دور الاحزاب في تعزيز العلمانية في كردستان العراق
كما في كل البلدان الاسلامية، يوجد في كردستان تيارات علمانية: تيار ماركسي متطرف شامل(=لائكي)، وتيار قومي ليبرالي معتدل(= جزئي)، ومن بين المذاهب العلمانية هناك: القوميون، والقوميون الاشتراكيون(=اليساريون)، والماركسيون.فالليراليىة هي فلسفة سياسية أو رأي سائد، تأسست على أفكار الثورة الفرنسية (الحرية والمساوة)، وتشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية، في حين أن المبدأ الثاني(المساواة) يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية؛ تبنى الليبراليون مجموعة واسعة من الآراء، تبعاً لفهمهم لهذين المبدأين، ولكن بصفة عامة يدعم الليبراليون أفكاراً مثل: حرية التعبير، حرية الصحافة، حرية الأديان، السوق الحر، الحقوق المدنية، المجتمعات الديمقراطية.
و تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع و يتم تحجيمها من خلال القوانين و التشريعات الخاصة بكل مجتمع حتى لا تتسبب في حدوث اي فوضى، فالليبرالية غير مرتبطة بالدين بقدر ماهي مرتبطة بمعنى الحرية، لإن تكون ملحداً او مسلماً او مسيحياً او يهودياً فهذا شأنك و سوف يحاسبك عليه ربك طالما انك لا تخرج عن حدود القوانين و التشريعات و تتدخل في حرية غيرك. فهناك مسيحي ليبرالي، او يهودي ليبرالي، أو مسلم ليبرالي كل وفقاً لعقيدته.
ومن جهة أخرى فإن العلمانية الشاملة أو الإيديولوجية بتعبير أحد الباحثين العراقيين، أشمل من العلمانية السياسية، لأن الأولى تقصي الدين تماماً، بينما الثانية السياسية أو الجزئية بتعبير الباحث المصري (المسيري) تحصر دور الدين، أي بعبارة أخرى كل في محله، الدين في المسجد والكنيسة …الخ، والدولة بكافة مرافقها للسياسيين، وأما الليبيرالية فلا تقصي الدين ولا تحصر دور الدين مثل العلمانية مادام الحريات الأربعة (الفردية، الفكرية، الاقتصادية، و السياسية) مكفولة.
دون شك فإن الاسلام بشقيه التقليدي والحركي، لا يقر مثل هذه المفاهيم لانها خرجت من المجتمع الاوروبي الذي يختلف عن المجتمع الاسلامي من جميع النواحي، لذا فإن هذه المفاهيم التي سادت الساحة الاوروبية بعد عصر النهضة والثورة الفرنسية؛ جاءت بفعل سيطرة الكنيسة والاقطاع على مقدرات الامور في اوروبا لمئات السنين، أما المجتمعات الاسلامية فلم تمر بهذه المرحلة، وإن كان بعض الباحثين يتنبأ بأن المجتمعات الاسلامية عاجلاً او آجلاً ستمر بها؟.
ساعد انتشار الأفكار الماركسية في كردستان في أوساط القوميين الشباب، منهم: ابراهيم أحمد المحامي، وحمزة عبدالله المحامي، وعبدالله كوران الشاعر في اثراء الوعي القومي الكردي في ما يتعلق بأسلوب حل المسألة القومية وأهمية التضامن الاممي بين الشعوب المضطهدة والخاضعة للاستعمار. في تلك الاجواء الجديدة، أُعيد النظر في الخطاب القومي الكردي بشأن طبيعة الاضطهاد القومي، بشقيه التقليدي والمتعلم، شخص الجيل القومي الشاب الاستعمار البريطاني وحليفه الطبقة السياسية العربية، بوصفها العدو الحقيقي للحركة القومية الكردية، وكذلك للامة العربية، أما الوسيلة الوحيدة لتحقيق آمال الشعبين في الوحدة والتطور، فهي التعايش السلمي بين الشعبين الكردي والعربي ونضالهما المشترك. هذا التوجه الثوري في الخطاب القومي الكردي الجديد جاء في المقام الاول نتيجة تجارب سابقة ونكسات مريرة مر بها الكرد منذ الحرب العالمية الاولى.
