأمن اليومى للعراقيين فإنه يتطلب إعادة توزيع القوات الأمريكية على المناطق المجاورة بحيث يكون بإمكانهم العمل كعناصر شرطة، قادرة على منع المتمردين من ترويع الأهالى. إلا أن الولايات المتحدة تجنبت هذا، فكثير من القوات الأمريكية ليست على اتصال مستمر بعامة العراقيين، إن ما يحدث من اشتباكات يومية خارج المنطقة الخضراء فى القسم الذى تتكثف فيه الحراسة من بغداد، يفضل أن تخوضها القوات العسكرية، وليس بواسطة الإداريين المدنيين. فبدلاً من أن تقوم هذه القوات العسكرية بمهامها الواجبة فى العمل كدوريات قوية، فإنها تظل قابعة فى معسكراتها. إن التركيز على حماية القوات هو أمر مفهوم ولا جدال حوله، بل ويدعو للثناء. فمن الطبيعى أن يحرص القادة السياسيون والعسكريون على المحافظة على أرواح الجنود الأمريكيين، لاسيما وأن التزايد فى أعداد القتلى قد يضعف الروح المعنوية فى داخل الولايات المتحدة، وبالتالى يضعف من الدعم الداخلى للعملية الأمريكية فى العراق. ولسوء الحظ فإن هذه الحسابات ذات الرؤية قصيرة المدى غالباً ما تكون لها مردودات سلبية وكلفة عالية فى المدى البعيد. ذلك أنه نادراً ما يدخل المتمردون فى مواجهات مباشرة مع القوات الأمريكية، ولكنهم بدلاً من ذلك يبحثون عن المناطق التى يكون انتشار القوات الأمريكية فيها ضعيفاً، حيث يقومون بإرهاب العراقيين المتواجدين بها أو بالقرب منها. وبسبب عدم توافر تواجد عسكرى أمريكى دائم فى معظم المناطق، لذلك يضطر السكان المحليون إلى التعاون مع المتمردين، وإلا فإنهم سيلاقون جزاء عدم تعاونهم عندما يعود إليهم المتمردون. فكثير من العراقيين يشعرون فقط (بالأمن الأمريكى) عندما تسير الدوريات الأمريكية فى طوابير مسلحة فى مناطقهم، وبنادقهم مصوبة نحو النوافذ. على هذا، حتى لو كان هناك عدد قليل نسبياً من العراقيين يتمنون انتصار المتمردين، بالإضافة للخوف من قيامهم بترويع اى شخص قد يتعاون مع الولايات المتحدة والحكومة العراقية، إلا أنه بسبب حصر الاهتمام فقط بحماية أرواح الجنود الأمريكيين، فإن القوات الأمريكية فى العراق لم تستطع أن تقيم سوى علاقات محدودة مع العراقيين المحليين، الأمر الذى يجعل من الصعب زرع مصادر استخباراتية بينهم. وتتصدر الجريمة قائمة الاهتمامات العراقية، حيث أصبحت واسعة الانتشار. ولذلك تشير باستمرار استطلاعات الرأى التى تقوم بها الحكومة الأمريكية حول العراقيين إلى أن جرائم الشوارع تثير قلق وخوف العراقيين بشكل يفوق الاهتمام بأعمال العنف والإرهاب. حيث أصبح الكثير من العراقيين يخافون من ترك منازلهم للذهاب إلى العمل أو إرسال أطفالهم – خاصة بناتهم- إلى المدارس. لذلك فإن منع الجريمة يتطلب إقامة حكومة يمكن الوثوق فيها، وقوة شرطة كبيرة جديرة بالقيام بمهامها، ونظام قضائى جنائى واسع يشمل محاكم وسجون، فى حين كل هذه الأمور الثلاثة غير متوافرة حالياً فى العراق. إلا أنه يمكن حالياً وإلى حد ما الاستعانة بزعماء القبائل والعشائر المحليين، ومجموعات الميليشيات، أو أى جماعات أخرى تكون على استعداد