في حلهم وترحالهم وسلمهم وحربهم وسمرهم وخمرهم يبقى ديوانهم بلا منازع وإن اختلفت ميولهم وطباعهم لما لهذا الديوان من أثر في تأريخ العرب، حتى نال النصيب الأكبر في حفظ مفردات لسانهم، وقد عني به من قبل العلماء عناية لا مثيل لها قبل وبعد الكتابة، وكان لهذا الفن المنزلة الرفيعة بين القبائل كما كان للشعراء مكانة لا تقابلها مكانة، ويشهد لهذا الاحتفال الكبير الذي تنظمه القبيلة حين ولادة شاعر لهم لما للشاعر من أثر في إظهار قبيلته والرفع من شأنها بين القبائل.
وخير مثال على ذلك قبيلة بني أنف الناقة التي فقدت مكانتها بين القبائل، إلى أن ولد شاعرهم الذي استطاع انتزاع قبيلته ورفع شأنها بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب خلفهم……ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وقيل: غيرهم بدلاً من خلفهم ويساوي بدلاً من يسوي.
ومع كل هذا الرواج الذي ناله الشعر إلا أن البيان القرآني قد سحر أفصحهم لساناً، حتى أن الوليد بن المغيرة حين سمع النبي (ص) يتلو سورة غافر قال سمعت من محمد كلاماً لم أسمعه من قبل لا من إنس ولا من جن والله إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإن فيه لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه يعلو ولا يعلى. أي ولا يعلى عليه. وهذا لبيد بن ربيعة الذي يعد من كبار شعراء الجاهلية ومن أصحاب المعلقات وقد أدرك الإسلام إلا أنه رفض الطلب الذي أراده عمر بن الخطاب من أن يقول شيئاً من الشعر حتى قال ما كنت لأقول شعراً بعد إذ نزلت البقرة وآل عمران، علماً أنه صاحب واحدة من أروع المعلقات وقد قال في أولها:
عفت الديار محلها فمقامها……بمنىً تأبد غولها فرجامها
فمدافع الريان عري رسمها……خلقاً كما ضمن الوحي سلامها
ورغم اعترافهم بمنزلة القرآن الكريم إلا أنهم لم يهجروا الشعر بل كان المعين لهم على فهم غريب القرآن ومعضله وقد أصبح مرجعهم المعتمد في التفسير، وقصة نافع بن الأزرق مع ابن عباس لا يكاد يخلو منها مصنف في علوم القرآن، وكيف أن ابن عباس أجابه عن جميع أسئلته بشواهد شعرية وكان من بينها قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) المعارج 37. الذي قال فيه ابن عباس أما سمعت عبيد بن الأبرص يقول:
فجاؤوا يهرعون إليه حتى……يكونوا حول منبره عزينا
حتى وصل استشهاد ابن عباس في مئتين وخمسين موضعاً من القرآن وقد ذكر ذلك السيوطي في الإتقان جزء1 ص121.
ولو قمنا بركن الشعر جانباً لما عرفنا أن القرآن معجزاً في نظمه وفصاحته وبلاغته لأن أصحاب الذوق السليم هم الذين شهدوا بمنزلة القرآن وتفوق أسلوبه، ولذلك نال الشعر المكانة الرفيعة التي تعنى بتفسير القرآن الكريم. وما ذهب إليه الأديب طه حسين من أن شواهد الشعر في التفسير من وضع وانتحال الرواة أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين إلى آخر ما قال لا ينطبق على كل الشعر أو جميع المفسرين وإلا كيف يتفق المفسرون على نفس الشواهد في أغلب ما ذهبوا إليه.
واستعمال الشواهد الشعرية لا يقلل من منزلة القرآن الكريم بل على العكس من ذلك فإن التحدي لا يتحقق بين الأطراف المتقابلة إلا باستعمال نفس الأدوات، فالمكانة التي نالها القرآن بين أصحاب الفصاحة وأهل البلاغة كانت أهم أسبابها تتمثل في اللغة المشتركة بين القرآن وبينهم، أما إذا كانت حروف القرآن من نوع آخر فالقضية تكون سالبة بانتفاء محمولها.
والطريقة التي اعتمدها علماء التفسير في تتبع الشواهد الشعرية لا تعتمد على البحث عن معاني غريب القرآن فقط بل إمتدت تلك الطريقة إلى معرفة الكثير من القواعد التي كانت مألوفة لدى الشعراء وسيمر عليك خلال البحث المخصص لهذا المقال.
لذلك نجد أن بعض المصطلحات القرآنية لا يمكن حملها على بابها حيث أن ذلك لايناسب موضعها في السياق كقوله تعالى: (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً) الرعد 31.