كان الشاب ابراهيم أحمد أول من اتخذ هذا النهج السياسي والفكري الجديد، وأصبح الناطق بأسمه في الحركة القومية الكردية، بعد أن أصدر كتيباً بعنوان (الأكراد والعرب) في عام1937م حينما كان طالباً في السنة الأخيرة من دراسته للقانون في كلية الحقوق العراقية في بغداد . هذا الكتيب تسبب في اعتقال مؤلفه ومصادرة مديرية الرقابة على المطبوعات لجميع نسخه من أكشاك بيع الكتب والمكتبات. أطلقت محكمة الجزاء سراح مؤلفه في عام1938م، بعد أن أجرت السلطات الامنية التحقيق معه.
قدم ابراهيم أحمد في كتيبه طرحاً مختلفاً عمن سبقه حول العلاقة الجدلية بين حرية الكرد وحرية العرب، إضافةً الى بثه مفاهيم جديدة تؤكد بأن لا عداوة (بين الشعوب)، و(اعتراف كل شعب لاخر بحقه في الاستقلال)، و(محاربة التعصب الاعمى)، و(تآخي العرب والكرد)، وهو الامر الذي يستلزم قيام كفاح مشترك بين القوى الديمقراطية العربية والكردية من أجل الحرية والديمقراطية والمساواة، وقد أحتلت أطروحته موقعاً أساسياً في برامج القوى السياسية الكردية منذ منتصف الاربعينات من القرن الماضي الى الوقت الحاضر.
وعلى أية حال يمكن عد الثلاثينات من القرن الماضي عقد الفكر اليساري في كردستان العراق، حيث انتشر هذا الفكر بين صفوف الشباب والمثقفين، ونفذ الى داخل الحركة القومية الكردية. ومن أبرز الماركسيين: حمزة عبدالله (= من أهالي جزيرة بوتان في الأصل ، سكن زاخو) الذي شارك في تأسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني لاحقاً.
أولاً: القوميون: يعد الحزب الديمقراطي الكردستاني(= البارتي) من أكبر الأحزاب القومية والليبرالية الكردية ليس في كردستان العراق، بل في جميع الاجزاء الاخرى، تأسس في 16آب/اغسطس عام 1946م، من تجمع عدة أحزاب وتيارات سياسية مختلفة، رزكاري(= التحرر) ذي الميول القومية اليسارية، وشورش(=الثورة) ذي الميول الماركسية، وبقايا حزب هيوا(=الأمل) بشقيه اليميني واليساري، وجمعية زياني كورد ذات التوجه القومي اليساري المعتدل، وحضر الاجتماع ابراهيم أحمد (محامي) كمثل عن جمعية زياني كورد( انبعاث كردستان)، التي كانت بالاصل فرعاً وممثلاً للحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني في مدينة السليمانية، ولكنه انسحب من الاجتماع بناء على دعوة أعضاء المؤتمر، وتم خلاله انتخاب الملا مصطفى البارزاني رئيساً للحزب،(= كان لاجئاً في جمهورية مهاباد في ايران)، ولطيف بن الشيخ محمود الحفيد (نائباً أول للرئيس)، وكاكه محمد زياد غفوري اغا (نائباً ثانياً للرئيس)، وحمزة عبدالله(= محام) سكرتيراً للجنة المركزية، كما أصدر الحزب جريدة لتكون لسان حاله هي رزكاري(= الحرية).
يلاحظ أن رئاسة الحزب عكست رغبة الملا مصطفى البارزاني في توحيد الزعامات التقليدية في بهدينان وسوران في قيادة واحدة ولأول مرة، فضلاً عن طبقة المثقفين. في المقابل شكل الماركسيون أغلبية أعضاء المكتب السياسي للحزب، باستثناء رشيد باجلان وطه محي الدين معروف.وبتعبير آخر كانت قيادة الحزب خليطة من مختلف التوجهات الفكرية ( الماركسية والليبرالية والمحافظة).