للمساعدة فى استتباب الأمن لسد العجز الموجود فى عناصر الشرطة والأمن. ومن المفاجئ أن ميليشيات المتمردين، والعصابات الإجرامية، أو قوات القبائل، اتضح أنهم قليلو العدد، حيث يبلغ عددهم بضع عشرات أو أقل من عدة مئات، وبحيث يمكن بسهولة لقوات شرطة منظمة جيداً وقوات عسكرية منضبطة أن تسحقهم بسهولة، ولكن فى غياب هذه العناصر الحكومية يصبح خطر هذه العصابات قاتلاً. فخلال الحرب الأهلية فى يوغوسلافيا السابقة – على سبيل المثال- كانت توجد عصابات مكونة من قرابة ثلاثين فرداً لا أكثر، ولكنها أثارت الرعب فى مدن كبيرة فى البوسنة مثل سربرنيتشا، وتوزلك، وفيزيجراد، وأجبرت عشرات الآلاف من الناس على الفرار كلاجئين. إن ثقة العراقيين بقوات شرطتهم شئ يدعو للبهجة، ولكنه لسوء الحظ قد تكون هذه الثقة فى غير محلها. فقد واجهت برامج تدريب الشرطة العراقية التى تولاها الأمريكيون المأساة تلو المأساة، ومازال ينقصها الموارد اللازمة. لذلك فإن كثيراً من هذه القوات لم تتلق التدريب الكافى، كما أسئ اختيار قادتهم على مستوى الوحدة، وفى مجمل الأمر تفتقر الولاء للقيادة السياسية العراقية القائمة (وربما لن تدين أيضاً بالولاء للقيادة السياسية فى المستقبل). ويسجل Peter Khaliم الذى كان مديراً لسياسة الأمن القومى لهيئة قوات التحالف حتى صيف عام 2004، أنه حتى لو تضاعفت أعداد قوات الشرطة العراقية فسيظلون بلا جدوى. فغالباً ما تهرب الوحدات العراقية عند مواجهة المتمردين، وفى بعض الأحيان يغيرون جلدهم ويلتحقون بالأعداء. لذلك يمكن القول أن القوات العراقية تلقت تدريباً ومعدات غير كافية خلال الأشهر الأولى عقب انتهاء الحرب. ومنذ انهيار قوات الأمن العراقية خلال اشتباك ربيع 2004، أصبح التدريب له الأولوية القصوى، ولكن حتى مع تحسن برنامج التدريب تحسناً كبيراً، فإن التحول بوحدات شرطة صدام حسين الفاسدة وجيشه العشوائى إلى قوات نظامية منضبطة وذات كفاءة مدمجة فى النظام الديمقراطى وجديرة به، سيستغرق سنوات. فحتى ديسمبر 2004 تم تدريب 118.000 فرد فقط من قوات الأمن من حجم القوة المخطط لها أن تصل إلى 272.000 فرد، وهى ذات مستوى منخفض من التدريب الذى أشرفت عليه الولايات المتحدة. ولقد أدرك المتمردون نقطة الضعف هذه، وركزوا هجماتهم ضد عناصر الشرطة والجيش والحرس الوطنى العراقى، والمترجمين والموظفين والعمال الآخرين اللازمين لإقامة حكومة جديدة وترسيخ وجودها على الساحة العراقية، أو أن تجبر قوات التحالف على القتال. وهذا الموقف تفاقم نتيجة لعدم وجود حوافز كبيرة للعراقيين لكى يطوروا قواتهم العسكرية، وطالما أن الولايات المتحدة هى التى تتحمل هذا العبء الأمنى. وتفتقر الحكومة العراقية المؤقتة للشرعية فى نظر كثير من العراقيين. وبسبب العدد الضخم من القوات الأمريكية المتواجدة فى العراق، فإن أى قائد سياسى سوف يواجه أياماً عصيبة لكى يتخلص من الانطباع بأنه تحول إلى دمية فى أيدى الأمريكيين. وتشير تقارير أجهزة الأعلام أن إياد العلاوى رئيس الوزراء العراقى المؤقت، كان قد تعاون بشكل