ولو أردنا حمل اليأس في هذه الآية على بابه فلن نجد المعنى المراد منه لذلك بحث المفسرون في ديوان العرب حتى وجدوا أن اليأس في كلام العرب قد يأتي بمعنى العلم، كما قال الشاعر:
ألم ييأس الأقوام إني أنا ابنه……وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً.
يعني ألم يعلم الأقوام …… الخ، وبهذا يكون معنى الآية [أفلم يعلم الذين …… الخ].
وهناك نوع آخر من التفسير يُعنى بالرابط البديل لأداة العطف كقوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) البقرة 2. وهذه الآية أشارت إلى أن الكتاب لا ريب فيه وكذلك فيه هدىً للمتقين دون ذكر أداة العطف كقولنا [حامض حلو] ولم نقل حامض وحلو، وقد وجدت هذه القاعدة نفسها لدى الشعراء فهذا أحدهم يصف الذئب بقوله:
ينام باحدى مقلتيه ويتقي……بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم.
وأيضاً فإن التكرار الذي يتبعه القرآن لأجل الأهمية مدحاً أو ذماً قد وجد في الشعر العربي فقوله تعالى: (والسابقون السابقون) الواقعة 10. نجد له المثيل في أشعارهم، فهذا أبو النجم العجلي عندما أراد أن يظهر أهمية شعره قال:
أنا أبو النجم وشعري شعري……لله دري ما أجن صدري
تنام عيني وفؤادي يسري……مع العفاريت بأرض قفري
وكذلك فإن استعمال الكلمة في موضعها المناسب كان من المسلمات التي إهتم بها العرب، فكان من باب أولى أن يكون القرآن آخذاً بهذه القاعدة فمثلاً مصطلح [الكأس] أين ما ذكر في القرآن لا بد أن يكون للخمر وكذلك لايراد منه معنى القدح لأن العرب تستعمل مصطلح القدح لكل أنواع الشراب وفي جميع حالاته سواء كان فارغاً أو مملوءاً، فقوله تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً) الإنسان 5. وكذلك قوله: (يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم) الطور 23. ومنه قوله تعالى: (يسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً) الإنسان 17. فعند التأمل في هذه الآيات لا نجد ذكر لنوع الشراب الذي في الكأس لأن الكأس يتضمن معنى الخمر وهذا كقول عنترة:
إذا اشتغلت أهل البطالة في الكأس……أو اغتبقوها بين قس وشمأس
جعلت منامي تحت ظل عجاجة……وكأس مدامي قحف جمجمة الرأس
أما الصاحب بن عباد حين أشار إلى الإناء الفارغ من الخمر لم يصفه بالكأس لذلك قال:
رق الزجاج وراقت الخمر……فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح……وكأنما قدح ولا خمر
وكذلك عندما فرق القرآن الكريم بين القوم والنساء بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) الحجرات 11.
فإن هذا التفريق وجد على لسانهم كما قال زهير:
ولا أدري ولست أخال أدري……أقوم آل حصن أم نساء.
وهناك بعض القواعد القرآنية المهمة ومنها الكلمات التي تأخذ المعنى المضاد لوضعها كقوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها …… الآية) البقرة 26. فقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أن المراد من قوله تعالى: [فما فوقها] يعني فما دونها وذكر كل منهم أسباب ذلك وأهم ما قيل في هذا الباب إن الذي فوقها يكون في الصغر فلا بد أن يكون دونها، وهذا كثير في القرآن كقوله: (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق) ص 7. وأرادوا هنا الملة الأولى أي التي سبقتهم. وكذلك قوله: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف 79. وقوله: [وراءهم] يعني أمامهم. وكذلك قوله: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) طه 15. فقوله: [أكاد أخفيها] يعني أكاد أظهرها أي سأجعل لها علامات.
وهذا من الأبواب الكبيرة في القرآن الكريم، وقد كان من المتعارف عليه في كلامهم فهم يطلقون على اللديغ سليماً تيمناً له بالشفاء ويطلقون على الأعمى بصيراً وهكذا، لذلك أطلقوا على شاعرهم الأعشى [أبو بصير] وقد قال الأخير هذا مادحاً الرسول (ص) بقوله:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداً……وبت كما بات السليم مسهداً
وما ذاك من عشق النساء وإنما……تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا
وأراد بالسليم اللديغ، وهذا الاستعمال ما زلنا إلى اليوم نصطلح عليه في مستحدثات لغتنا، لذلك فإن المرأة التي تعمل في علاج المرضى تريد أن تزيل عنهم المرض لا أن تزيدهم مرضاً ونحن نطلق عليها ممرضة فتأمل.