وقد تبلور منذ بدايات التأسيس البارتي ثلاث تيارات رئيسية داخل صفوف البارتي هي:
أ – تيار محافظ يقوده الملا مصطفى البارزاني رئيس الحزب وقائده المؤسس
ب – تيار يساري (ماركسي) ويتمثل بالاعضاء السابقين في حزب شورش بقيادة صالح الحيدري
وهناك خلاف في الحقيقة بين ما ذكره السيد جلال الطالباني، وما تطرق إليه القيادي الشيوعي (صالح الحيدري) في مذكراتهما بشأن انسحاب كوادر حزب شورش الماركسية من البارتي رداً على دخول شخصيات عشائرية متنفذة في قيادة الحزب أمثال: شيخ لطيف شيخ محمود الحفيد، وكاكه محمد زياد غفوري آغا، حيث يقول السيد الطالباني بهذا الخصوص:” ومع أن كوادر حزب شورش أيدوا تأسيس البارتي، على أن يكون حزبا ديمقراطيا ثوريا شعبيا، وإشترطوا أن يكون تحت قيادة شخصيات ماركسية لينينية. وحين عاد حمزة عبدالله (كسكرتير عام للحزب) رفض هذا الشرط، ورسخ بدلا عن ذلك نظرية يمينية متطرفة بإعتبار أن المجتمع الكردي هو بالأساس مجتمع عشائري وأن القوة الرئيسية فيه هي القوة العشائرية، وكان يرى بأنه يفترض بنا أن نتمسك بالقيادة العشائرية للثورة وللحركة التحررية للشعب”.
بعدها ينتقد الطالباني وجهة نظر الماركسي حمزة عبدالله بالقول :” بأن هذا التوجه الخاطيء أدى الى إنشقاق جناح مؤثر(= انشقاق 1964م)، وللأسف رغم أن صالح الحيدري يجافي الحقيقة في سرده وقائع تلك الفترة، فالحقيقة هي ما نقلته أنا في كتابي على لسانه. فالحيدري يدعي بأنه لم يؤيد إنشقاق الشيوعيين، وأنهم جميعا كانوا على رأي مفاده بأن ينضوي الكل تحت ظل حزب ديمقراطي ثوري، وكان هذا التوجه وليد التاُثر بالنظرية الستالينية. فستالين أشار في خطاب له بجامعة كادحي الشرق الى أن الماركسية اللينينية في الدول النامية تعمل بإتجاهين، الدول التي نمت فيها البروليتارية وخاضت النضال كطبقة واحدة وتتمتع بسماتها الخاصة (الهند نموذجا) يجب أن يكون هناك حزب شيوعي. أما الدول التي يوجد فيها البروليتاريا ولكنها لم تصل الى مرحلة النمو كطبقة موحدة وليست لها تجارب سياسية أو نقابية، فمن الممكن أن يعملا كجناحين منفصلين داخل الحزب وأورد مثل الجمهورية الصينية في تلك الفترة. وفيما يتعلق بالدول التي لم تنم فيها الطبقة العمالية ولم تستطع أن تكون موحدة ولها سمات خاصة بها، فمن الأفضل أن يكون للماركسيين اللينيين فيها حزب ديمقراطي ثوري(= على غرار البارتي)”.
وبتطبيق النظرية الستالينية على كردستان العراق يذكر الطالباني:”وعلى هذا الأساس وبحسب ستالين فإن ثلاثة أحزاب يمكن أن تكون في الطليعة، أولها حزب شيوعي في الدول الرأسمالية، وثانيا حزب شيوعي عمالي في الدول المتقدمة بالعالم الثالث، والثالث حزب ديمقراطي ثوري في الدول المتخلفة، وكانت نظرية الحزب الديمقراطي الثوري هو المصدر والأساس الفكري والآيديولوجي لتأسيس البارتي”.
ج – تيار المثقفين القوميين، ويقف على رأسه المحامي إبراهيم أحمد الذي سرعان ما التحق بالبارتي في شهر حزيران من عام1947م ليصبح مسؤول فرعه في السليمانية، وهذا التيار ينحو نحو اليسار، أي محاولة تحقيق الاماني القومية الكردية، فضلاً عن اجراء اصلاحات اجتماعية واقتصادية، لدعم الطبقات الكادحة في المجتمع الكردي التي كانت تستغل من رؤوساء العشائر والطبقات البرجوازية المتنفذة في المدن.