وثيق مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قبل الحرب، لذلك اختارته الولايات المتحدة ليكون أول رئيس للحكومة المؤقتة. وأكد Larry Diamond خبير الديمقراطية والذى كان يقدم المشورة لهيئة قوات التحالف، أن من أبرز المشاكل الدائمة التى تواجهها هو أن الولايات المتحدة قوضت شرعيتها وهى تحاول فرض سيطرتها على العراق. تزداد حدة مشكلة الشرعية فى المناطق التى تسكنها جماهير السنة، وذلك أن السنة العرب الذين كانت لهم الحظوة فى عهد صدام حسين، والذين يشكلون أقلية طائفية حيث تبلغ نسبتهم خمس سكان العراق، يعتبرون هم الخاسرون من العراق الديموقراطى حيث تمتلئ قلوب الكثيرين من السنة بالحسرة لفقدانهم ما كانوا يتمتعون به من نفوذ فى الماضى، كما أن العنف المستمر فى المناطق السنية جعل من الصعب سياسياً على القادة (بل خطورة شخصية) أن يتعاونوا مع الحكومة الجديدة. ويبدو أن المتمردين يتمتعون بدعم الكثير من السكان العرب السنة، أو على الأقل السكوت على أعمالهم الإرهابية. وحيث لم تقدم أى من الولايات المتحدة ولا الحكومة العراقية المؤقتة شيئاً اقتصادياً نافعاً للعراقيين، مما أدى إلى زيادة تشويه وتقويض شرعيتها. فقد وصلت نسبة البطالة إلى 30-40%، وتضاعفت معدلات سوء التغذية منذ بدأت الحرب، كما أن رأس المال الأجنبى عازف عن الاستثمار فى بلد تمزقه الحرب ومضطرب سياسياً. ويستهدف المجاهدون اختطاف وقتل أفراد المنظمات التى تقوم بتقديم المعونات. وفى بعض الأحيان يجزون أعناقهم، مما جعل العراق بلداً موحشاً حتى بالنسبة لخبراء الأعمال الإنسانية الذين لديهم خبرات واسعة فى العمل بالمناطق التى تسودها الحروب والكوارث. ولقد أدى هذا الفشل من جانب الولايات المتحدة والحكومة العراقية المؤقتة فى تقديم الخدمات إلى تفاقم الأوضاع، حيث لم تتحقق أى من الآمال التى حلم بها معظم العراقيين فى أن يؤدى عزل صدام حسين إلى بداية سريعة لعصر اقتصادى جديد ومزدهر برغم المشاكل الكبيرة المتواجدة فى الهيكل الاقتصادى العراقى. وعلى الرغم من أن الانتخابات تشكل نهضة حقيقة من ماضى العراق الديكتاتورى إلا أن مستقبل الديمقراطية فى العراق لا يزال غير واضح. حيث تختلف الأحزاب والمجموعات السياسية الكبيرة فى العراق حول مسائل رئيسية، منها فترة المشاركة فى السلطة، ودور المرأة، وسلطات الحكومة الفيدرالية، وطريقة الانتخابات، بالإضافة لمسائل أخرى أساسية. ولقد أعاقت الاضطرابات التى تسود البلاد جهود بناء نظام سياسى. لذلك ينبغى على القيادة السياسية التى ستعتلى السلطة بعد الانتخابات أن تتمتع بقدر أكبر من الشرعية، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك بين كل العراقيين. فقبل إجراء الانتخابات كانت السنة تنادى بعدم شرعية الانتخابات مدعين بأن النظام القائم ليس فى صالحهم، لأن الشيعة سوف يستغلون قواعدهم الشيعية التى تمثل الأغلبية فى الوصول إلى الحكم. لذلك فإن كثيراً من العرب السنة، بخلاف باقى العراقيين، لم يدلوا بأصواتهم بسبب ترويعهم من قبل القيادات السنية