مع إنتشار فيروس كورونا التاجي الأصعب في تاريخ البشرية المعاصر تطرح الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية إعادة الاعتبار لمسؤولية ودور القطاع العام في النشاط الاقتصادي لاستعادة النهوض وتجاوز الركود الذي يشهده العالم ونحن جزء منه.
في ظل کل هذه الظروف الإستثنائیة لم تکن حکومة إقلیم كوردستان قادرة علی إخراج الإقتصاد الوطني في الإقلیم من إقتصاد قائم علی النفط والغاز الی إقتصاد نشط في القطاعات غير النفطية أو عدم الإرتكاز على النفط كمصدر وحيد للتنمية.
عندما استشرفت المتغيرات فى الخارطة الاقتصادية الدولية بعد هبوط أسعار النفط فى عام 2014 إلى مستويات غير مسبوقة وإنشغل الإقلیم في الحرب ضد داعش و بعد أن مرّ بمرحلة التهديد والحصار والعقاب الجماعي الممارس من قبل الحکومة المرکزية في بغداد و الضغوطات السياسية والإقتصادية من قبل دول الجوار بسبب الاستفتاء التاريخي حول استقلال إقليم كوردستان کان علی حکومة الإقلیم أن تقوم بتغيير سياساتها وتجديد أهدافها، وتعمل بجدية على وضع استيراتيجيات تنقل الإقلیم إلى مرحلة ما بعد النفط، بالاعتماد على تحسين الإنتاج وتعزيز القدرات البشرية والمالية والتكنولوجية، والاعتماد على العلم والمعرفة والابتكار، وتحول اقتصادياته من الاعتماد على سلعة واحدة، إلى التنوع، باعتبار ذلك خيارًا استراتيجياً وطريقاً إجبارياً، بما يجعلها بعيدة عن أية أزمات قد تنتج عن انهيار أسعار البترول أو ظهور بدائل أخرى للطاقة فى العالم، فالنفط سلعة قابلة للنضوب، فضلاً عن تقلب أسعاره والأخطار المتنوعة التى تهدد عمليات إنتاجه وتصديره.
لقد أعتمد الإقلیم بشكل أساسي علی موارد النفط الخام كإقتصاد إستخراجي ريعي وإنتهج سياسة الباب المفتوح أمام إستيراد بضائع إستهلاکية ذات نوعية هابطة وسلع زراعية تؤثر بشكل سلبي علی ضرورة التصنيع وتحديث الزراعة من أجل تنمية الدخل القومي.
في السابق أنتجت سياسة التدخل الحزبي في شؤون توظيف المنتسبين في القطاع العام عدم تطبيق فلسفة “الشخص المناسب في المكان المناسب”. أما في السنوات الماضية فلم نری سعي جاد من قبل القطاع الخاص نحو الإستثمار بشکل كبير في القطاعين الصناعي والزراعي وفي الخدمات الإنتاجية والدراسات الفنية والمهنية والبحث العلمي، رغم وضع حکومة الإقليم شکلياً الإهتمام بالصناعة والزراعة والسياحة من أولويات أجندة عملها، کإستراتيجية تنمية غير دقيقة الی حد ما.
أما فيما يخص البطالة المقنعة المكشوفة، المتراوح عددها تخمينياً بين %50 الی %60، فإن إقليم كوردستان لم يسعی في السابق حل هذه المعضلة الإقتصادية بوضع حلول وبرامج إقتصادية تقلل من بروز هذه الظاهرة، التي تستنزف الدخل القومي وخزينة الإقليم بشكل واضح.
إن تبني سياسة التقشف المالي بهدف معالجة العجز في الموازنة العامة وتخفيض معدلات التضخم أمر ضروري، وهي ترتبط بشكل مباشر بتخفيض النفقات العامة ذات الطابع الاجتماعي، مثل نفقات الدعم للسلع التموينية وتعيين الخريجين والتعليم والصحة ومحاولة تحصيل رسوم عن هذه الخدمات وهذه السياسة يجب أن يتضمن رفع أسعار خدمات المرافق العامة كالمياه والكهرباء وذلك من أجل زيادة الإيرادات العامة بالرغم من أن الخطوة الأخير سوف تضرّ بفئات واسعة من الشعب الكوردستاني، لأنه يقلل من الإنفاق الإستثماري والإستهلاکي ويؤدي بالنتيجة الی مزيد من البطالة ويقلل من حصة الفئات ذات الدخل المحدود من الحاجات الأساسية.
لابد في هذه الظروف الإقتصادية الصعبة من تقليص دور القطاع العام أيضاً وبيع بعض أجزائه الی القطاع الخاص، لان عملية الخصخصة هي جزء أصيل من برامج الإصلاح الاقتصادي، فهي تمثل تغييراً جذرياً للسياسات الاقتصادية من اجل المشاركة في تعبئة الموارد المحلية اللازمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
من الضروري السير نحو سياسة زيادة الطاقة الإنتاجية في الأمد الطويل في القطاع الخاص وإضعاف العوامل المعيقة لنشاط هذا القطاع وتشجيع الإستثمار الأجنبي الخاص والدعاية لە من خلال المزايا والإعفاءات والتيسيرات الضريبية والجمركية بالتزامن مع تطوير السياسات الضريبية وتوسيع الوعاء الضريبي، والحد من الإعفاءات الضريبية.
علی حکومة الإقليم السعي الجاد لتخفيف الاعباء التي تتحملها ميزانية حکومة الإقليم نتيجة استمرار دعمها للمشاريع والشركات التي اثبتت التجربة عدم جدواها اقتصادياً، وتوجيه الإنفاق العام نحو دعم البنى الاساسية والمنشآت الاقتصادية ذات الاهمية الاستراتيجية.
عليها أيضاً تمويل برامج العمل العامة لخلق فرص عمل للشباب وتعزيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتقديم الدعم المالي لها وتدريب وتأهيل الشباب للعمل في القطاع الخاص.
لابد للإصلاح أن يشمل القطاع المالي والمصرفي بهدف إيجاد انظمة مالية ومصرفية سليمة وتنافسية من اجل تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي والاسراع في وتيرة النمو الاقتصادي وتمكين الاقتصاد من التكيف مع الصدمات الخارجية.
لابد من تقدير العواقب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من جراء الإصلاحات الإقتصادية بصورة دقيقة لأن الوضع العام في الإقليم مازال مثقل باعباء ومخاطر سياسية وأمنية واقتصادية.
وختاماً علی حکومة الإقليم أن تتعامل وفق إستراتيجية مدروسة وذکية مع ثروة كوردستان لإستخدامها كأداة فاعلة من أجل توفير حياة أفضل لكل المواطنين الکوردستانيين، والعمل على تطوير مستدام ومستمر للاقتصاد من خلال 3 مبادئ أساسية هى الاستدامة والعدالة والتنافسية والتأکيد علی أهمية التوزيع المتوازن للتنمية على المحافظات بما يتناسب مع حجم واحتياجات كل محافظة، خاصة بعد تطبيق مشروع اللامرکزية الإدرایة، فالثروة كما يقال تأتي كالسلحفاة وتذهب كالغزال.