والمجاهدين، وربما رجع ذلك أيضاً إلى رفضهم النظام السياسى من أساسه. ومن ثم فإن على القيادة السياسية الجديدة أيضاً أن تعالج المشاكل المعقدة المتعلقة بحقوق الأقليات ودرجة المشاركة فى الحكم بالنسبة للطوائف والعرقيات الكبيرة والرئيسية فى العراق، وكلها مسائل قد يؤدى عدم التوصل إلى حلول بشأنها إلى نشوب صراع: والأهم من كل هذا هو أن النظام الجديد سوف يعتمد على الولايات المتحدة لاستتباب الأمنى، الأمر الذى يقلل من مكانته وهيبته بين الوطنيين العراقيين. ولسوف تواجه الحكومة الجديدة ضغوطاً داخلية هائلة لكى تبعد نفسها عن واشنطن. وكما يقول Michael Eisentadt أن قيام عراق موال لأمريكا ليس فى الحسبان، ولكن أفضل ما يمكن أن نأمل منه الآن هو شراكة غير مستقرة مبنية على تقييمات غير عاطفية للمصالح المشتركة. حتى أنه يوجد هناك احتمال فى أن تطلب الحكومة العراقية الجديدة من الولايات المتحدة أن تجلى قواتها عن الأراضى العراقية، خاصة إذا ما ظهرت فضائح أخرى مخجلة مثل ذلك التعذيب الذى لاقاه السجناء فى سجن أبو غريب على أيدى الجنود الأمريكيين. ولكى تتحسن الأوضاع الأمنية يجب على الولايات المتحدة والحكومة العراقية أن يعملا سوياً مع زعماء القبائل والعشائر المحليين وقادة الميليشيات. وهو تحرك ذكى ينبغى أن يتم من أجل تحسين الأوضاع الأمنية، وأن كان ذلك يمثل كارثة محققة فيما يتعلق بالآمال العريضة، المعقودة على الديمقراطية فى العراق. ذلك لأن الكثير من هذه الميليشيات لها جذور فى كثير من الحركات المعارضة لصدام حسين قبل الحرب، وبعضها كان متورطاً فى شبكات التهريب، ومع المجموعات القبلية، أو فى منظمات المجتمع. وبسبب هذه الميليشيات يحذر Diamond قائلاً: إن فترة الانتقال التى تتلو تسلم السلطة سوف تكون طويلة ودامية. إنه سؤال مفتوح عما إذا كان هذا المنهج فى الاقتراب لحل مشاكل العراق سيقدر له الاستمرار والصمود. ففى المصطلحات السياسية الأمريكية الداخلية، أن ساعة الانتصار لم تتضح بعد. أن تأييد الشعب الأمريكى للحرب فى العراق لم ينتابه الوهن، ولا يزال الأمريكيون ملتفين حول الصفوة المختارة من قادتهم. وإن كانت استطلاعات الرأى المختلفة تشير إلى أن الكثير من الأمريكيين يتساءلون عن الكيفية التى تدير بها الإدارة الأمريكية الحرب فى العراق، ولكنه على عكس ما سبق أن حدث أثناء خفض الولايات المتحدة الحرب فى فيتنام لا توجد مظاهرات من جانب الشعب ضد الحرب أو عدم رضاء واسع النطاق. كما يؤيد الحزبان السياسيان الكبيران فى الولايات المتحدة جهود الحكومة فى هذا السبيل. إن الانتصار الساحق الذى أحرزه الرئيس بوش فى انتخابات الرئاسة فى نوفمبر 2004 كان دلالة كبيرة على أن الشعب الأمريكى يوافق على الأموال التى تنفق فى العراق. وطبقاً لمقاييس أخرى كثيرة فإن كلفة الحرب فى العراق وما بعدها صارت باهظة، فلقد لقى ما يزيد على 1400 جندى أمريكى حتفهم حتى الآن (زاد العدد فى منتصف أغسطس 2005 إلى 1850) وأن خسائر العراقيين فى الأرواح تزيد عن هذا العدد عشرات المرات على الأقل، حتى مع استثناء أولئك الذين يقتلون نتيجة الجرائم التى تقع فى الشوارع. أما الإنفاق المادى بالدولارات فإن الولايات المتحدة أنفقت 120 بليون دولار على الحرب والاحتلال فى العراق حتى الآن، ووصلت تكاليف الإبقاء على القوات فى العراق إلى 50 بليون دولار فى العام طبقاً للتقديرات الجارية. وفى أكتوبر 2004 اعتمدت ميزانية الطوارئ 80 بليون دولار إضافية للإنفاق على الحرب فى العراق وأفغانستان. أما بالنسبة للعسكرية الأمريكية- وبخاصة الجيش الأمريكى- فإن الضغوط عليها هائلة ولا يمكن استمرار تحملها بدون إحداث تغيرات جوهرية. فلقد قامت الولايات المتحدة بنشر ما يزيد عن 100.000 جندى فى العراق منذ نهاية أعمال القتال التقليدية مع قوات صدام حسين فى مايو 2003، ولقد ازداد الوجود العسكرى الأمريكى من 148.000 جندى إلى 150.000 جندى استعداداً للانتخابات ولزيادة الأمن. لذلك يحتدم الحديث حول أن استمرار هذا الحجم من انتشار القوات الأمريكية على المدى الطويل فى العراق، من الممكن أن يكون من شأنه تشتيت القوات، بما يؤثر سلباً على قدرة القوات الأمريكية ولاستعدادها للقيام بتنفيذ مهام أخرى. ذلك لأن استمرار انتشار القوات النظامية معظم الوقت فى مناطق على اتساع العراق يحرمها من التجمع فى مناطق تمركز للتدريب المكثف على القتال، ورفع كفاءتها القتالية فى المجالات المختلفة خاصة فيما يتعلق بالإلمام بالمعدات الجديدة ذات التقنيات المتقدمة. ولقد لجأت الولايات المتحدة إلى عدة طرق لتبقى على نفس العدد والحجم القائم من القوات، مثل استدعاء (الاحتياط ذو الجاهزية الفردية)، ومطالبة القوات بالبقاء فى أماكن انتشارها حتى بعد انتهاء فترة خدمتهم، كما أوقف قيام الأفراد بمهمات خارج العراق حتى تكون بأكملها جاهزة لمغادرة العراق. ومثل هذه الإجراءات مع الانتشار الطويل الأمد للقوات يشكل تحديات أمام استجابة الأفراد للتجنيد، والاستمرار فى الخدمة، خاصة فيما يتعلق بوحدات الحرس الوطنى والاحتياط. وتفوق الضغوط الواقعة على القوات بكثير ما تشير إليه الأرقام البسيطة. فاستمرار الاحتلال يحتاج إلى خليط من نوعيات القوات يختلف تماماً عما تتطلبه العمليات العسكرية التقليدية. فالفرق المدرعة- التى تشكل عصب الجيش الأمريكى- ليست مناسبة أبداً لمواجهة عمليات التمرد واقتلاع منظماتها من جذورها، بينما يندس المتمردون بين السكان، كما لا تصلح مثل هذه الفرق المدرعة لكسب ود السكان المحليين، على الرغم من أنهم يقومون حالياً بمثل هذه الأعمال. فى حين أن أنسب نوعيات القوات القادرة على التعامل فى المناطق المحتلة وفى أوساط السكان ولمواجهة المتمردين، هى قوات العمليات الخاصة، والمشاة الخفيفة، والشرطة العسكرية، وضباط الشئون المدنية، فهم غالباً الأقدر على النهوض بهذه المهام والمسئوليات والأكثر حاجة للمزيد منها بالنسبة لمواجهة الأعباء الواقعة على كاهل القوات الأمريكية فى العراق. كما تكثر الحاجة أيضاً إلى هذه النوعية من القوات فى أفغانستان، وفى جبهات أخرى لمكافحة تنظيمات (القاعدة)، إلا أن القوات الأمريكية تعانى نقصاً فى الإمداد بهذه النوعية من الوحدات. إن تكاليف كل هذا يفوق طاقة القوات الأمريكية فى العراق، لا سيما أن نظرة الرأى العام العالمى للولايات المتحدة تعتبر فى الدرك الأسفل، فقد شكل الاحتلال الأمريكى للعراق صورة الولايات المتحدة على أنها قوة طاغية معتدية تكرس نفسها لقتل المسلمين. حيث تدل استطلاعات الرأى العام التى أجريت فى مارس 2004 أن كثير من دول أوروبا الغربية تزدرى الولايات المتحدة، ويصل هذا الازدراء إلى أقصى مداه فى دول العالم الإسلامى. ذلك أن التقارير المصورة التى تبثها القنوات الفضائية العربية عبر الأقمار الصناعية بانتظام تشبه محاربة الجنود الأمريكيين للمتمردين فى المدن العراقية- مثل مدينة الفالوجا- بالجنود الإسرائيليين فى اعتداءاتهم على الفلسطينيين فى الضفة الغربية وقطاع غزة. ولذلك زاد التأييد فى العالم الإسلامى والعربى لفكر تنظيم القاعدة القائل بأن الولايات المتحدة هى السبب الرئيسى لمشاكل العالم الإسلامى. ويلقى أحد كبار ضباط الاستخبارات باللوم على الحرب التى شنتها الولايات المتحدة ضد الإرهاب، باعتبارها المسئولة عن هذه الكارثة، وفى ذلك يقول ستكون أمريكا فى نظر بن لادن، باعتبارها الحليف الذى لا يمكن الاستغناء عنه، (باعتبار أن الولايات المتحدة هى التى تعطى الذرائع لبن لادن لارتكاب أعماله الإرهابية). التصعيد: اللا خيار من الناحية النظرية، يعتبر التوسع الكبير للوجود الأمريكى فى العراق، هو الوسيلة التى ربما تكون قادرة على حل الكثير من المشاكل الجارية والمتعلقة بعمل القوات الأمريكية فى العراق. ويعلق السيناتور الأمريكى John Mc Cain على ذلك بقوله: إن الحقيقة البسيطة هى أنه ليس لدينا الحجم الكافى من القوات فى العراق لكى تحقق أهدافنا العسكرية. لذلك فإن تحسن الحالة الأمنية فى العراق سيكون مرهوناً بوجود أعداد أكبر من القوات الأمريكية هناك، وفى المقابل سيكون ذا فائدة كبيرة لها، لأن تحسن الحالة الأمنية سينعكس بالضرورة على هذه القوات لما سيتوقف عليه من تقليل خسائرها. إن تزويد العراق بحجم أكبر وأكبر من القوات الأمريكية سيجعلها قادرة على هزيمة المتمردين هزيمة ساحقة، أو على الأقل كبح جماحهم، كما سيؤدى ذلك إلى تنشيط القوات العراقية الملقى على عاتقها نشر الأمن فى البلاد. وفى المعارك المستقبلية- على غرار عملية الفالوجا التى جرت فى نوفمبر 2004، حيث أمكن للقوات الأمريكية أن تحتل المدينة بكفاءة عالية، وتقوم فى نفس الوقت بعمليات هجومية فى أماكن أخرى، ومما يجعل من الصعب على المتمردين أن يفلتوا بسهولة. وهذه القوات كبيرة الحجم قد تستطيع أيضاً أن تقوم بمهمة أفضل وهى الحفاظ على سيادة القانون والنظام فى العراق، وتساعد العراقيين على مواجهة شبح الجريمة. وهذا القسط الإضافى من الأمن بدوره سوف يجعل النشاط السياسى الخالى من الاضطرابات أكثر مصداقية، ويخيف الدول التى تسعى إلى التدخل فى العراق مثل إيران. إن قوة عسكرية أمريكية كبيرة الحجم سوف تظهر للمجاهدين الأجانب والعراقيين والعالم كله أن الولايات المتحدة قد عاهدت نفسها على أن تنهى بنجاح المهمة التى بدأتها فى العراق. إلا أنه على الجانب المقابل، سيكون للتوسع فى حجم القوات الأمريكية سلبيات، حيث سوف يزيد من ازدراء المجاهدين للوجود الأمريكى فى العراق، ويقلل من شرعية النظام الجديد هناك. وعلينا أن نتأكد أن زيادة حجم القوات الأمريكية سيشعل بلا شك غضب المجاهدين، كما أنه سيقلل من شرعية النظام من سئ إلى أسوأ. ومما يزيد القلق ذلك الربط بين تواجد الولايات المتحدة فى العراق وأسباب التمرد، لأن التوسع فى حجم القوات الأمريكية سوف يزيد من ادعاءات وحجية المتمردين بأنه ليس للولايات المتحدة أية نية لترك العراق، وبالتالى فإن استمرار وجودها سيزيد النار اشتعالاً. ومهما كان الأمر، فإن الحديث عن زيادة حجم القوات الأمريكية فى العراق يعتبر أمراً غير واقعى فليس فى الحسبان إجراء توسع فى حجم هذه القوات. ذلك لأن هزيمة المتمردين فى كل العراق وحراسة الحدود والسيطرة على الجريمة سيتطلب أعداداً هائلة من القوات الإضافية ربما يصل إلى ربع مليون جندى ( 250.000 جندى) أو ما يزيد على ذلك، وهو ببساطة ما ليس متاحاً. فكما ذكرنا آنفاً، أنه ليس من الواضح تماماً ما إذا كانت الولايات المتحدة لديها القوات للحفاظ على المستويات الحالية، ناهيك عن إرسال عشرات الآلاف من القوات الإضافية إلى العراق وحتى لو كان فى الإمكان الوفاء بهذه المتطلبات العسكرية التى تفوق الطاقة، فقد يصيب الشعب الأمريكى الوهن من استمرار مستوى العنف فى الوقت الذى ترتفع فيه نفقات الحرب كثيراً، ولا يمكن تبرير ذلك بسبب ارتفاع عجز الميزانية إلى مستويات كبيرة. إن تشكيل قوات أكبر عدداً سيكون مكلفاً كثيراً، بالنظر للنفقات طويلة الأمد للجنود النظاميين ذوى المرتبات المرتفعة وما يحصلون عليه من تعويضات، إلى جانب ارتفاع تكاليف التدريب والرعاية الصحية. أن تخصيص عدة بلايين إضافية من الدولارات يمكن أن يكون أمراً مقبولاً إذا ما كان العجز فى الميزانية منخفضاً. لذلك فإن مضاعفة تكاليف احتلال العراق سيتطلب اتخاذ إجراءات مؤلمة تتمثل إما فى تقليل الإنفاق أو فرض ضرائب إضافية وكلاهما أمران لا يلقيان التأييد السياسى. هذا بالإضافة إلى أن بناء أعداد كبيرة من القوات الجديدة سيحتاج إلى وقت للتجنيد والتدريب قد تصل إلى سنوات، وهو ما ليس بخيار للولايات المتحدة للبقاء فى العراق. أن عدم الواقعية فى خيار التصعيد المثير، إضافة إلى الصعوبة السياسية فى خيار زيادة حجم القوات طبقاً لما تتطلبه احتياجات مواجهة التمرد، هما بالطبع تركيبة ذات طابع سياسى. فخلال الحرب العالمية الثانية كان للولايات المتحدة 12 مليون جندى نظامى فى مقابل 3.5 مليون جندى خلال الحرب الفيتنامية، بالمقارنة لوجود أقل من 1.5 مليون جندى اليوم. وبالطبع فقد تضاعف عدد سكان الولايات المتحدة، بالإضافة إلى ذلك فإن الاقتصاد الهائل للولايات المتحدة يستطيع أن يتحمل نفقات أكثر على الحرب، خصوصاً إذا تنازل الأمريكيون طواعية عن تخفيض الضرائب التى حدثت منذ وقت قريب، أو قللوا من نفقاتهم الأخرى. ومع ذلك، ولأى سبب من الأسباب، فأن الرئيس الأمريكى لم يطلب من الأمريكيين أن يقوموا بهذه التضحيات، كما أنه لا توجد دلائل على أنه سيطلب ذلك. ولم يظهر حلفاء الولايات المتحدة أى تأييد لزيادة مساهماتهم فى الحرب بالعراق، فقد تخلت كل من أسبانيا والمجر وهولندا وبولندا ودول أخرى عن المشاركة فى مهمة العراق، أو أعلنوا أنهم بسبيلهم للرحيل من العراق قريباً. وحتى من الناحية النظرية فإن هذه الدول ليس لديها إلا القليل الذى تقدمه أكثر من الدعم السياسى بإضافة أسماء جديدة لقائمة الحلفاء. ولقد ازداد ما تعانيه دول أوروبية أخرى من إرهاق نتيجة التزاماتها، ففرنسا -على سبيل المثال- تجد صعوبة للإبقاء على قواتها بنفس الحجم القائم حالياً فى أفريقيا، كما أن ألمانيا تتوجع من نشر قواتها فى البلقان وأفغانستان. ورغم أنه بإمكان هاتين الدولتين تقديم تضحيات لتوسيع حجم قواتها أو تخفيض التزاماتها الأخرى، إلا أن عداء حكومتهما وشعبيهما للعملية فى العراق ورفضهما التدخل هناك، يجعل مشاركتهما فى العراق غير محتمل بدرجة كبيرة. حل وسط تصحيحى لمواجهة التمرد إذا لم يكن التصعيد الواسع ممكناً، ولا يمكن عمله بالمستوى الحالى من القوات، فإن أحد الحلول هو زيادة حجم قوات التحالف بنحو 30.000 جندى مع إجراء تغيير جذرى فى أساليب استخدامهم. فبدلاً من محاولة فرض سيطرة الشرطة على كل أنحاء العراق بقوات قليلة، فإن بمقدور الولايات المتحدة أن تركز انتشار قواتها على عدة مناطق مهمة. فعلى سبيل المثال، فقد دعا كل من Bathsheba Crocker, Frederick Barton إلى عزل مناطق السنة المضطربة التى يشتد فيها العنف بدلاً من محاولة تسيير دوريات فيها على فترات متقطعة، وفى المقابل طالباً بجعل بغداد مدينة أمنه مهما تكلف ذلك من ثمن.ولكى يسهل السيطرة على هذه المناطق وفرض الأمن عليها، وأيضاً مناطق أخرى، يتعين على القوات الأمريكية أن تنسحب من الفالوجا والمناطق التى يشتعل فيها العنف. ويمكن فى هذه الحالة استغلال التفوق الذى تنفرد به القوات الأمريكية فى مجال الاستطلاع والمراقبة والاستخبارات، والمصحوبة بغارات تقوم بها القوات الجوية، وأعمال إغارات قوية بالقوات البرية ضد مواقع المتمردين بهدف سحقهم أولا بأول ومنع تحول هذه المناطق إلى ملاذ أمنى كبير للمتمردين، على الرغم من الصعوبة الكبيرة لتحقيق ذلك. أما فى المناطق التى يسودها الاستقرار فإنه يمكن للقوات الأمريكية أن تختلط بالأهالى لنشر الأمن على المستوى المحلى، تساندها قوات سريعة التحرك بإمكانها أن تنشر بسرعة قوة نيرانية للرد إذا ما تعرضت القوات المحلية لهجوم من قبل المتمردين، وبقدر المستطاع ينبغى أن تعمل القوات الأمريكية بالاشتراك والتعاون مع قوات الأمن العراقية- وعندما يسود الاستقرار فى هذه المناطق، وتشترك قوات عراقية فى العمليات، سيكون بإمكان القوات الأمريكية أن توسع انتشارها وأعمالها خارج هذه المناطق إلى مناطق أخرى لتنشر فيها الاستقرار وتطوق وتحاصر الأماكن التى تسودها الاضطرابات حالياً فى العراق،